أحياناً ما تحايل الطبيب مراد ديلمنر على قواعد المستشفى الذي عمل فيه في إسطنبول ليضمن حصول المرضى من غير التابعين للتأمين الصحي على العلاج الذي يحتاجونه. كثيراً ما استقبل هذا الطبيب الأتراك الفقراء مجاناً في عيادته الخاصة وأقنع مرضاه الميسورين بتمويل منحٍ طبية دراسية للطلاب.
ألهم إحسان وتعاطف ديلمنر الصحف التركية أن تلقّبه "روبن هود مهنة الطب" وأكسب الأستاذ الجامعي والطبيب الممارس إعجاب الآلاف من المرضى والطلاب. لكنَّ هذه الصفات سبَّبت له المشاكل أيضاً، حسبما ورد في تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
كورونا يقضي على الطبيب مراد ديلمنر
مات ديلمنر متأثراً بإصابته بمرض COVID-19 يوم 3 مايو/أيار.
تعتقد أسرته أنَّ المرض المُعدي الذي أصيب به الأخصائي البالغ من العمر 78 عاماً قد انتقل إليه وهو يعتني بأحد المرضى الذين لم يكن باستطاعته ردّ حاجتهم. وكان بين الفريق الطبي الذي عالج ديلمنر تلامذة سابقون حطَّمهم أنه لم يكن باستطاعتهم إنقاذ حياته.
وقال هالوك إراكسوي، وهو المساعد الأسبق للطبيب ديلمنر والرئيس الحالي لقسم الأمراض المعدية في المستشفى الذي عمل به معلّمه الراحل: "كان يعمل على جبهة القتال ضدَّ الأمراض المُعدية، لكن توفّي أخيراً جراء إصابته بعدوى. كانت ذلك واقعاً مسبباً للاضطراب بالنسبة لنا".
لكن لم يكن سهلاً الحذو على خطى روبن هود بسماعةٍ طبية لا قوس وسهم.
خضع للمحاكمة لأنه يعالج المرضى الفقراء
في عام 2004، وُضِع ديلمنر وأطباء آخرون تحت التحقيق على خلفية مزاعم تقضي بتسبُّبهم بخسائر مالية لمستشفى كلية الطب بإسطنبول لمعالجتهم مرضى بشكلٍ غير قانوني، إذ لم يكن هؤلاء المرضى تابعين للضمان الاجتماعي بما يغطي تكلفة العلاج، ولا كانت بحوزتهم شهاداتٌ تثبت عوزهم المادي، ما كان يلزم تقديمه للحصول على العلاج وقتها.
أُلزِم ديلمنر بدفع 500 ألف ليرة تركية (ما يساوي 73 ألف دولار أمريكي) تعويضاً عن تجاوزاته، وهو مبلغٌ ضخم بالنسبة لأي عائلةٍ تركية في ذاك الوقت. استمرَّت القضية في مداولاتٍ لمدة عشر سنواتٍ حتى حُكِم بالاستئناف لصالحه.
وفي عام 2006 اقتبست صحيفة حريات التركية على لسان ديلمنر قوله إنَّ المرضى المُشار لهم في تلك القضية كانوا "في حالةٍ ميؤوسٌ منها لدرجة أنَّنا عالجنا بعضهم مجاناً، اتّباعاً لقسم أبقراط الذي أخذناه على أنفسنا".
كان هذا وقتاً عصيباً على عائلة ديلمنر. يتذكَّر أصغر أطفاله الثلاثة، كانر ديلمنر البالغ من العمر 32 عاماً الآن، كيف سأل والدته كيف سيتدبَّرون المبلغ اللازم دفعه للمستشفى. أما والده، وقد كان رجلاً قليل الكلام، فقد ظلَّ هادئاً.
كان الطبيب ديلمنر مقتنعاً بأنَّه على حق ودافع عن قراراته في جلسات المحاكمة. بل إنَّه، على حد قول ابنه كانر، كان منزعجاً أنَّ إجراءات قضية التعويض كانت تشغل وقتاً ثميناً بإمكانه الاستفاده منه "على نحوٍ فعال" في علاج المرضى.
ولكن ها هي تركيا تطبق ما دعا إليه
وبعد مرور عدة سنوات، شعر ديلمنر أنَّه قد بُرِّئ أخيراً عندما قوَّمت تركيا نظام الرعاية الصحية بالبلاد، كي تقدّم الرعاية والتغطية الصحية الشاملة للكل، ما دعا له ديلمنر بحماسٍ في مهنته.
تقاعد ديلمنر عن العمل في المستشفيات عام 2008 لكنَّه استمر في علاج المرضى بعيادته الخاصة. تعتقد أسرته أنَّه أُصيب بفيروس كورونا يوم 16 مارس/آذار الفائت، وهو يومٌ كان قد انتوى ألَّا يذهب إلى العيادة فيه لولا أن أخبره مساعده أنَّ ثلاثة مرضى قد حجزوا مواعيد يومها.
ظهرت على أحد هؤلاء المرضى الثلاثة أعراض مرض COVID-19. وبعد أن حُجِز ديلمنر في المستشفى بالمرض، جاءت تحاليل ابنه وزوجته عن 48 عاماً، لاله، إيجابية لفيروس كورونا أيضاً. تعافى الابن والزوجة، بينما قضى ديلمنر 36 يوماً على جهازٍ للتنفس الصناعي ثم مات.
وقال كانر: "لم يرفض والدي استقبال أي مريضٍ طوال حياته. لن تجد شخصاً واحداً يقول أي كلمةٍ سيئة عنه. أحبُّه طلَّابه. وأحبَّه مرضاه. وأحبَّته عائلته بشدة".
قديس في مجتمعه الصغير
وُلِد ديلمنر عام 1941 في مدينة ماردين، قرب الحدود التركية الجنوبية مع سوريا. وكان ديلمنر فرداً من طائفة المسيحية السيريانية المحدودة في تركيا، والتي تمتدُّ جذورها عبر أجزاءٍ من سوريا، والعراق، وتركيا. التقى هوَ ولالِه، وهي مسيحية سيريانية من حلب، عام 1969 في جنازة الأسقف السيرياني الأرثوذوكسي لمدينة ماردين.
ظلَّ ديلمنر ملتزماً بانتمائه لمجتمعه وكان يزور مدينة ماردين باستمرارٍ رغم خوفه من الطيران. استقبل ديلمنر المرضى من أمثاله المسيحيين السيريانيين في عيادةٍ مؤقتة كان جهّزها في فيلا والديه المطلَّه على سهول منطقة بلاد الرافدين.
تطلَّع كثيرون من أفراد المجتمع السيرياني إلى ديلمنر، الذي وجد نفسه يفضُّ النزاعات ويًصلِح الزواجات المفكَّكة في دورٍ غير رسمي بصفته كبير المجتمع. وكما تذكَّر إراكسوي، مساعده الأسبق، فقد اعتبر قاطنو مدينة ماردين ديلمنر كما لو كان "قديساً" لهم.
وقال إراكسوي إنَّ الأمر لم يكن يختلف كثيراً في مدينة إسطنبول، حيث اصطفَّت طوابير من المرضى خارج عيادة ديلمنر وكان الطبيب مشغولاً لدرجة أنَّه "لم يكن يجد خمس دقائق لتبادل أطراف الحديث".
سيتولى إدارة عيادة الطبيب الراحل أحد تلامذته السابقين.
وقال إراكسوي: "لقد علَّمنا كيف نكون بشراً".
أردوغان يكرم "هاوس تركيا"
شبَّه كانر ديلمنر والده الراحل بشخصية الطبيب غريغوري هاوس، بطل المسلسل التليفزيوني الأمريكي "House" الذي يشخّص الحالات الطبية العسيرة.
وقال كانر: "قد كان هو بمثابة دكتور هاوس في تركيا، إذ كان يشخّص حالاتٍ ليس بوسع غيره تشخيصها. لم يلقِ بالاً أبداً للمال ودائماً ما كان يساعد المعوزين. سمَّاه الناس "روبن هود" أو "طبيب الفقراء"".
ورغم المتاعب القانونية التي تعرَّض لها ديلمنر في حياته جرَّاء نشاطه الإنساني، إلَّا أنَّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان افتتح الشهر الفائت مستشفى الطبيب مراد ديلمنر للطوارئ تخليداً لذكرى الطبيب الذي قال إنَّه "رجلٌ طيّب القلب استمرّ بخدمة الآخرين حتى لفظ آخر أنفاسه".
وقال أردوغان: "كان الأستاذ ديلمنر رجلاً استقبل كل مريضٍ أتاه، مقدماً له كل الوسائل الممكنة لعلاجه وبكل إخلاصٍ ممكن".
تمنَّى كانر لو استطاع والده أن يحضر مراسم تخليد ذكراه.
وقال: "أنا على يقينٍ بأنَّه كان يرانا من السماء ويبتسم. أحبَّ والدي بلاده، وأحبّ خدمتها".