مع تصاعُد انتصارات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً خلال الأشهر الماضية، نجحت تركيا التي هبَّت لإنقاذ الحكومة الشرعية في عكس نتائج الحملة العسكرية التي شنَّتها قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومرتزقته متعددو الجنسيات، إذ تسيطر قوات الوفاق المدعومة من تركيا بقوة على غربي ليبيا، وتأمل في انتزاع السيطرة على الهلال النفطي الاستراتيجي في الدولة، وهي مجموعة مدن ساحلية ومنشآت نفطية تقع بين العاصمة طرابلس ومدينة بنغازي الشرقية.
وإذا نجحت حكومة الوفاق بذلك فستكون قد أمَّنت لنفسها موقفاً قوياً راسخاً، وستتمكن أنقرة من جني جزءٍ من ثمار هذا الفوز الجيواستراتيجي كما يقول خبراء، وهو الأمر الذي لا تريده كل من الإمارات ومصر وفرنسا، الداعمين الرئيسيين للجنرال حفتر، ومن خلفها بكل تأكيد إسرائيل، التي ترى في التواجد التركي في ليبيا "خطراً كبيراً" عليها يجب مواجهته في أسرع وقت ممكن، فكيف ذلك؟
كيف تنظر إسرائيل للتدخل التركي في ليبيا؟
في ورقة بحثية إسرائيلية نُشرت مؤخراً، قال البروفيسور الإسرائيلي أفرايم عنبار، رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، إن تواجد تركيا في ليبيا أمر خطير بالنسبة لإسرائيل، التي يجب عليها أن تدخل في جهد مشترك القوى الأخرى لمواجهة الطموح التركي، وتشرح في واشنطن مخاطر سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على شواطئ البحر المتوسط.
وأضاف عنبار، أن الدوائر الإسرائيلية تتابع تدخل تركيا عسكرياً في الحرب الدائرة في ليبيا لصالح حكومة طرابلس، ذات التوجهات الإسلامية، وهذه الحكومة تقاتل الجنرال خليفة حفتر، الذي يمثل الأجزاء الشرقية من ليبيا، ويتمتع بدعم مصر والإمارات العربية المتحدة وروسيا وفرنسا. وتريد تركيا عزل حفتر وقطع قدم حلفائه، وتركه خارج العملية الدبلوماسية لإنهاء الحرب الأهلية، وبالتالي تحويل ليبيا إلى حليف تركي جديد، وهو ما تخشاه إسرائيل.
ويحذر الباحث الإسرائيلي من أن تعزيز التواجد التركي هناك سيفسد الخطط والطموحات الإسرائيلية حول ثروات شرق المتوسط، وكذلك الاتفاقات التي عقدتها مع الدول الساحلية الأخرى، مثل اليونان وقبرص ومصر.
وزعم عنبار، المؤسس السابق لمعهد بيغن-السادات للأبحاث الاستراتيجية، وعضو هيئة التدريس بجامعات بار-إيلان وجورج تاون وبوسطن، أنه "على المدى البعيد، ترى إسرائيل أن تركيا تهتم بتعزيز هيمنة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، التي ستُعزّز التوجه الإسلامي للبلاد، وتسمح لتركيا، ذات الأجندة العثمانية والإسلامية، بتوظيف موارد ليبيا لأغراضها، ويضمن لها اتفاقية المياه الاقتصادية في منطقة البحر المتوسط الموقّعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بين حكومتي أنقرة وطرابلس، مشيراً إلى أن هذه الاتفاقية تشكل عقبة أمام خطة مصر وإسرائيل واليونان وقبرص لتصدير الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، وهكذا تريد تركيا -التي تعتبر نفسها جسراً للطاقة إلى الغرب- تجنب طرق الإمداد البديلة التي لا تمر عبر أراضيها".
التأثير على مستقبل النظام المصري الحليف لإسرائيل
ويرى الكاتب الإسرائيلي أن "النفوذ التركي المتزايد في ليبيا سيزيد من مكانتها في بقعة أخرى قريبة من حدود إسرائيل تسمى قطاع غزة، وهو كيان إسلامي آخر على طول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط المتاخم لإسرائيل ومصر، وهذا التأثير التركي الأكبر في ليبيا وغزة يصب مزيداً من الزيت على نار الغضب المصري، التي تقع بين هذين الكيانين، وباتت ترى نفسها منافسة يومية لتركيا في أكثر من منطقة في الشرق الأوسط".
وأضاف عنبار أن "المعطيات المتوفرة في إسرائيل تفيد بأن الصراع في ليبيا قد يؤثر على مستقبل مصر، أهم دولة عربية، وتدعم قوات حفتر بسبب خوفها الكبير من قيام دولة إسلامية في الغرب في ظل حكومة الوفاق الوطني، أما في الشرق فتعاني مصر بالفعل من الجماعات المسلحة في سيناء، وقد هدد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأن المزيد من التقدم العسكري من قبل حكومة طرابلس سيؤدي لرد عسكري مصري".
مشيراً إلى أن "تل أبيب لديها أسباب وجيهة للقلق بشأن ما يحدث في ليبيا، وتقاعس الولايات المتحدة، ما يزيد فقط من جرأة أردوغان وكراهيته المعروفة لإسرائيل، لأن القاعدة البحرية التركية في ليبيا تشكل خطراً على الطرق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، حيث يمر فيه 90% من التجارة الدولية لإسرائيل".
مضيفاً أن "تحويل ليبيا إلى محمية تركية أمر خطير لدول غرب البحر الأبيض المتوسط ومصر، التي يمثل استقرارها حجر الزاوية للنظام الإقليمي الحالي، ويجعل من إمكانية تحويل ليبيا قاعدة لتوسيع النفوذ الإسلامي أمراً ينذر بالخطر في إسرائيل".
كيف ستواجه إسرائيل هذا "الخطر التركي"؟
من جهته، يرى البروفيسور عيران ليرمان، نائب رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن في إسرائيل، أنه إذا تصاعدت الصراعات في شرق البحر الأبيض المتوسط إلى درجة التدهور نحو صراع عسكري، فلن تتمكن إسرائيل من المشاركة بشكل مباشر في القتال. ومع ذلك "يمكنها أن تساعد في تعزيز التعاون الاستخباراتي، والاتفاقيات الأمنية، وممارسة التأثير الدبلوماسي في صناعة القرار في واشنطن، وهو الأمر الذي قد يحدّ من مستوى التطلعات التركية في ليبيا"، حسب تعبيره.
ويرى ليرمان أنه "على الرغم من أن اليونان قد أبدت استعدادها للتفاوض مؤخراً ودون شروط مسبقة مع تركيا بشأن ترسيم حدود المياه الاقتصادية، ليس لدى أردوغان أي سبب للتنازل في هذه المرحلة، وخاصة بعد الإنجازات العسكرية لحكومة الوفاق بغرب ليبيا، كما تتمتع حكومة فايز سراج في طرابلس الآن بالقدرة على تنفيذ الاتفاقية مع تركيا، دون أي تدخل أو تخريب خارجي، ما لم يقلب التدخل العسكري المصري المحتمل الأمور على عكس ما تطمح إليه طرابلس".
ويقول الدبلوماسي والسفير الإسرائيلي السابق، إن تحذير السيسي بشأن "الخط الأحمر" في وسط ليبيا يخلق -على الأقل نظرياً- احتمال حدوث صدام أمامي بين مصر وتركيا، وإن اليونان ستدعم بشكل كامل التحركات السياسية المصرية في ليبيا، ولكن من المشكوك فيه أنها ستكون قادرة على التدخل في مواجهة عسكرية مباشرة، وكذلك إسرائيل.
وبحسب ليرمان، فإنه يجب استمرار التنسيق مع فرنسا باستمرار في تحركاتها المناهضة للسياسات التركية في شرق المتوسط، لكنه يقرّ أن الدور الفرنسي داخل الناتو لا تزال قدرته في التأثير على مسار الأحداث محدودة.
إلى أي مدى تستطيع إسرائيل دعم مصر واليونان في مواجهة تركيا؟
يقول ليرمان، إذا تصاعد الصراع في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة القادمة، فلن تتمكن إسرائيل من المشاركة بشكل مباشر في القتال، لا إلى جانب اليونان ولا إلى جانب مصر في ليبيا. يجب أن يكون هذا واضح للجميع مقدماً. لكن هذا لا يعني أن إسرائيل ليس لها دور في ميزان القوى. هناك عدد من المجالات، حيث يمكنها أن تقف جنباً إلى جنب مع اليونان ومصر وشركائها الآخرين في EMGF (منتدى غاز شرق المتوسط).
ففي البعد الاستخباراتي، فإن الواقع المتغير في شرق المتوسط يتطلب رفع مستوى التعاون الاستخباراتي لدى الجيش الإسرائيلي، مع كل من اليونان ومصر، وهذا عنصر أساسي في الاستعداد الصحيح للتحدي الذي تفرضه تركيا.
وفي جوانب التعاون الأمني، يجب التركيز على تمارين القوات الجوية والبحرية وأكثر من ذلك، بالاشتراك مع القوات الأمريكية، بالإضافة إلى قضايا المشتريات والبحث والتطوير العسكري، ويجب تعزيز نشاط البحرية الإسرائيلية على أي حال في مواجهة التسلح البحري التركي.
وفي الساحة الدبلوماسية، يمكن أن تكون مواقف إدارة ترامب، من جهة، والمشرعون الأمريكيون في الكونغرس من جهة أخرى، "نقطة أرخميدس" من شأنها أن تحدث تغييراً في السلوك التركي في ليبيا، وتحدّ من تطلعات أردوغان الخطيرة في المنطقة، على حد وصفه.