تتضارب المعلومات والتقارير حول خلفية الانفجارات الغامضة التي تعرّضت لها منشآت إيرانية مؤخراً، يعمل بعضها ضمن برنامج تخصيب اليورانيوم للبلاد، فيما تشير تقديرات استخباراتية أنّ الانفجار الذي وقع في منشأة "نطنز" بمحافظة أصفهان -وهي منشأة مخصصة لإنتاج أجهزة طرد مركزي متطورة، يمكنها تخصيب اليورانيوم بمستوى يصلح لإنتاج قنبلة نووية- قد تؤخر البرنامج النووي الإيراني لأشهر وربما لسنوات.
وقدَّر الباحث المخضرم وأحد أعضاء معهد واشنطن لأبحاث الشرق الأوسط سايمون هندرسون، أن "هناك نوعاً من الحرب النووية قد بدأ في الشرق الأوسط"، منوهاً أن "أشخاصاً كثرين قدروا أن إسرائيل هي التي وقفت خلف الانفجار الذي وقع في منشأة أجهزة الطرد المركزي في "نطنز" الخميس الماضي".
ومن هذا المدخل، نطرح في هذه المادة حكاية المشروع النووي الإيراني الذي قد يشعل حرباً جديدة في المنطقة، فكيف بدأ؟ ومَن موّله؟ وما أبرز المحطات التاريخية التي مرّ بها على مدار أكثر من 60 عاماً؟
المشروع الذي ساعد الأمريكيون إيرانَ في إطلاقه
بدأت حكاية هذا المشروع المثير للجدل في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث تم إطلاق برنامج إيران النووي الطموح حينها في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، بمساعدة من الولايات المتحدة، كجزء من برنامجها الذي شمل دولاً أخرى غير إيران، والذي عُرف باسم "الذرة من أجل السلام".
وحينها، شاركت الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية الغربية في البرنامج النووي الإيراني، ووهبت واشنطن طهران مفاعلاً للأبحاث تم الانتهاء من تشييده وتشغيله في جامعة طهران عام 1967. كما عرضت واشنطن على طهران بناء ما بين خمسة وسبعة مفاعلات كهرونووية، لكن الكلفة العالية للمفاعلات الأمريكية جعلت الشاه يفضل عرض الشركة الألمانية "كرافتورك يونيون سيمنس"، فكلَّفها بالبدء في بناء مفاعلين كهرونوويين في مدينة بوشهر جنوبي البلاد، وبدأ العمل فيهما عام 1974.
وبعد 5 أعوام، ومع إنجاز نحو 80% من المشروع الذي خطط له الشاه ودعمته واشنطن به، اندلعت أحداث الثورة الإيرانية عام 1979، وأطاحت بشاه إيران وحلمه، فيما توقف العمل بإكمال بناء مفاعلي بوشهر، وأعلن حينها قائد الثورة روح الله الخميني بحل أبحاث الأسلحة النووية السرية للبرنامج، إذ كان يعتبر هذه الأسلحة محظورة بموجب الأخلاق والفقه الإسلامي. وبقي الأمر على حاله إلى أن تصاعدت حدة القتال أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فقام العراق بقصف المفاعلين عام 1987.
التوسع الكبير ما بعد الحرب الإيرانية العراقية
حادثة تدمير العراق للمفاعلين النووين، دفعت الخميني لإعادة التفكير حول البرنامج النووي الذي كان قد أوقف العمل به، إذ أعاد قائد الثورة السماح بإجراء بحوث صغيرة النطاق في الطاقات النووية، وسمح بإعادة تشغيل البرنامج الذي كان قد خضع لتوسع كبير بعد وفاة الخميني في عام 1989.
وعليه، فقد وقعت إيران اتفاقيات للتعاون النووي على المدى الطويل مع كل من باكستان والصين، بين الأعوام 1987 و1990 على التوالي. وشملت هذه الاتفاقات تدريب الإيرانيين على تطوير برنامج نووي وتقديم الدعم الفني، وفي يناير/كانون الثاني 1995، أعلنت روسيا أنها ستُكمل بناء بوشهر، ووافقت على بناء ثلاثة مفاعلات إضافية، ضمن مفاوضات سرية استمرت لثلاث سنوات بين الطرفين.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الأمريكيون بوضع تحركات الإيرانيين تحت المجهر، فيما أعرب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن قلقه بشأن نقل التكنولوجيا الروسية إلى إيران، ومارست حينها واشنطن ضغطاً كبيراً على موسكو لتقليص تعاونها النووي مع طهران.
ويعتقد المسؤولون الأمريكيون أن العلماء والمعاهد الروسية الخاصة ساعدت المهندسين الإيرانيين في المجالات الحساسة لدورة الوقود النووي، وبإنشاء مفاعل أبحاث الماء الثقيل بقدرة 40 ميغاوات في منطقة آراك وسط البلاد. وقد باشرت طهران الإنتاج في هذا المفاعل عام 2006 بعد أن كشفت المعارضة الإيرانية النقاب عنه عام 2002، بما في ذلك مجمع نطنز للتخصيب وجميع أسماء مختلف الأفراد والشركات الأمامية المشاركة في البرنامج النووي. فيما بدأت إيران عام 2004 إنشاء مفاعل من تصميمها بقدرة 40 ميغاوات بالقرب من هذه المنشأة، يعتمد في تشغيله على الماء الثقيل واليورانيوم الطبيعي المتوفر في إيران.
وهذا النوع من المفاعلات وبهذه القدرة يصلح لإنتاج البلوتونيوم بالكميات المطلوبة للسلاح النووي، وهو من نفس نوع وقدرة كل من المفاعل الفرنسي في ديمونة الذي يزود إسرائيل بقنابلها النووية، والمفاعل الكندي الذي مكّن الهند من الحصول على سلاحها النووي، والمفاعل الباكستاني في "خوشاب".
وكانت حجّة إيران التقنية في اختيارها لهذا النوع من المفاعلات هي أنه سيستخدم للأبحاث العلمية ولإنتاج النظائر المُشعّة للأغراض الطبية والزراعية، إضافة إلى أنه يعمل باليورانيوم الطبيعي المتوفر في إيران.
وكالة الطاقة الذرية وجولات التفتيش
لكن ذلك لم يقنع الأمريكيين الذين بدأوا يتهمون النظام الإيراني بالسعي لحيازة السلاح النووي، ومنذ عام 2003، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدد من عمليات التفتيش على المنشآت الإيرانية، والتقت بمسؤولين إيرانيين لتحديد تاريخ البرنامج النووي الإيراني بعد إلزام طهران بالوقف الكامل لأنشطتها.
وفي العام نفسه، اعتمد مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً يرحب بقبول إيران التوقيع على البروتوكول الإضافي الخاص بوقف التخصيب ضمن معاهدة الحد من انتشار الأسلحة. ومع ذلك، لاحظ المجلس جهود إيران بإخفاء منشآت أخرى، وأشار إلى أن خطوات إيران الجديدة تتعارض مع المعلومات السابقة للوكالة حول برنامجها النووي. فيما طلب المجلس من طهران تأكيد أنشطتها النووية السابقة واللاحقة.
وبعد ضجة كبيرة، زار رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق محمد البرادعي إيران، في شهر فبراير/شباط 2004، لبحث هذا الأمر، وكان قبيل ذلك هدّد بنقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي إن لم تمتثل طهران لمطالب المجتمع الدولي. وتلت زيارة البرادعي لطهران مجموعة زيارات قام بها خبراء آخرون ومفتشون تابعون للوكالة الدولية إلى إيران، كانوا يأخذون خلالها عينات من جميع المواقع النووية الهامة للتحقق من عدم وجود أنشطة نووية لم تُعلنها طهران من قبل.
النووي الإيراني في مجلس الأمن.. وأولى العقوبات
في 4 فبراير/شباط 2006، أحالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي، بعد أن حظي مشروع قرار بهذا الشأن بموافقة 27 عضواً في الوكالة، ومعارضة ثلاث دول، وامتناع خمس دول عن التصويت. ومنح القرار مهلة شهر قبل أي تحرك للأمم المتحدة ضد إيران، وذلك لإتاحة وقت للجهود الدبلوماسية.
وفي 30 مارس/آذار 2006، وافق مجلس الأمن بكامل أعضائه الخمسة عشر على "بيان" بشأن سبل الحد من طموحات إيران النووية، بعد تقديم تنازلات لكل من موسكو وبكين، تتعلق بحذف فقرة كانت تشير إلى أن عدم امتثال إيران للمطالب لمنع الأسلحة النووية "يشكل تهديداً للسلام والأمن الدوليين"، ولم يكن البيان ملزماً، كما أنه لم يتضمن تهديدات بفرض عقوبات على إيران.
أما في 23 ديسمبر/كانون الأول 2006، فقد أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 1737 الأول من نوعه، والذي يمنع أي دولة من تسليم إيران أو بيعها أي معدات أو تجهيزات أو تكنولوجيا يمكن أن تساعدها في نشاطات نووية وبالستية، بالإضافة إلى تجميد أصول عشر شركات و12 شخصاً لهم علاقة بالبرامج.
فيما تعهّد الرئيس أحمدي نجاد بتجاهل قرار مجلس الأمن ومواصلة التخصيب، وفي نفس الشهر افتتحت إيران محطة لإنتاج الماء الثقيل في أراك، واستمرت في تشغيل وتوسيع منشأة نطنز للتخصيب.
وحتى عام 2012 ظلّت التلميحات الإيرانية تشير فقط إلى إمكانية تجميد عمليات تخصيب اليورانيوم لمستوى 20%، الذي كانت قد أعلنت الوصول إليه أوائل عام 2010، مع الاحتفاظ بالحق في التخصيب لمستوى 3.5% الذي يستخدم عادة وقوداً في محطات الطاقة النووية، على أن تحصل طهران على احتياجاتها التكنولوجية الأخرى من الدول المعنية بتسوية ملفها النووي.
الاتفاق التاريخي في لوزان
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013، وقَّعت إيران ومجموعة "5+1" (التي تضمُّ الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا، وروسيا، والصين بالإضافة إلى ألمانيا، والتي تتولى المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي منذ عام 2006) وبعد عدة جولات تفاوضية، اتفاقاً مؤقتاً في جنيف تضمّن خطة عمل مشتركة، التزمت خلالها طهران بعدم تخصيب اليورانيوم بدرجة أعلى من نسبة 5%.
كما قضت الخطة بأن تُخفّض طهران بشكل كبير وتيرة تطوير برنامجها النووي، وأن تسمح لمراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش مواقعها النووية المحورية، وفي المقابل وافق الغرب على تخفيف العقوبات الاقتصادية جزئياً، والإفراج لإيران عمّا يقارب 700 مليون دولار شهرياً من ودائعها بالبنوك الغربية. ووُصف الاتفاق بأنه خطوة أولى يجب التوصل بعدها لاتفاقية شاملة.
ونصّ الاتفاق على أن يتم بدء تطبيقه في يناير/كانون الثاني 2014، للتوصل إلى اتفاق شامل خلال ستة أشهر من نفس السنة، وهو ما لم يقع في موعده فتم التمديد حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ومرة ثانية حتى يوليو/تموز 2015.
وفي 2 أبريل/نيسان 2015، توصّلت طهران والدول الست الكبرى في مدينة لوزان السويسرية إلى "اتفاق إطار" سيقود إلى حل نهائي لملف البرنامج النووي الإيراني، يتوقع أن يتوصل الطرفان إليه بحلول نهاية يونيو/حزيران 2015.
وكان من شأن هذا الاتفاق الإطاري أن يكبح تقدم هذا البرنامج لعشر سنوات على الأقل، وهي خطوة نحو توقيع اتفاق نهائي قد يُنهي 12 عاماً من سياسة حافة الهاوية والتهديدات والمواجهة بين إيران والغرب، ويلغي جميع العقوبات على إيران بشكل تام. لكن مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، في يناير/كانون الثاني 2017، انهار الاتفاق النووي وتبخّرت طموحات الإيرانيين وكل جهود الأوروبيين التي استمرت لسنوات حتى الوصول لذلك الاتفاق.
سياسة "الضغط القصوى".. صعود ترامب وعودة العقوبات
ومنذ تسلمه مقاليد الحكم، ظلَّ ترامب يرى في اتفاق سلفه أوباما مع إيران حول ملفها النووي "اتفاقاً كارثياً" لابد من إنهائه، وفي 8 أيار/مايو 2018، أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي المبرم مع إيران، وإعادة العمل بالعقوبات المفروضة على طهران.
فارضاً في الوقت نفسه أقصى عقوبات على طهران، فيما سمَّاها سياسة "الضغط القصوى"، متبعاً بذلك مقاربة قسرية حيال الجمهورية الإسلامية، تتركز على عقوبات شاملة وشديدة، تهدف إلى إجبار إيران على الاستسلام للمطالب الأمريكية، أي وقف تخصيب اليورانيوم بالكامل، ووضع حد لتطوير الصواريخ، ووقف الدعم لجملة من الحلفاء الإقليميين، أو التسبب في تغيير النظام.
وأدّت الخطوات الأمريكية لحالة من الفوضى وانتهاكات تدريجية للاتفاق النووي، إذ أعلنت طهران أنها ستتوقف عن الالتزام بجميع القيود التي يفرضها الاتفاق. في هذه الأثناء، بلغت المناوشات الإيرانية-الأمريكية أوجها بعد اغتيال واشنطن لأهم رجل عسكري في البلاد، الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، مطلع عام 2020، لتردّ طهران بضربات على قواعد للقوات الأمريكية في العراق، صعّدت حدة التوترات إلى ذروة خطرة، وكادت -ولا تزال- أن تدفع الطرفين إلى مواجهة عسكرية شاملة في الخليج.
انفجارات المنشآت النووية ترفع مستويات التصعيد مجدداً
ومع غياب أي أفق للحل السياسي تأتي حادثة انفجارات منشآت نطنز النووية قبل عدة أيام لتعيد هذا الملف للواجهة مجدداً، وتهدد بتصعيد آخر في المنطقة، فيما تشير تقديرات وأصابع الاتهام لإسرائيل بالوقوف خلف هذه الحوادث، إذ لم يستبعد الجنرال الإيراني غلام رضا جلالي، رئيس مؤسسة الدفاع المدني الإيرانية أنَّ الانفجار الضخم الذي وقع شرقي طهران، الأسبوع الماضي، سببه "قرصنة"، وسط تكهنات بأنَّه عمل تخريبي في إطار حرب سيبرانية أمريكية إسرائيلية مع إيران.
وتقول مجلة The National Interest الأمريكية، إنه سبق أن تعاونت الولايات المتحدة مع إسرائيل في الماضي، لتخريب برنامج إيران النووي، من خلال تأجير مجموعة قَتَلة يركبون دراجات نارية، لاغتيال العلماء واستخدام سلاح سيبراني يُسمى Stuxnet (ستوكسنت) لتدمير منشآت نووية، عبر استخدام فيروس لتشغيل أجهزة الطرد المركزي رغماً عن الإيرانيين (ودون معرفتهم لبعض الوقت)، بطريقة أضرّت ببرنامجهم النووي، وتسبّبت في تأخير عمليات تخصيب اليورانيوم. وهي العملية التي تحدث عنها الكاتب الأمريكي فرد كابلان في كتابه "المنطقة المعتمة.. التاريخ السري للحرب السيبرانية".
لكن مسؤولين إسرائيليين صرّحوا إلى صحيفة The New York Times الأمريكية، أنَّهم لا يد لهم في الهجوم على المنشآت الإيرانية، وذلك بعد أن أكد مصدر استخبارتي للصحيفة أن "إسرائيل" هي مَن تقف خلف الانفجار الذي وقع في منشاة "نطنز". إذ أكد المصدر أن الانفجار تم نتيجة استخدام قنبلة بقوة كبيرة. وسبق لتل أبيب أن فكّرت بهذه النوعية من الهجمات، فبين الأعوام 2009-2013، جرى نقاش صاخب في قيادة إسرائيل السياسية والأمنية لفعل ذلك، إذ دعا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في حينه إلى هجوم إسرائيلي على منشآت نووية في إيران.
ويبقى السؤال الآن حول ما سيحمله قادم الأيام من تبعات انفجارات المنشآت النووية الإيرانية، ومدى صمت طهران على تفاصيل هذه الحوادث، والكشف عن حقيقة مَن يقف وراءها، واحتمالات ردّها الذي قد يؤدي لتصعيد خطير آخر في المنطقة لا يعرف مداه.