"ماكرون ألغى فعلياً منصب رئيس الوزراء وأصبح هو رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في آن واحد"، جاء هذا التصريح الحاد على لسان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في معرض انتقاده الموجّه ضد إقالة ماكرون لرئيس حكومته المحبوب إدوارد فلييب.
فقد كان أمراً لافتاً للجميع أن ماكرون أقال رئيس حكومته المحبوب الذي بات رمزاً للمقاومة ضد فيروس كورونا، في وقت حقق فيه الرجل نصراً في الانتخابات البلدية، بينما مُني حزب الرئيس نفسه بانتكاسة مهينة.
والأغرب أن الرجل يتمتع بشعبية كبيرة وفقاً لاستطلاعات الرأي، تفوق شعبية ماكرون نفسه، وقد يكون هذا هو السبب في إقالته.
سر إقالة ماكرون لرئيس حكومته المحبوب
ويعتقد مراقبون أن التباعد الحاصل بين ماكرون وفيليب يمكن تقييمه في إطار استعدادات ماكرون لخوض غمار انتخابات 2022، حيث يعتقد أن بإمكانه إخراج فيليب، الذي تزيد شعبيته يوماً بعد آخر، خارج اللعبة السياسية.
ماكرون، الذي فقد الأغلبية في الجمعية الوطنية وحزبه السياسي "الجمهورية إلى الأمام" (وسطي تقدمي) الذي أسسه في 6 أبريل/نيسان 2016، شهد هزيمة أيضاً في الانتخابات المحلية، إلا أنه لا يزال يأمل بتحسين وضعه في انتخابات 2022.
وحقق حزب الخضر وحلفاؤه اليساريون تقدماً ملحوظاً في الجولة الثانية من الانتخابات المحلية الفرنسية التي جرت في 28 يونيو/حزيران المنصرم، واستطاعوا الفوز في مدن مهمة مثل ليون وستراسبورغ وبيزانسون.
فيما فشل حزب ماكرون، في تحقيق النصر بأي من المدن المهمة، ما أعطى مؤشرات سلبية حول شعبية الرئيس الفرنسي.
وتشير استطلاعات ونتائج الانتخابات المحلية الأخيرة إلى فقدان ماكرون لتأثيره في الشارع الفرنسي وأروقة السياسة الفرنسية.
كان من الممكن أن يشير إبقاء فيليب في منصبه إلى أن ماكرون كان أضعف من أن يترك رئيس وزرائه، وأن حزبه الشاب يفتقر إلى العمق للسماح بإجراء إصلاح شامل لمجلس الوزراء، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Daily Mail البريطانية.
رأى البعض أن السيد فيليب كان منافساً محتملاً للرئيس الفرنسي، وشهد زيادة شعبيته وسط أزمة الفيروس التاجي. وأظهر فيليب ولاءً ثابتاً خلال موجات الاضطرابات، ورغم ذلك يمكن أن يظهر كمنافس رئاسي في انتخابات عام 2022.
ويبدو أن الخلافات بين ماكرون وفيليب، بشأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، أدت إلى ضغط الأول على الأخير، لتقديم الاستقالة.
كما أن فيليب ينتمي إلى يمين الوسط، وكان التمسك به سيعقد عملية إعادة الناخبين اليساريين.
وعيّن ماكرون مكان فيليب جان كاستكس، وهو سياسي غير معروف، قاد استراتيجية خروج البلاد من جائحة الفيروس التاجي.
وقال أحد المطلعين على حكومة ماكرون في نشرة إخبارية فرنسية إن الرئيس اختار شخصاً ذا خبرة سياسية وطنية قليلة من أجل تعزيز موقفه.
وقال المصدر المطلع، حسبما نقلت عنه صحيفة The Express البريطانية: "قرر ماكرون الجمع بين المنصبين: سيكون رئيساً ورئيساً للوزراء في نفس الوقت".
فعلياً ماكرون ألغى منصب رئيس الوزراء
وعقب ساعات قليلة من قبول ماكرون استقالة فيليب، أحدث تعيين كاستكس، رئيساً للوزراء مفاجأة في الأوساط السياسية الفرنسية.
وكان كاستكس قد شغل منصب نائب الأمين العام لرئاسة الجمهورية خلال فترة رئاسة نيكولا ساركوزي (2011 – 2012).
وكان الحديث يجري في الوسط الفرنسي عن إمكانية تعيين وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، خلفاً لفيليب، إلا أن اختيار ماكرون لكاستكس، جاء بتأثير من ساركوزي، الذي دأب الرئيس الحالي على استشارته أثناء اختياره كبار المسؤولين، بحسب مراقبين.
وفي خطوة أخرى لترسيخ سلطته، عين ماكرون أحد أقرب حلفائه، نيكولا ريفيل كمدير لمجلس الوزراء.
وعلق الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند على الخطوة أيضاً، متسائلاً عما إذا كان الغرض الحقيقي من منصب رئيس الوزراء قد تم إزالته الآن.
وغرد: "دون الحكم المسبق على صفات رئيس الوزراء الجديد، يمكننا أن نتساءل عما إذا كنا قد أزلنا للتو وظيفته".
كما رفض كريستيان يعقوب، زعيم الجمهوريين المحافظين، القرار، مدعياً أن رئيس الوزراء الجديد كان غير مؤهل.
قال: "بعد أزمة الفيروسات التاجية، لدينا رئيس غير قادر على تحديد مسار اختار شخص غير مؤهل كرئيس للوزراء، والذي سيدير الأعمال بطريقة الشركة التي سيتم إغلاقها".
هل تتجه فرنسا نحو السلطوية السياسية؟
جنوح نحو السلطوية السياسية كان التعبير الأبرز للمراقبين، كتفسير عملي لاختيار ماكرون شخصية مثل كاستكس، المعروف بانسجامه معه وتنفيذه السريع للأوامر، بدلاً من فيليب الذي لديه خلافات مع ماكرون حول العديد من القضايا.
ويقول المراقبون إن ماكرون، الذي وصل الرئاسة عام 2017 بعد وعود قطعها من أجل تعزيز الديمقراطية في بلاده، يواصل تنفيذ سياساته رغم الانتقادات الحادة التي يتعرض لها من الشارع والأوساط السياسية على حد سواء.
ويرى بعض المراقبين أن ماكرون بدأ يتبنى نهجاً لا يتسق مع النظم الديمقراطية، بل بدأ يتوجه بشكل أكثر نحو "سلطوية سياسية"، بخلاف نهج فيليب، الذي اختار الحوار الديمقراطي لحل مشاكل البلاد.
ولعبت الخلافات العميقة التي سادت طبيعة العلاقات بين فيليب وماكرون، المتعلقة بحل الأزمات في البلاد، دوراً محورياً في الضغوط التي مارسها الرئيس الفرنسي لحمل رئيس وزرائه على الاستقالة.
وبدأت الخلافات بين ماكرون وفيليب بالظهور على السطح مع تنامي الاحتجاجات التي قادتها حركة "السترات الصفراء" والإضرابات والمظاهرات ضد إصلاح نظام التقاعد، والتي أدت إلى انتشار أعمال فوضى في البلاد.
إضافة إلى ما سبق، تسبب انتشار فيروس كورونا بالبلاد في ركود اقتصادي كبير لم تعرفه فرنسا منذ عام 1975، ما دفع كلاً من ماكرون وفيليب للإدلاء بتصريحات متناقضة، بدلاً من التنسيق بينهما.
وشكلت مواضيع على رأسها زيادة أسعار الوقود وإصلاح المعاشات التقاعدية، والإجراءات الواجب اتخاذها لمواجهة انتشار فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية الناجمة عنه، أبرز العناوين الخلافية التي دفعت إلى زيادة التوتر بين ماكرون وفيليب.
وفي الوقت الذي تبنى فيه فيليب دخولاً أكثر حذراً في عملية تطبيع الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتمديد إجراءات الحجر الصحي لمنع انتشار كورونا، فضّل ماكرون رفع الإجراءات بشكل أسرع اعتباراً من 11 مايو/أيار الماضي، استناداً إلى مخاوف اقتصادية.