عند خروج هشام الهاشمي من منزله في بغداد، مساء الإثنين 6 يوليو/تموز، سار رجلٌ مُسلَّحٌ باتجاه سيارة الدفع الرباعي التي استقلَّها الهاشمي ووجَّه مسدساً إليه وأطلق أربع طلقات صوب النافذة بجوار مقعد السائق.
التُقِطَ كلُّ وميضٍ للطلقات النارية بواسطة الكاميرا المُثبَّتة على سطح منزل الهاشمي. والتُقِطَ كذلك هروب القاتل على ظهر دراجةٍ نارية، وكذلك الأطفال الثلاثة للهاشمي الذين وقفوا عاجزين بينما كان جثمان أبيهم يُسحَب من السيارة إلى الممر، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
اغتيال هشام الهاشمي بداية مرحلة جديدة
في مدينةٍ غارقةٍ في عقودٍ من الوحشية، أصبحت عمليات القتل العنيف مثل هذه لا تترك إلا أثراً طفيفاً، لكن الاغتيال الوقح لأحد أشهر المثقَّفين ألقى بظلاله على العاصمة العراقية، دافعاً الكثيرين لإعادة تقييم ثمن التحدُّث علانيةً، ومُجبِراً الكثير من القادة على إعادة حساباتهم بعد أن كادوا يجزمون أن الدولة المضطربة قد بدأت تنتصر على الميليشيات القوية في بلدهم.
وتعهَّدَ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي عمل الهاشمي معه عن قرب حين كان رئيساً لجهاز المخابرات الوطني قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، بأن تحقيقاً شفافاً سوف يجري في مقتل الهاشمي، وتعهَّدَ كذلك بتسمية أحد شوارع بغداد باسم أحد أكثر مستشاريه موثوقيةً في شؤون تنظيم الدولة الإسلامية والفِكر الجهادي.
وتلقى تهديداً بالقتل من قبل كتائب حزب الله
توطَّدَت العلاقة بين الرجلين على مدار الأشهر الأربعة الماضية في الحكومة، حين تحدَّى الكاظمي، بعد أن أصبح رئيساً للوزراء، جماعات الميليشيات المدعومة إيرانياً، والتي غالباً ما كانت تُملي شروطَها في العراق. وقبل أسبوعين أمَرَ الكاظمي بإلقاء القبض على 14 عضواً من جماعة كتائب حزب الله، يُشتَبَه في أنهم أطلقوا صواريخ صوب المنطقة الخضراء في بغداد.
كان هذا الاعتقال تحدياً صارخاً للجماعة، وقدَّمَ الهاشمي دعماً قوياً من خلال منشوراته الغزيرة والمقروءة على نطاقٍ واسع على الشبكات الاجتماعية، وأيضاً من خلال ظهوره على شاشة التلفزيون العراقي.
أدرَكَ الهاشمي المخاطر، وحدَّد مخاوفه في مقالٍ له بصحيفة The Guardian البريطانية في الأسابيع الأخيرة، وأفصح عنها لصديقه غيث التميمي، المقيم في لندن، إذ كَتَبَ له يقول: "تلقَّيت تهديداتٍ بالقتل من كتائب حزب الله. كيف أتعامل مع هذه التهديدات من واقع خبرتك؟".
جاء الرد من التميمي بسؤال: "هل يمكننا التحدُّث؟"، وقُتِلَ الهاشمي بعدها بساعات.
كان يبشر بالبغدادي قبل أن يصبح عدواً لداعش
كان الهاشمي، 47 عاماً، شخصيةً بارزةً في الاضطراب الحالي في العراق لأكثر من عشرين عاماً. في أواخر التسعينيات سَجَنَه صدام حسين لكونه رجل دين سلفياً، وأُطلِقَ سراحه في 2002 قبيل الغزو في العام التالي. ثم جاءت الفوضى المصحوبة بالاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة، والتمرُّد الجهادي الذي نَهَضَ ليملأ الفراغ، والاضطرابات السياسية والأمنية التي تبعت كلَّ ذلك، والتي أصبح خلالها الهاشمي مستشاراً للقادة الأوائل وكبار السياسيين.
كان الهاشمي يبشِّر بالرجل الذي أصبح لاحقاً زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبوبكر البغدادي، قبل أن يتخلَّى عن تفسيره الأصولي لعقيدته الدينية. واستُهدِفَ لاحقاً من قِبَلِ كافة الكيانات الإرهابية، من القاعدة إلى تنظيم الدولة الإسلامية، بينما كانوا ينتشرون في أرجاء العراق وسوريا، قبل أن يتداعوا تماماً تقريباً مطلع العام الماضي.
كما هاجم سليماني
هاجَمَ الهاشمي أيضاً الجنرال قاسم سليماني، الحاكم القوي الذي كان يدير الشؤون العراقية حتى اغتياله في بغداد بواسطة طائرة أمريكية مُسيَّرة في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي. قُتِلَ في الهجوم نفسه أيضاً الموالي الإيراني الثاني أبو مهدي المهندس. كان المهندس زعيم كتائب حزب الله، وتعهَّدَت جماعته بالثأر له.
كان الهاشمي يسدي النصائح والاستشارات للمخابرات العراقية والجيش الأمريكي خلال المسار الذي خاضه العراق بعد الحرب. استشاره جواسيسٌ من بريطانيا وفرنسا، وأصبح أهمَّ من أيِّ عراقي آخر في إخبار العالم عن آليات العمل الداخلية لتنظيم الدولة الإسلامية.
أردوغان وبن سلمان سعيا لاستشارته شخصياً
سعى الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى الاستفادة من خبرته، وطلبا استشارته شخصياً. وقد عَبَرَ أوروبا والمنطقة لمحاورة الجهادين المعتقلين وليقدِّم إفاداتٍ موجَزة للمسؤولين بما توصَّل إليه.
قالت إيما سكاي، مؤلِّفة كتاب "The Unravelling: High Hopes and Missed Opportunities in Iraq"، والمستشارة السياسية الكبيرة لقيادة الجيش الأمريكي في العراق من 2007 إلى 2010: "كان الدكتور هشام الهاشمي مُحلِّلاً مُبهِراً، وكاتباً نافذاً، ومُعلِّقاً محترماً في الشؤون العراقية".
وأضافت: "كانت له رؤى فريدة في أيديولوجية الجماعات المُتطرِّفة وآلياتها الداخلية. لكنه أيضاً تحدَّث عن الطبقة السياسية الفاسدة والتدخُّل الإيراني الذي يُبقِي على العراق في حالةٍ من العجز. رفض أن يغادر بغداد رغم التهديدات المتواصلة على حياته، وقد دَفَعَ ثمن شجاعته بحياته".
وتابَعَت سكاي: "لقد أحبَّ العراق، وكانت مصالح العراقيين -بصرف النظر عن الطائفة والعِرق- في قلبه. لقد جسَّدَ الأمل في أن عراقاً جديداً ممكن. لا بد أن تحاكم الحكومة قاتليه وتسحق الميليشيات، وإلا فلن يصبح العراق دولةً جديرةً".
ضربة من ميليشيات إيران
قال السير جون جنكينز، السفير البريطاني السابق في العراق، إن مقتل الهاشمي كان تحدياً واضحاً لسلطة الكاظمي. ولقد اعتبرت واشنطن الزعيم الجديد أكثر توافقاً مع مصالحها من أسلافه. لكنه يظل الرمز المركزي في الصراع على مصير المنطقة بين إيران، التي حقَّقَت مكاسب استراتيجية عديدة في العراق منذ إطاحة صدام حسين، والولايات المتحدة التي تكافح من أجل فرض نفوذٍ دائم مذاك الحين.
وقال: "كانت تلك ضربةً من ميليشيا ذات صلةٍ بإيران"، مضيفاً أن "ضرب هذه الميليشيات وتقديم المسؤولين للعدالة هو الاختبار الوحيد المهم بالنسبة لحكومة العراق. أولاً يأتون إلى الكُتَّاب والمحامين والأكاديميين والمتظاهرين والنشطاء. حَدَثَ ذلك في العراق ومصر بعد العام 1962، وإيران في الفترة من 1979 و1983، والجزائر بين عامي 1990 و1992، وفي لبنان منذ عقدٍ مضى. لن ينتهي الأمر حتى نعمل جماعياً على إيقاف التساهل مع أولئك الذين يحتقرون إنسانيتنا المشتركة".
دُفِنَ الهاشمي يوم الثلاثاء 7 يوليو/تموز، في النجف، جنوب بغداد. وعُقِدَ عزاءٌ في بيته في حي زيونة ببغداد. ورغم شهادات المسؤولين في الإعلام العراقي ومنصات التواصل الاجتماعي، لم يكن هناك حضورٌ للدولة في جنازته.
قال أحد المُشيِّعين، وهو عصام جبوري، 37 عاماً: "دعوهم يثبتون أن ما يقولونه جديرٌ بالاستماع إليه. كان الهاشمي رجلاً شجاعاً وَهَبَ حياته لتقديم الحقائق. لا بد أن تكرِّمه الدولة بالقبض على قاتليه، وإن لم يفعلوا فستكون هذه خطوةً ضخمة إلى الخلف بالنسبة للعراق".