تنعكس إخفاقات الولايات المتحدة وبريطانيا في التعامل مع فيروس كورونا المستجد جلياً عند مقارنتها بالنجاحات التي حققتها دولٌ أخرى. إذ أشار بنكاج ميشرا، في مقال لمجلة The London Review of Books ينتقد التعامل الأمريكي-الإنجليزي مع الجائحة، إلى أنَّ كوريا الجنوبية استحدثت أكشاك فحص سريع للكشف عن الفيروس في جميع أنحاء الدولة، واستخدمت سجلات بطاقات الائتمان وبيانات المواقع من الهواتف المحمولة لتعقب تحركات المصابين -وهو التكتيك الذي فشلت بريطانيا في إتقانه بعد أشهر من المحاولات، وأضاف المقال: "كان أداء دول أخرى في شرق آسيا، مثل تايوان وسنغافورة، أفضل أيضاً بكثير. أما فيتنام فسيطرت سريعاً على الفيروس".
أضف إلى ذلك أنَّ الصين، برغم حوكمتها المثيرة للجدل وسلوكها خلال الجائحة، نجحت في كبح انتشار الفيروس. وعلى النقيض، لا يزال الرئيس ترامب لم ينجح في تسطيح منحنى موجة التفشي الأولى الذي يرتفع في الدولة. وربما تمثل المعاناة الأمريكية منعطفاً تاريخياً: وهي اللحظة التي اضطرت فيها أبرز قوى العالم للتنازل عن رؤية معينة إزاء هيمنتها بعدما نجحت دول أخرى -وبالأخص بعض القوى الناشئة في آسيا- في قيادة الطريق للسيطرة على الجائحة، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وكتب ميشرا: "لقد كشفت جائحة كوفيد-19 أنَّ أعظم ديمقراطيات العالم هي ضحايا لممارسات طويلة من إيذاء النفس"، وقد أثبتت أيضاً أنَّ الدول ذات القدرات الحكومية القوية كانت أنجح بكثير في وقف انتشار الفيروس وتبدو أفضل جاهزية للتعامل مع التداعيات الاجتماعية والاقتصادية له".
ويزعم بعض المحللين أنَّ هذا الافتقار إلى القدرات الحكومية كان في طور الصنع منذ فترة طويلة. إذ كتب إدوارد لوس من صحيفة The Financial Times: "إنَّ استجابة أمريكا وبريطانيا الضعيفة لكوفيد-19 يمكن إرجاعها جزئياً إلى تهنئة هاتين الدولتين لنفسيهما بعد الحرب الباردة بأنه لا يوجد الكثير مما يمكن تعلمه من بقية العالم. لكن خلال بضعة أشهر قصيرة، فضح ميكروب الوجه القبيح للغطرسة الأنجلو-أمريكية".
هل حان وقت القرن الآسيوي؟
منذ أواخر القرن العشرين -الذي لقبه مؤسس مجلة Time بـ"القرن الأمريكي"- ترددت أحاديث أنَّ القرن الحادي والعشرين يمكن اعتباره القرن الآسيوي. وتطلب الأمر العديد من الصدمات الجيوسياسية لكي تتحقق رؤية القرن "الأمريكي"، بما في ذلك الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية. لذا يمكن اعتبار الجائحة هزة تاريخية أخرى للنظام العالمي، تعيد تشكيل طريقة تفكيرنا في مسار الشؤون العالمية.
ولا يتعلق ذلك فحسب بتدهور نفوذ الولايات المتحدة ولا الانقسامات والاختلال الوظيفي الذي تعاني منه. بل منذ سنوات، أصبح صانعو السياسة في الولايات المتحدة يدركون تحول مركز الثقل الجيوسياسي باتجاه الشرق، وسعوا إلى "إعادة توجيه" اهتماماتهم الاستراتيجية نحو منطقة تفتخر بأنها تضم غالبية سكان العالم وقريباً أكبر حصة من إنتاجه الاقتصادي. لكن الآن، بدلاً من تحديد شروط "باكس أمريكانا" -أو السلام الأمريكي الذي يشير إلى السلام بين قوى العالم عقب الحرب العالمية الثانية- في نصف الكرة الغربي، وجدوا أنفسهم يتأقلمون مع الحقائق الجديدة المُصاغة في مكان آخر.
لكن في عصر فيروس كورونا المستجد، أصبحت الدراما الآسيوية دراما عالمية. إذ بشَّرت المواجهة القاتلة بين القوات الهندية والصينية في جبال الهيمالايا بظهور خط صدع جديد في القرن الحادي والعشرين يفصل بين قوتين نوويتين. وقد حشدت التهديدات الوجودية التي تواجه المجتمعات الحرة في هونغ كونغ وتايوان الدعم من جميع أنحاء الغرب. أضف إلى ذلك، أنَّ المداولات المتعثرة في أوروبا حول مستقبلها السياسي لم يعد من الممكن إجراؤها من دون النظر إلى الشرق الأقصى.
تجربة الصين في التصدي لكورونا
ويتعلق الكثير من هذا، بالطبع، بالصين، التي نخصها بالذكر بسبب إجراءاتها الحازمة والعدوانية المتزايدة في الداخل والخارج. واختارت إدارة ترامب المواجهة، وشنَّت حرباً تجارية مع بكين، لكنها أثارت قلق الحلفاء التقليديين في آسيا. إذ نوه روبرت كابلان في صحيفة The Washington Post بأنه "للمرة الأولى منذ زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين في عام 1972، تصبح العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين معادية وغير متوقعة، ومع ذلك تقدم واشنطن لأصدقائها في المنطقة تأكيدات أقل من أي وقت مضى منذ الحرب الكورية قبل 70 عاماً".
ويصر المسؤولون الصينيون على أنَّ مثل هذا التنافس غير ضروري. وفي محاولة لتخفيف التوترات مع واشنطن، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي في خطاب يوم الخميس، 9 يوليو/تموز: "لا ينبغي النظر إلى العالم من خلال فكر النظام الثنائي، ولا ينبغي أن تؤدي الاختلافات في الأنظمة إلى لعبة محصلتها صفر. فالصين لن تكون ولا تستطيع أن تكون ولايات متحدة أخرى".
بيد أنَّ التنافس بين البلدين لا يمكن إنكاره ويلقي بظلاله على بقية دول آسيا. ففي مقال أخير، استشهد رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ بحديث شهير في عام 1988 بين الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ ورئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي، وقيل إنَّ الأول أخبر الثاني: "في السنوات الأخيرة، اعتاد الناس قول إنَّ القرن القادم سيكون قرن آسيا والمحيط الهادئ، كما لو أنَّ الأمر سيتحقق حتماً. أنا اختلف مع هذا الرأي".
واتفق لي مع دنغ على أنه "لا يوجد شيء مؤكد ولا محتوم" حول "القرن الآسيوي"، محذراً في 2020 من مخاطر توسع سيطرة الصينيين. وقد تكون فكرة الوحدة الآسيوية التي أشار إليها دنغ قبل عقود قليلة صارت إلى الهلاك بالفعل.
وكتب المعلق الهندي رجا موهان: "في مفارقة مؤسفة، ربما أدى الصعود الفريد للصين إلى خلق الظروف نفسها لانهيار القرن الآسيوي. إذ أصبحت الصين أقوى بكثير من جميع جيرانها الآسيويين مما يعني أنَّ بكين لم تعد ترى الحاجة للتشجيع على الوحدة الآسيوية. وبينما تسعى إلى تجاوز الولايات المتحدة وإظهار صدارتها في العالم، فليس من المستغرب أن يتحول تصور بكين إلى بناء قرن صيني (وليس آسيوي)".