لا شك في أن تداعيات وباء كورونا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تتخطى في حجمها ما نتج عن أزمات كثيرة مشابهة عبر التاريخ؛ وهو ما دفع كثيرين إلى اعتقاد أن النظام العالمي نفسه ربما يشهد تغييراً جذرياً، لكن بعض المحللين يختلفون مع هذا الطرح، فما هي أسبابهم؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "لهذه الأسباب، تؤدي الأزمات إلى التغيير في أحيان نادرة فقط"، ألقى الضوء على أبعاد أزمة كورونا الحالية وتأثيراتها العميقة على الاقتصاد والقرارات الحكومية حول العالم، والمؤشرات على أن التغيير الجذري في التركيبة الحالية للنظام العالمي ربما لا يحدث كما يتوقع كثيرون أو يتمنّون.
تأثيرات ضخمة لوباء كورونا
لقد ضربت جائحة كورونا الاقتصادات الغربية بصورة أكثر عنفاً من أي أزمة أخرى، وكثير من تلك الاقتصادات تواجه الآن أزماتها الأسوأ منذ الكساد العظيم قبل أكثر من 9 عقود؛ وهو ما دفع تلك الحكومات إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة.
ففي الولايات المتحدة، تم رصد مبالغ قياسية غير مسبوقة في وقت السلم لمواجهة تداعيات الجائحة من الناحية الاقتصادية، في صورة حزم تحفيزية وإعانات مؤقتة للأسر المتضررة وتوسيع برامج إعانات البطالة ودعم القطاع الصحي وإعفاءات ضريبية للشركات الكبرى، وفي أوروبا اتخذت الحكومات إجراءات أكثر درامية، عملاً بنصيحة خبراء الاقتصاد من أمثال مارتن ساندبو الذي أوصى الحكومات بأن "تنفق ببذخ وتتخلى عن الحذر، والتفكير في المستقبل".
ألمانيا، على سبيل المثال، تخلت عن الهوس المعروف عنها بفكرة الموازنات السنوية المتزنة، وفي فرنسا اتخذ الرئيس إيمانويل ماكرون قرارات بتعليق الضرائب والإيجارات الشهرية وفواتير الاستهلاك المنزلي، وقدَّم وعداً قاطعاً بألا تترك الحكومة "أي شركة تتعرض للانهيار التام". كما قامت الدول الاسكندنافية وبريطانيا بتقديم ضمانات حكومية للرواتب، وهو ما يعني أن أي عامل يتم تسريحه سيظل يتقاضى راتبه.
هذا يعني أن الجائحة ستغير العالم إذاً
افتراض أن الجائحة والإجراءات التي تم اتخاذها لمواجهة التداعيات "ستعيد تشكيل العالم للأبد وتغير النظام العالمي الحالي"، كما توقع يوفال نواه هراري وهنري كيسنجر، أصبح منتشراً ويتم تداوله على أنه حقيقة مسلَّم بها بين كثيرين، توقعوا أن يؤدي ذلك إلى تمكين الحكومات من التعامل مع القضايا الأهم مثل التغير المناخي وعدم المساواة.
بل إن كثيراً من المفكرين التقدميين والليبراليين يبدو أنهم يعتقدون -أو يأملون- أن العالم يشهد "فجر عهد جديد"، وتعاظم ذلك لديهم مع انطلاق الاحتجاجات المنددة بمقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد، وتبلور حركة "حياة السود مهمة" وتخطيها حدود الولايات المتحدة الأمريكية حيث وقعت الجريمة.
وقد نُشرت مقالات وتقارير تحليلية تبشر بذلك، مثل مقال الصحفي المخضرم جاميل بوي في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان "نهاية عهد الحكومة الصغيرة"، تحدَّث فيه عن التغيير الكبير الذي يعني أن القضايا الكبرى ستصبح هي شغل الحكومات الشاغل، بعد أن تضاءل دورها وأصبح صغيراً وهامشياً. وعلى المنوال نفسه تم نشر عديد من التحليلات ومقالات الرأي في كبريات الصحف والبرامج الحوارية، حتى كاد الأمر يصبح واقعاً فعلياً.
ماذا يقول التاريخ؟
لكن الواقع الفعلي على الأرض ودروس التاريخ ربما يشيران إلى نظرية أخرى مختلفة قد تصدم أصحاب نظرية "كورونا سيغير وجه العالم للأبد"، وقد كتب ليون تروتسكي، أحد أبرز المنظِّرين الثوريين في العالم، عام 1932: "إن وجود المشاكل في حد ذاته ليس كافياً لإحداث تغيير شامل أو إعادة بعث، فلو كان الأمر كذلك لكان الناس في حالة ثورة دائمة".
ووجهة نظر تروتسكي هي أنه "من الضروري أن يتزامن الكشف عن إفلاس النظام الاجتماعي مع كون تلك المشاكل أكبر من تحمُّل الناس" وعندها يحدث التغيير الثوري، حيث إنه عند تلك النقطة فقط، بمكان "ظروف جديدة وأفكار جديدة أن تفتح المجال أمام مخرج ثوري" متاح للعامة.
والفكرة هنا، لدى تروتسكي وغيره من مُنظِّري الفكر الثوري، أن بعض الأزمات قد تقود لتغيير دائم بينما قد لا يحدث هذا النوع من التغيير مع البعض الآخر من الأزمات، والتاريخ يقدم دروساً لهؤلاء الذين يعتقدون أو يأملون أن تكون الأزمة الحالية واحدة من النوع الذي يتسبب في تغييرات جذرية.
غياب الإرادة السياسية لدى صناع القرار
أول هذه الدروس هو أنه في فترات التغيرات السريعة وعدم الاستقرار يجد الناس أنفسهم رد فعل للأحداث وليس العكس، بمعنى أن الأحداث هي التي توجه الناس، وفي هذه الظروف يكون توجيه الانتقادات والغضب تجاه النظام القديم أسهل من التوافق حول النظام الجديد، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المحددات الرئيسية لكون الأزمة ستؤدي إلى تغيير جذري أم لا، محددات سياسية في المقام الأول، خصوصاً عندما يكون التخطيط والقوة مطلوبَين لإحداث التغيير.
ومن ثم في ظل عدم وجود خطط متفق عليها بشأن نوع وشكل النظام الجديد الذي يجب أن يحل محل النظام القديم، تجد قوى المعارضة نفسها قد سقطت في فخ الاقتتال الداخلي فيما بينها ويطغى عدم الرضا والسخط على ذلك الاقتتال، وفي حالة عدم تبني قوة سياسية لتمتلك السلطة والقوة لتنفيذ خطط التغيير، تصبح الخطط الجيدة للتغيير مجرد هوامش على صفحات كتاب التاريخ، بينما يستمر الوضع الراهن أو بمعنى أوضح يظل النظام القديم قائماً كما كان قبل الأزمة.
ثورات 1848 نموذجاً
تقرير "فورين بوليسي" رصد الثورات الشعبية التي اجتاحت أوروبا عام 1848 ضد الديكتاتوريات الملكية، والتي تخطت حدود أوروبا وانتشرت في بعض الدول الأخرى، وكما لاحظ المؤرخ إيريك هوبسبوم، بعض الثورات على مدار التاريخ "تنتشر بسرعة انتشار النار في الهشيم، متخطيةً الحواجز والحدود والبلاد وحتى المحيطات". وخلال أشهر قليلة، بدأت الديكتاتوريات -التي كانت نافذة ومسيطرة تماماً- في الانهيار تحت وطأة التجمعات الشعبية الضخمة.
ولكن في تلك اللحظات، ظهرت الانقسامات في صفوف الحراك الثوري؛ فالليبراليون من الطبقات الوسطى أرادوا ليبرالية وتحرراً سياسياً، لكنهم عارضوا بشدةٍ أية إصلاحات اقتصادية تُشتمُّ منها رائحة الاشتراكية، بينما أراد العمال تغييراً كاملاً وديمقراطية كاملة بجميع المجالات، وفي الوقت نفسه بدأت الجماعات العرقية والطائفية تنادي بحقوقها الثقافية والحكم الذاتي.
باختصار، مع بداية انهيار النظام القديم أدى غياب خطط متفق عليها بشأن طبيعة ومكونات النظام الجديد الذي يجب أن يحل محل النظام القديم، إلى الاقتتال بين المجموعات الثورية، وهو ما مكَّن داعمي النظام القديم إلى العودة لكل مكان هربوا منه، ودائماً ما يشير المؤرخون إلى عام 1848 على أنه "النقطة الفاصلة التي فشل فيها التاريخ في تغيير وجهته".
أزمات مشابهة
لكن ثورات عام 1848 ليست الدرس الوحيد من التاريخ، فهناك أيضاً الكساد العظيم الذي نتج عنه صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا -وكان أحد الأسباب أيضاً غياب التوافق على خطط بديلة لإنقاذ الاقتصاد – وفي النهاية خاض العالم حرباً عالمية ثانية، بعد أقل من عشرين عاماً على انتهاء الحرب الأولى وكان أحد الأسباب هو أن كارثة بحجم الكساد الكبير لم ينتج عنها التغيير الجذري المأمول، أو بمعنى أدق حدث العكس تماماً.
والسؤال الآن حول إذا ما كانت القوى المعارضة لديكتاتورية وفاشية اليمين المتطرف قادرة على تنحية خلافاتها البينية جانباً والتوافق حول خطط جديدة ونظام جديد، هو الذي سيحدد مصير النظام الحالي الذي تسببت جائحة كورونا في إحداث تشققات ضخمة بأساساته، فهل تؤدي الأزمة الحالية إلى إحداث التغيير المطلوب أم أنها ستكون فرصة للنظام الحالي لأن يرمم نفسه ويواصل الحفاظ على الوضع الراهن؟
اللافت هنا أن ما حدث في العالم العربي منذ اندلاع الموجة الأولى من الثورات الشعبية ضد الديكتاتورية والفساد أواخر عام 2010 وبدايات 2011 وحتى اليوم، يعد نموذجاً آخر ربما أكثر وضوحاً؛ ففي مصر تمكن النظام القديم، المتمثل في الدولة العميقة والحكم العسكري من استغلال الاقتتال الداخلي بين قوى المعارضة التي كانت تحظى بدعم شعبي جارف، من الانقلاب على النظام الجديد والعودة بصورة أكثر شراسة وأكثر ديكتاتورية.
وفي سوريا، تمكن بشار الأسد من البقاء رئيساً رغم التضحيات القاسية التي قدمها السوريون في سبيل التخلص من الديكتاتورية والفساد، ورغم أن الأمر مختلف في تونس -البلد الذي انطلقت منه ثورات الربيع العربي- والسودان الذي نجحت فيه الثورة ولو جزئياً، فإن النظام القديم في البلدين لا يزال متربصاً ويحاول العودة مرة أخرى لكل الأماكن التي اضطر إلى الهرب منها.