أثار البيان الذي نُشر على أنه بيان من أعضاء في مجلس النواب الليبي من دعوة الجيش المصري للتدخل في ليبيا لحفظ الأمن القومي الليبي والمصري موجة من الاستنكار من السياسيين والبرلمانيين والنشطاء في الغرب الليبي. ويأتي هذا البيان في سياق الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أنه سيسلّح القبائل الليبية لمواجهة تركيا إذا تعدت ما سمّاه الخط الأحمر وهي منطقتي سرت والجفرة.
في المقابل فإن المتحدث باسم الجيش الليبي (التابع لحكومة الوفاق) كان واضحاً بأنه قد آن الأوان للدخول إلى سرت والجفرة، وتحرير كل الموانئ النفطية، الحليف التركي لحكومة الوفاق على لسان وزير الخارجية التركية كان واضحاً بقوله إن الحوار لن يبدأ إلا بعد تحرير سرت والجفرة.
تركيا في أكثر من موضع تتحدث عن عودة النفط للإنتاج بطرق سلمية في سياق يؤكد أن مفاوضات تجري بهذا الخصوص، وهذا يؤكده تصريحات للخارجية الأمريكية عن رغبتها في استبعاد الموانئ النفطية عن الصراع العسكري الأمر الذي يعني طرد مرتزقة "فاغنر" الروسية من الموانئ النفطية. الرئيس التركي والرئيس الأمريكي أجريا مكالمة هاتفية أكدا فيها تعاونهما من أجل استقرار ليبيا، كما أن وفداً أمريكياً زار حفتر، وبين له أن سيعزل دولياً إن لم يكن هناك عودة لإنتاج النفط في ليبيا وخروج قوات فاغنر من ليبيا. فأين هي مصر وإعلان السيسي عن الدخول في ليبيا من هذا السياق؟
الأمن القومي المصري
في ظل المتغيرات الهائلة التي يشهدها العالم تبدو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كنموذج مصغر لهذه المتغيرات، فإن منطقة شرق المتوسط تحولت إلى بؤرة صراع جديدة، كما أن إسرائيل وجدت لها شركاء جدد من دول الخليج يجعلها تستغني عن الدور المصري الذي تجذَّر عبر حروب ومفاوضات سلام طويلة مع الكيان الذي احتل فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية. في هذا الإطار يراد لمصر أن تولي وجهها شطر شمال إفريقيا لتلحق بالمجال الإفريقي كنقطة ارتكاز لأمنها القومي هذا ظاهر في قضايا سد النهضة وقضايا الغاز في شرق المتوسط وكذلك الأزمة الليبية.
في كل هذه الأزمات يبدو سلوك النظام المصري، كما تبين بعض الدراسات عن سلوك النظم السياسية التي جاءت بانقلاب عسكري، يبحث عن تثبيت شرعيته لا كدولة تريد تحقيقها أمنها الاستراتيجي فيما يتعلق بالنمو السكاني وتوفير متطلبات هذا النمو اقتصادياً وبيئياً. هذا يجعل الحديث عن تدخل عسكري في ليبيا هو شأن سياسي يتعلق بنظام الرئيس السيسي وبحثه عن تثبت هذا الحكم الذي لا يزال يعاني من أزمة شرعية داخلية تؤثر في سلوكه وقراراته.
هذا يجعل الخلاف المصري التركي حول ليبيا لم يكن بحثاً عن الأمن القومي المصري والتخوف من تواجد تركي في ليبيا، بل هو جزء من بناء شراكات مع دول خليجية كان لها الفضل في بقاء هذا النظام في السلطة مثل النظام الإماراتي، وإلا فإن مصلحة القاهرة هي في التقارب مع تركيا في ملف شرق المتوسط الذي سيوفر لمصر أكثر من 10.000 ميل بحري في شرق المتوسط، كما أن التوافق مع تركيا لتصدير الغاز من إسرائيل ومصر عبر تركيا قد يقلب المعادلة استراتيجياً ويعطي لمصر قوة استراتيجية هائلة تستغني بها عن دول الخليج؛ وكذلك التقارب مع حكومة الوفاق قد يضمن مصالح مصر في ليبيا كالعمالة المصرية التي تقدر بالملايين، والتبادل التجاري مع مصر الذي هبط عام 2019 إلى 540.5 مليون دولار مقارنة بـ633.4 مليون دولار عام 2018، وقبل ذلك الحدود الطويلة مع ليبيا والتي تنذر بهجرات ونزوح لا يحتملها النظام المصري في وضعه الاقتصادي والسياسي الحالي.
لذا فينبغي عند الحديث عن الأمن القومي المصري التفريق بين أمن النظام وأمن الدولة المصرية والأخير ينبع من القوة الاستراتيجية لمصر، والذي هو نتاج لاستقرار داخلي ونمو اقتصادي داخلي ومكانة تخدم الأمن القومي للدولة، كل ذلك غائب في سياسات النظام المصري والذي يعاني من إشكالات حقيقة مع إثيوبيا وقضية سد النهضة، وأيضاً شرق المتوسط الذي لم يستطع النظام المصري فيه بناء استراتيجية واضحة فهو لم يوقِّع على اتفاقية بحرية مع اليونان. كل ذلك يبدو غائباً عن النظام المصري ولا تجد سوى "تيه" استراتيجي ولم تتشكل سوى رؤية واحدة وهي غزو ليبيا بتبرير من مجلس النواب.
شرعية التدخل في ليبيا
بعد صدور البيان المنسوب لمجلس النواب الليبي والذي يدعو فيه الجيش المصري للدخول إلى ليبيا بحجة تضرر القومي الليبي أو المصري قام أحد نواب رئيس مجلس النواب في طرابلس النائب جلال الشويهدي بالاتصال ببعض الأعضاء في المنطقة الشرقية الذي أنكروا تماماً أنه عقدت أي جلسة أو عرض عليهم هذا البيان. ورغم أنه لم يتبق مع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب السابق (قبل أن يستبدل بالسيد حمودة سيالة في انتخابات معلنة في جلسة رسمية بلغت النصاب) سوى 35 عضواً لم يبلغوا النصاب ولم يعرف أنهم اجتمعوا أو عرض ذلك في وسائل الإعلام.
البيان الذي صدر من مجلس النواب لا يمثل أي شرعية حقيقة على ما يبدو فهو من الناحية القانونية باطل وعده بعض أعضاء مجلس النواب في طرابلس بأنه انتحال غير ذي صفة وهي جريمة يعاقب عليها القانون. في هذا السياق تشير المعلومات إلى صعوبات تواجه السيسي في إقناع القبائل باللقاء في مصر من أجل البدء في عمليات التدريب.
لم يجد النظام المصري أي شرعية محلية ليبية أو قبول دولي للتدخل في ليبيا فإن تصريحاته عن وجود خطوط حمراء في ليبيا أهمل دوليًا والمسار صار واضحاً بضرورة وجود حل سياسي بعد خروج المرتزقة من الموانئ النفطية، كما في قرارات الاتحاد الأوروبي والمكالمة التي جرت بين الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اللذين اتفقا على ضرورة العمل على ضمان الاستقرار في ليبيا.
وعلى ما يبدو فإن مصر لا تشكل وزناً استراتيجياً في الأزمة الليبية، فالتصريحات التي تدلي بها الدول الكبرى لا تذكر المبادرة المصرية من قريب أو بعيد كما أن محاولات استفزاز تركيا في ليبيا لم يزد الأخيرة سوى التواجد بقوة من خلال الفارق في الوزن الاستراتيجي بين مصر وتركيا، ففي لقاء حلف الناتو لم تنجح فرنسا في معاقبة تركيا، ولم يتبعها في ذلك سوى 8 دول من أصل 30 دولة، كما أن الاتحاد الأوروبي يكرر في أكثر من موضع أن العلاقات الأوروبية التركية هي الأهم في دول الشرق الأوسط.
الموقف التركي أقوى من الموقف المصري لأنه يأتي ضمن قرارات مجلس الأمن في ضرورة دعم حكومة الوفاق، ويبدو أن تنسيقاً بين تركيا والولايات المتحدة في المسار الليبي، كما أن تركيا توافقت مع إيطاليا في أغلب الملفات التي تعني إيطاليا في ليبيا وهناك معلومات عن تنسيق عسكري بين الطرفين بعلم أمريكي.
واقعية التدخل وإمكانياته
لكن يبقى سؤال مهم في هذا السياق يهمله كثير من الباحثين والمحللين الليبيين، وهو إمكانية التدخل المصري الفعلي في ليبيا، هل هذا ممكن؟ وهل هو واقعي وقد نرى أنفسنا أمام آلاف الجنود المصريين مدججين بالسلاح يجوبون الصحراء الليبية إلى سرت وتسيطر مصر على مجموعة من القواعد العسكرية في الشرق الليبي… هل هذا سيناريو وارد، أم أن هناك احتمالات أخرى يمكن أن تحدث؟
في الواقع يمكن تصور ثلاث سيناريوهات لهذا الأمر:
سيناريو الحرب الباردة:
وهو يعني أن تظل تركيا وروسيا في حرب باردة في ليبيا، وتشترك مصر في هذه الحرب عبر التهديدات المستمرة بالتدخل دون أن تكون هناك حرب فعلية بين هذه الأطراف. هذا ظاهر من الأحداث بأن مصر ومنذ حديث الرئيس المصري عن تدخل في ليبيا لم يكن هناك أي إعداد فعلي لهذا التدخل كما فعلت روسيا بانتشار الفاغنر أو حكومة الوفاق ومعها الحليف التركي بتكملة كافة التجهيزات حول سرت. لذا بالنظر لجدية كل الأطراف تبدو مصر غير جادة أمام الحشد الروسي وحشد قوات حكومة الوفاق. وهذا يتماشي مع نظرة كثير من المحللين الليبيين بأن الرئيس المصري إنما يستهلك الأزمة الليبية في الداخل المصري ويحاول أن إظهار السيطرة المصرية على عقيلة صالح وخليفة حفتر وأنه هو البوابة لإذعانهم للمنطق الدولي والنداء الوطني.
التدخل المحدود
يستند هذا السيناريو إلى قيام القوات المصرية بإعلان التدخل العسكري وتحشد لذلك بعض القبائل دون أن تصل إلى مستويات مرتفعة من حيث عدد الجنود والمعدات. وهذا في الواقع قد حصل منذ عام 2014 فلا ننسى أن المسافة من السلوم إلى سرت هي واقعة تحت سيطرة حفتر وميليشياته، هناك بعض المناطق بالطبع لا تبالي بحفتر لكنها لا تملك القدرة على مجابهة أي قوات تدخل تحت عباءة حفتر وعقيله صالح. وهذا سيحقق للنظام المصري عدة مصالح منها مصالح داخلية وقد يتخلص من بعض الشخصيات في الحاشية العسكرية التابعة له من خلال إرسالهم إلى ليبيا وقد يطلب بعض المساعدات من دولة الإمارات وأن يحاول أن يستغل ذلك في تثبيت سلطانه محلياً.
التدخل ضمن تحالف مشترك
وهو من الممكن كذلك أن يقوم النظام المصري بإرسال بعض القوات لمساعدة قوات فاغنر وتوفير الدعم في بعض المناطق في الشرق الليبي لضمان وجود مضادات ودفاعات جوية الهدف منها هو ردع قوات الوفاق من التقدم للشرق الليبي، وسيصبح المشهد رهين بسلوك قوات الوفاق والحليف التركي ضمن التفاهمات التي ستجري مع قوات حلف الناتو. هنا لن تحدث معركة كبرى لأن الهدف هو الردع وليس الهجوم ولكن لن يكون لمصر موقف قوي في أي تفاهمات إذا ما كانت روسيا هي التي تقود المعارك لأن قوتها الاستراتيجية لا تقارن بروسيا أو تركيا فليست مصر منخرطة في أي من الملفات الدولية كملف سوريا أو ملف الغاز والتصدير لأوروبا كما أن حجم صادراتها لهذه الدول لا يكاد يذكر.
التدخل الشامل
وهو الذي يخشاه كثير من المحللين المصريين، لكن هذا التدخل الشامل لن يواجه بأي قوة في الشرق الليبي إلا من خلال بعض الرافضين لهذا التدخل، وستكون هناك حرب عصابات لكنها ستكون مرهقة ومكلفة خاصة أن عليه يقطع مسافة أكثر من 1400 كيلومتر وأن يتجهز لحملات دولية تنكر عليه هذا الفعل، وسيعاقب دولياً لأنه تدخل غير شرعي. النظام المصري لا يحتمل مزيد من الضغط فإن لديه عديد الملفات الساخنة التي قد تقوّض حكمه القائم أصلاً على أسطورة الجيش القوى فأي خسارة تعني الكثير.
المتابع للأحداث قد يرى أن السيناريو الأول -إن حدث هذا التدخل- أي تدخل محدود يحقق به مجموعة مصالح داخلية وخارجية ويضمن لنفسه كلمة في أي مفاوضات قائمة. في كل الأحوال سيقضى الأمر في ليبيا دون انتظار مصر لأنها كما ذكرنا لا تملك ورقة في المفاوضات مع الدولة المتدخلة في ليبيا لا قوة اقتصادية ولا سياسية، وسيكون عليها أن تظل ضمن حلف فرنسا وروسيا دون أن تكون لها استراتيجيتها الخاصة، فالنظم المستبدة يصعب عليها تكوين قوة استراتيجية خارجية، خاصة إذا ارتكزت على شرعية ملؤها الشك والريب.