كان العشاء في منزل آل ترامب بمثابة شأن ذي تسلسل هرمي. يجلس الأب فريد ترامب على رأس الطاولة، وعلى يمينه يجلس ابنه دونالد، وتجلس ابنته ماريان على اليسار. بينما يشغل أفراد الأسرة الآخرون أماكنهم في مقاعد الطاولة من الأقرب للأب وصولاً إلى الأبعد، استناداً إلى أهميتهم المسندة إليهم.
ولكن في أحد أعياد الشكر، وجد الابن الأكبر فريد ترامب جونيور أنه هبط إلى أدنى مكان في الطاولة مع ابنته ماري. تتذكر ماري ترامب ذلك وتقول لصحيفة The Guardian البريطانية: "خلال الوجبة، اختنقت جدتي. كان أبي سائق إسعاف متطوعاً في الستينيات والسبعينيات، لذا كان يعرف مناورة هايمليخ، لذا نقلها إلى المطبخ بلطف ونفذ معها مناورة هايمليخ، وأنقذها ذلك في الأساس من الاختناق". وتتابع: "لم يتحرك أحد غيره. الجميع واصلوا تناول الطعام. كان شيئاً أخرق ومحرجاً نوعاً ما أن جام [وهو اسم الجدة] كانت تختنق. وعندما عادا، كان الأمر حرفياً كما لو أن أبي أخرج القمامة من المنزل: "أحسنت صنعاً فريدي". لم يستطع أن يفعل شيئاً في تلك المرحلة ليحظى بأي احترام أو أن يُسند إليه أي فضل، حتى لو كان هذا إنقاذ أمهم".
"عائلة مختلة"
لا يمكن استيعاب دونالد ترامب بدون استيعاب "عائلته المختلة بشكل خبيث"، وذلك حسبما قالت ماري، التي تعد أول فرد من أفراد هذه الأسرة ينشر سيرة ذاتية عن ترامب ويشكك في ملاءمته لشَغل منصب الرئيس. بيعت مليون نسخة من كتابها Too Much and Never Enough: How My Family Created the World's Most Dangerous Man في اليوم الأول من نشر الكتاب خلال الأسبوع الماضي، بعد محاولة فاشلة اضطلع بها الأخ الأصغر لرئيس الولايات المتحدة، روبرت ترامب، من أجل منع نشره عن طريق المحكمة.
ويُمثّل الكتاب تصويراً مُريعاً من قلب مساعي عائلة بيضاء في الضواحي للحلم الأمريكي بكل جشع. فحين تحدّثنا إلى ماري (55 عاماً) عبر الهاتف من كيب كود في ولاية ماساتشوستس، وصفت لنا كيف حوّل جدها "السيكوباتي" ترامب إلى الرجل الذي هو عليه اليوم، وتحدّثت عن عبء حمل اسم ترامب، وحذّرت من احتمالية ترشّح أبناء الرئيس لمناصب سياسية.
"غطرسة وتسلّط"
ويُؤدّي فريد ترامب دور الشرير في هذه القصة. إذ كان ابن نيويورك القاسي المُدمن على العمل ينام نحو أربع ساعات فقط في المساء، ولا يُحرّكه سوى المال. وكتبت ماري إنّه لم يُظهر اهتماماً كبيراً بأطفاله الخمسة، باستثناء إعداد وريثٍ من بينهم لتجارته العقارية. وبعد أن أقصى ابنه الأكبر فريدي؛ استقر رأيه على دونالد لأنّ "غطرسة وتسلّط" الابن الثاني -واستعداده للكذب والغش- هي الصفات التي يتطلّبها المنصب.
وتقول ماري عن جدها: "لو التقيتم به، ستعتقدون أنّه مرحٌ وإيجابي، ولكنّه شخصٌ مرعب وغير مُريح في الوقت ذاته. ولا أجد أدنى مشكلة في وصفه بالسيكوباتي. إذ لم تكُن لديه مشاعرٌ إنسانية حقيقية، وكان يتعامل مع أطفاله بتمييزٍ وازدراء".
ولا يتطلّب الأمر خيالاً واسعاً لتصوير عذاب عشاء العائلة في وجود حفنة المغرورين المتصارعين حول المائدة. وقالت ماري، خلال المقابلات مع وسائل الإعلام لترويج كتابها، إنّ استخدام اللغة العنصرية والمعادية للسامية كان شائعاً في العائلة. كما أشارت إلى أنّ عائلة ترامب كانت تعيش داخل ضاحيةٍ بكوينز في نيويورك لم يقطنها سوى ذوي البشرة البيضاء فقط حينها.
وماري مقتنعةٌ أنّ عمها عنصري. فهل يُمكنه وصفه بالفاشي أو العنصري المؤمن بتفوّق البيض؟ تقول ماري: "لا أعتقد أنّ لديه أيّ أيديولوجية سياسية. فالأمر يُلائمه تماماً. ويُمكنني القول إنّه يتصرف مثل عنصري مؤمن بتفوّق البيض دون شك. ولكنّه يتصرّف بدافعٍ من عنصريته الشخصية. وهو يأتي أفعالاً عنصرية تُعرّض حياة الأشخاص من ذوي البشرة المُلوّنة في بلادنا للخطر. وهذا أمرٌ أكثر أهمية، لذا لا يُهِم إن كان يصف نفسه بالعنصري المؤمن بتفوّق البيض، لأنّه يتصرّف على هذا النحو بالفعل".
ترامب ابن أبيه
في عام 2016، نشرت مجلة Nation الأمريكية مقالاً بعنوان: "هل سبق أن رأيتم دونالد ترامب يضحك Have You Ever Seen Donald Trump Laugh?". وأشار المقال إلى أنّ أحداً لم يسبق له رؤية ترامب يضحك. فماذا عن ماري، الأخصائية النفسية المعتمدة؟ تقول ماري: "لا، ولم يكُن جدّي يضحك أيضاً. لأنّك تتخلّى عن حذرك حين تضحك، وهذا أمرٌ يُثير الاستياء في العائلة".
ويزعم كتابها أنّ ترامب دفع المال لشخصٍ مُقابل تأدية امتحان القبول في الجامعة نيابةً عنه، لكن البيت الأبيض نفى ذلك. بينما عمل فريدي لفترةٍ قصيرة في تجارة العائلة ولكنّه كان يمقتها، فاستقال ليصير طياراً مدنياً. ومات وحيداً في المستشفى وهو في الـ42 من عمره بعد صراعٍ مع إدمان الكحول، الذي يجري في دماء العائلة.
هل يسير أبناء ترامب على خطاه؟
ويجد ترامب نفسه الآن في دور البطريرك. إذ كان هو أيضاً والداً ضعيف الارتباط بأطفاله ولم يُشارك مثلاً في تغيير حفاضاتهم، لكنّه شجّعهم على الانضمام لإمبراطورية العائلة العقارية. وصار أبناؤه، دونالد جونيور وإريك، من أشرس رجال حملته. بينما تشغل ابنته الكبرى إيفانكا منصب مستشارة كبيرة في البيت الأبيض.
كما وُصِف دونالد جونيور وإيفانكا بأنهما مرشحين محتملين للرئاسة مستقبلاً، بالمزاح أحياناً وبكل جدية في أحيانٍ أخرى. وحين وصلنا بالحديث إلى هذه النقطة، قالت ماري: "في حال حدوث ذلك، فسيكون أمراً خاطئاً دون شك. فكلاهما غير مُؤهّل. وإيفانكا هي الوحيدة التي تعمل لصالح الحكومة عملياً، وهي ليست مُؤهّلة لتصير مساعدة، ناهيك عن الترشح لمنصبٍ سياسي".
وفي الواقع، ربما تكون مسألة نرجسية ترامب أقل إثارة مقارنةً بما يقوله صعوده السياسي عن الولايات المتحدة. إذ سلط صعوده ضوءاً ساطعاً على الانقسامات، وعدم المساواة، وانعدام الشعور بالأمان، والحزبية السلبية، والاضطرابات العصبية، والأحكام المُسبقة في أمريكا-علاوةً على المدى الذي يُمكن أن يبلغه البعض من أجل الوصول إلى السلطة.
إذ تقول ماري: "هذا أمرٌ لم أتوقّعه. ومن أكثر أسباب شعوري بالانهيار نتيجة ما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 أنّني كُنت أعلم أنّه شخصية غير لائقة وقاسية وتفتقر إلى الكفاءة بشكلٍ قاطع، لكنّني لم أتوقّع أنّ كافة الجمهوريين سيُمكّنونه من نيل مساعيه بهذه الدرجة".
أكاذيب ترامب
كما كانت ماري شاهدةً على أكاذيب ترامب، ومبالغاته، ومهارته في المبيعات عن قرب. فحين التقت زوجته ميلانيا للمرة الأولى، سأل ترامب ابنة أخيه: "لقد تركتِ الكلية، أليس كذلك؟"، ثم أضاف لاحقاً: "كان الأمر عصيباً جداً لبعض الوقت، ثم بدأت في تعاطي المخدرات".
وتقول ماري إنها لم يسبق لها تعاطي المخدرات في حياتها، لكن ترامب يستمتع برواية قصص قديمة مسلية: "إنّها مُجرّد لعبة لفرض سيطرته. هو يعلم أنّه يكذب. ويعلم أنّني أعلم أنّه يكذب. ولكنّه يستمتع بفعل هذا الأمر". وهذا خير دليل على موقف ترامب حين قال: "لا تدعو الحقائق تعوق طريق رواية قصةٍ جيدة"، وهو الموقف الذي يسعى به إلى توريط الجمهور ووسائل الإعلام معه.
وصوّتت ماري لصالح هيلاري كلينتون في عام 2016، وللسيناتورة إليزابيث وارن في الانتخابات الديمقراطية التمهيدية لعام 2020، لكنّها تقف الآن بالكامل خلف المرشح جو بايدن في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني. وقالت: "سأفعل كل ما بوسعي لمساعدته على الفوز بالانتخابات". وحين سُئِلَت إن كانت ستقبل دعوة للحديث في المؤتمر الوطني الديمقراطي الشهر المقبل؛ أجابت ببساطة: "سيُشرّفني ذلك".
ويحظى بايدن حالياً بتقدّمٍ ملحوظ في استطلاعات الرأي، ولكن ماذا لو أُعيد انتخاب ترامب رغم كل شيء؟ تقول ماري: "أجد صعوبةً في تخيّل ذلك، ولكن أعتقد أنّه يُمكنني القول بكل بساطة ووضوح إنّ حدوثه سيُمثّل نهاية التجربة الأمريكية في وجهة نظري. أصابني الانهيار بسبب حقيقة أنّ الناس كانوا جاهزين لفعل ذلك قبل أربع سنوات، ولكنّني عاجزةٌ عن تخيّل أنّ أيّ شخص سيعتقد أنّ الاستمرار على نفس المسار الآن يُعَدُّ فكرةً جيدة".
وتحدّثت ماري إلى الرئيس آخر مرة خلال حفل عيد ميلاد عمتها في البيت الأبيض خلال شهر أبريل/نيسان من عام 2017، ولا ترغب في تكرار التجربة. وفي عام 2018، ساعدت مراسلي صحيفة New York Times الأمريكية سراً في تحقيقٍ يكشف كيف تهرب ترامب وإخوته من سداد ضرائب بملايين الدولارات.
وحين سُئِلَت إن كانت تحب عمها، أجابت دون تردُّد: "لا، لا أُحبه. كنت أشعر بالتعاطف معه في الماضي، حقاً. ولكن الأمر صار مستحيلاً حين بدأت أعلم بأمر الأشياء التي فعلها وما كان يفعله منذ العشرين من يناير/كانون الثاني عام 2017".
وكتاب ماري لوصف متاهة ترامب النفسية يُعَدُّ خير دليلٍ على الفكرة القائلة إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد. وإن كنا جميعاً نتاج ظروفنا، فهل يستحق ترامب بعض الشفقة؟ أجابت ماري بكل إصرار: "لا، لا يستحقها. وأتفهّم تماماً مشاعر الشفقة والتعاطف مع طفلٍ عانى بشدة؛ ولكنّ ذلك لن يكون مُبرّراً لسلوكه. إذ إنّه إنسانٌ بالغ يُدرك الفرق بين الصواب والخطأ، حتى وإن كان يعتقد أنّ القواعد لا تنطبق عليه. وهو يُدرك ما يفعله، ومن أسباب موقفنا الحالي أنّه لم تسبق محاسباته على أي خطأ من قبل. ولهذا السبب تزداد تجاوزاته فظاعةً بمرور الوقت، لذا يجب أن يُحاسب".