على طريقة "انظر للعصفورة"، إدارة ترامب تلوم الإعلام لكشفه التحريض الروسي لطالبان على قتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان.
وأفادت وسائل إعلام أمريكية بأن تقارير استخباراتية عن "رصد روسيا مكافآت لقتل الجنود الأمريكيين" في أفغانستان قد وصلت البيت الأبيض بالفعل قبل أشهر ولم يفعل ترامب شيئاً، وهو ما تسبب في جدل لا زال مستمراً، خصوصاً أن رد الرئيس الأمريكي تراوح ما بين نفي علمه بالأمر ثم تغير إلى القول إن المعلومات لم تكن "صحيحة".
كان البيت الأبيض على موعد الأسبوع الماضي مع وابل غير مستغرَب من الأسئلة حول: ما الذي كان الرئيس يعرفه؟ ومتى عرفه عن برنامج المكافآت الذي وضعته روسيا لتحريض طالبان على قتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان؟
والإجابة عن هذه الأسئلة أيضاً لم تكن مستغربَة من هذه الإدارة: إلقاء اللائمة على وسائل الإعلام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Politico الأمريكية.
إدارة ترامب تلوم الإعلام لكشفه التحريض الروسي لطالبان على قتل الجنود الأمريكيين
وقد دعت المتحدثة باسم البيت الأبيض كايلي مكيناني الصحفيين إلى إيجاز صحفي يوم الثلاثاء 30 يونيو/حزيران، وفيه عنفت وسائل الإعلام تعنيفاً شديداً على إيراد القصة، ولم تسمع سوى عدد قليل جداً من الأسئلة وخرجت من القاعة.
في الوقت نفسه أصدر عددٌ من مسؤولي الأمن القومي الأمريكي -من وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية- بيانات، تشككت أحياناً في مدى صحة التقارير، مع التركيز على التسريبات إلى الصحافة.
وكانت الشرارة الأولى للحديث الذي دار مؤخراً حول المعلومات الاستخباراتية الأمريكية تقريرٌ نشرته صحيفة New York Times الأمريكية الشهر الماضي. وزعم التقرير أنَّ البيت الأبيض لديه معلومات استخباراتية حول تخصيص الحكومة الروسية برنامج مكافآت لمقاتلين على صلة بحركة طالبان في أفغانستان مقابل قتل الجنود الأمريكيين.
ومن شأن خبر كهذا أن تكون له تبعات خطيرة على ترامب. وكشف المزيد من التقارير أنَّ مسؤولين على مستويات عالية كانوا يعرفون بهذه المعلومات الاستخباراتية، وأنها أُدرجت في شهر فبراير/شباط الماضي في الإيجاز اليومي المرفوع إلى الرئيس، وهو يتكون من مجموعة من المواد المهمة والمصنَّفة التي تُرفع إلى رئيس الأركان.
غير أن مسؤولين بارزين في إدارة ترامب أيدوا ما زعمه الرئيس بأن تلك المعلومات لم تُرفع له في الإيجاز، رغم أن مشرعين أكدوا تضمينها في الإيجاز اليومي المكتوب.
الإحالات الجنائية للعاملين بالأجهزة الحكومية سجلت ارتفاعاً هائلاً في عهد ترامب
ولفت ما فعلت مكيناني النظر إلى الارتفاع المفاجئ في وتيرة الإحالات الجنائية للتسريبات الصحفية خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب؛ إذ بلغ المتوسط 104 إحالات سنوياً، لترتفع عما كان عليه المتوسط في عهد باراك أوباما (39).
وقد صرح مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين للصحفيين: "لأن شخصاً ما قرر تسريب المعلومات الاستخباراتية قبل أن نتوصل إلى حقيقة الموقف، ربما لن يكون بوسعنا أبداً أن نعرف الحقيقة. وهذا أمرٌ مخزٍ".
وقد بات التصرف على هذا النحو هو الإجراء القياسي المتبع في البيت الأبيض: تحويل الانتباه إلى وسائل الإعلام بمجرد الضغط عليهم في الأسئلة حول معرفة الرئيس ترمب بوجود هذه التهديدات المتعددة، وتصرفه إزاءها. ذلك أنه حين تعرضت الإدارة الأمريكية في وقت سابق من العام الجاري إلى وابل من الأسئلة حول توقيت معرفة ترامب بفيروس كورونا، قال البيت الأبيض إن وسائل الإعلام، وليس ترامب، هي من هوَّنت من شأن الجائحة. وكانت نتيجة هذا التكتيك تشتيت الانتباه عن المعلومات الاستخباراتية نفسها، وكشف أيضاً عن غير قصد كيف تصل المعلومات من أسفل إلى مكتب الرئيس.
وفي هذا الصدد يقول مارك زيد، المحامي المختص في شؤون الأمن القومي الذي تولى الدفاع عن الشخص الذي كشف تفاصيل مكالمة ترامب المثيرة للجدل مع الرئيس الأوكراني: "هذا حرف لمسار الكلام، على طريقة "انظر العصفورة". فهم يتجنبون الحديث عن جوهر المشكلة، وبدلاً من ذلك يحاولون صرف الأنظار بإثارة موضوع شائك آخر".
وأضاف: "لم يزد البيت الأبيض الأمور إلا سوءاً باتجاهه لصرف الأنظار بهذا الشكل، لأنه قلب الموقف برمته رأساً على عقب بصورة كشفت مَواطن الضعف داخله".
وذكر المتحدث باسم البنتاغون جوناثان هوفمان، الشهر الماضي، أن الجيش الأمريكي "لا يزال بصدد تقييم المعلومات الاستخباراتية" حول برنامج المكافآت. وأضاف: "حتى اللحظة، لم تتوصل وزارة الدفاع الأمريكية إلى أدلة إضافية تثبت صحة المزاعم التي وردت مؤخراً في تقارير صادرة عن مصادر مفتوحة".
التسريبات تعطل العمل بين الوكالات الحكومية المختلفة
والجدير بالذكر أن قيادات الأمن القومي في كافة قطاعات الحكومة قد ركزت في بياناتها على التسريبات التي استندت إليها الصحف فيما كتبته عن الموضوع.
إذ ذكرت مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جينا هاسبل: "التسريبات تقوِّض وتعطِّل العمل المهم المشترك بين الوكالات الحكومية المختلفة في جمع معلومات حول ما حدث، وتقييمه، وتحديد المسؤولين عنه".
وذكر مدير الاستخبارات الوطنية جون راتكليف ملحوظة مشابهة: "تسريب أي معلومات مصنَّفة يعطل العمل المهم المشترك بين الوكالات الحكومية المختلفة لجمع معلومات حول التهديدات وتقييمها والتخفيف من أثرها، ويضع قواتنا في خطر".
أما البيت الأبيض فكان مباشراً بشكل أكبر في تعنيف الصحفيين.
إذ قالت مكيناني يوم الثلاثاء: "الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تايمز أصبحت ساحة لمناقشة المعلومات المصنَّفة؛ أما منصة الإيجاز الصحفي في البيت الأبيض فهي ليست ساحة لذلك. نحن هنا اليوم، ونعقد هذا النقاش، بسبب التسريب مجهول المصدر غير المسؤول لصحيفة New York Times".
ترامب يقول إنها قصة مفبركة، ولكن تصرفات مسؤوليه تعزز احتمال صحتها
أما ترامب فبدوره كان، كما هو دائماً، مباشراً بشكل أكبر، إذ اتهم صحيفة نيويورك تايمز بفبركة القصة من الأساس.
"قصة برنامج المكافآت الروسي ليست إلا قصة أخرى مزيفة ومختلفة، تُطلق في الآفاق دون هدف إلا تدميري وتدمير الحزب الجمهوري. هذا المصدر السري الذي يتحدثون عنه ربما لا وجود له من الأساس، مثله مثل القصة برمتها. وإذا كان لدى صحيفة نيويورك تايمز المشكوك في مصداقيتها مصدر، فلتكشف عنه. الأمر لا يعدو كونه تدليساً جديداً!".
وتتناقض مزاعم ترامب بوجود "أخبار مختلقة" الدعوات المتكررة والمستمرة من جانب مسؤولين في إدارته إلى محاكمة من سربوها.
إذ ذكر مسؤول كبير في إدارة ترامب أنه يشعر "بانزعاج عميق" بوجود عددٍ من الأشخاص الذين يشعرون بوجود مبرر لكشف تلك المعلومات إلى الصحف الكبرى: "من سربوا المعلومات المصنفة لا بد أن لديهم اطلاعاً على مستويات عالية السرية من المعلومات، والصحفيون الذين ينشرون ذلك لا بد أنهم وجدوا لأنفسهم مبرراً للمخاطرة بالأمن القومي إلى هذا الحد".
ويبدو أن المعلومات جاءت من مصادر مختلفة، مما يعزز فرص مصداقيتها
والواضح أيضاً أن التسريبات وردت من مصادر متعددة داخل الحكومة الفيدرالية؛ ذلك أن القصص الإخبارية التي تناولت برنامج المكافآت كتبتها فرق من الصحفيين الذين يغطون موضوعات مختلفة، بما يشير إلى أن مصدر التسريب ليس شخصاً واحداً.
وذكر أوبراين في حديثه إلى الصحفيين كيف تمت مشاركة المعلومات الاستخباراتية الأولية والمثيرة للقلق مع الحلفاء، وقال إن عملية مشتركة بين الوكالات الحكومية المختلفة قد بدأت للتحقق من المعلومات والتثبت منها.
وقال أوبراين: "ينبغي أن تكون هذه قصة حول كيفية سير الأمور، وكيفية معالجتها بشكل صحيح داخل الحكومة. والسبب في أنها لن تكون قصة تُنشر في الصحافة على هذا النحو… هو أن مسرِّب المعلومات تطوع بنشرها في محاولة لمهاجمة الرئيس أو الترويج لأجندة سياسية ما، وتسريب مزاعم تجعل من شبه المستحيل بالنسبة لنا الآن أن نعرف ما حدث".
وقال خبراء الأمن القومي إن مراوغة الإدارة الأمريكية بشأن هوية مسرِّب المعلومات والمسرَّب له تعد خدمة مسداة إلى أجهزة الاستخبارات الأجنبية.
وفي هذا الصدد يقول زيد: "كل النقاش الدائر في الولايات المتحدة على الملأ يجري تتبعه باهتمام من جانب الصديق والعدو على حد سواء، ليس فقط لتقييم قدرتنا الاستخباراتية وإنما أيضاً لوضع استراتيجية جيوسياسية لتلك الدول".
وفي هذا الصدد قال جوزيف روس أرنولد، بروفيسور العلوم السياسية في جامعة فرجينيا كومنولث والمتخصص في دراسة السرية الحكومية وإجراءات المراقبة والإبلاغ عن المخالفات: "هذا يكشف عن مشكلات خطيرة فيما يتصل بعملية الإبلاغ بالمعلومات الاستخباراتية في البيت الأبيض. فهذا تسريبٌ لا ينبغي أن يمر مرور الكرام. فلو كان كل ما ورد فيه صحيحاً، فهو يقدم لنا نظرة ثاقبة حول العملية التي يتبعها الرئيس لاتخاذ قراراته ومنظوره للأمن القومي الأمريكي".
ولم يرد البيت الأبيض على طلب التعليق الذي تقدمت به صحيفة Politico الأمريكية.
لوم الإعلام هو أسلوب ترامب المفضل
وتوجيه اللوم إلى وسائل الإعلام هو التكتيك المفضل لدى البيت الأبيض في عهد ترامب. إذ يتهم الرئيس وسائل الإعلام مراراً، ودون دليل في أغلب الأحيان، بالعديد من الأشياء منها: تأجيج العنف أثناء التظاهرات على وحشية الشرطة والتمييز العنصري؛ والتسبب في هبوط أسهم سوق المال وسط مخاوف من فيروس كورونا والخلافات بين السعودية والصين بسبب إنتاج النفط؛ ومحاولة إبقاء البلاد في حالة إغلاق أثناء فيروس كورونا في محاولة لتدمير أي فرصة لدونالد ترامب في إعادة انتخابه.
وعند مناقشة مسألة فيروس كورونا، كررت مكيناني توجيه اللوم إلى وسائل الإعلام عند الضغط عليها بشأن استجابة ترامب للجائحة. إذ تزعم مكيناني أن وسائل الإعلام هونت من شأن الفيروس، لتتفادى الرد على سؤال حول ما إذا كان ترامب قد قلل في بعض الأحيان من شأن الجائحة.
وقالت مكيناني للصحفيين في شهر مايو/أيار: "هل تريد صحيفة Vox أن تتراجع عما أعلنته من أن فيروس كورونا لن يكون جائحة مميتة؟ هل تريد Washington Post أن تتراجع عن أنها أخبرت الأمريكيين أن يهدئوا من روعهم لأن الإنفلونزا أخطر من فيروس كورونا؟".
اللافت للنظر أن مكيناني تجاهلت بشكل متكرر التحذيرات البارزة الواردة في عناوين الصحف أو القصص الإخبارية أو التغريدات التي لفتت النظر إليها. كما تجاهلت قدراً وفيراً من الأخبار التي وردت في وسائل الإعلام ذلك الوقت حول شدة الجائحة في العديد من البؤر.