أصبحت تحرشات الصين بجيرانها واضحة للعيان أكثر من أي وقت مضى.
ففي الأسبوع ذاته الذي شهد اشتباك جنود صينيين وهنود في عِراك قاتل، كانت إحدى الغواصات الصينية تجوب المياه القريبة من اليابان، مما دفع بتعقّب جحافل الطائرات والسفن لحركتها الخبيثة. ولا يكاد يمضي يومٌ دون سماع أزيز طائرة مقاتلة صينية واحدة على الأقل في المجال الجوّي الإقليمي لتايوان.
وبينما تُشتت جائحة فيروس كورونا انتباه العالم، توغّل الجيش الصيني في أراضي جيرانه على عدّة جبهات طيلة الربيع، والآن يفعلها خلال الصيف. مما عزز قوّته العسكرية على نحوٍ يدقّ نواقيس الإنذار في أنحاء آسيا وواشنطن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
إن الحزم العسكري الصيني لا يعكس فحسب شعوراً متزايداً بالثقة والقدرة، إذ ثمّة شعور آخر بالمواجهة، خاصة على جبهة الولايات المتحدة بشأن الوباء، ومصير هونغ كونغ، وغيرها من القضايا التي تعتبرها الصين محورية في سيادتها وعِزّتها القومية.
بكين تقول إنها عمليات دفاعية ولكنها كادت تتورط في حرب مع الهند
تدعي الصين أن جميع عملياتها الأخيرة دفاعية، ولكن كل منها يزيد من خطر وقوع صدام عسكري، سواء بقصدٍ أو بدون قصد.
ويبدو أن هذا هو ما حدث في ليلة 15 يونيو/حزيران، عندما انخرط الجنود الصينيون والهنود في قتالٍ على طول حدودهم المتنازع عليها في جبال الهيمالايا.
وكان هذا هو الاشتباك الأكثر دموية على هذه الحدود منذ عام 1967. وحسبما أفاد محللون صينيون ووسائل إعلامية هندية وتقارير مخابراتية أمريكية، فقد تسببت تلك المواجهة أيضاً في عدد غير معلوم من القتلى الصينيين، وهو أول قتال في البلاد بعد حربها مع فيتنام في عام 1979.
وقال وو شيكون، رئيس المعهد الوطني لدراسات بحر الصين الجنوبي، في مؤتمر انعقد في بكين هذا الأسبوع، مُزيحاً الستار عن تقرير عن النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة: "أعتقد أن احتمالية الإصابة برصاصة طائشة آخذة في الازدياد".
الجيش الصيني يزداد قوة بمعدل أعلى من أي من جيرانه
لطالما عملت الصين بقوة للدفاع عن أراضي الدولة ومصالحها، لكنها تعمل الآن بقوة عسكرية تفوق ما كانت عليه في أي وقت مضى.
يقول آدم ني، مدير مركز سياسة الصين البحثي في كانبيرا، أستراليا: "إن قوّة الصين تنمو بمعدل يفوق كثيراً القوى الإقليمية الأخرى. وقد وهب ذلك لبكين بالفعل المزيد من الأدوات تحت تصرفها للدفع بأجندةٍ أكثر حزماً وعدوانية".
يأتي الإيقاع المتزايد للعمليات هذا العام في أعقاب برنامج التحديث العسكري الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي وتسارع تحت قيادة الصين الطموحة والسلطوية للرئيس شي جين بينغ. إذ عكف على نحو مضطرد على تطهير صفوف الجيش من الضباط الفاسدين أو الذين لا يُبدون ولاءً كافياً، وحَوّل دفّة تركيز جيش التحرير الشعبي من المعارك البرية العنيفة إلى عمليات مشتركة أكثر مرونة باستخدام الأسلحة الجوية والبحرية، وتشمل استخداماً متزايداً للأسلحة السيبرانية أيضاً.
وجعل شي الجيش أولوية أكبر في أعقاب الوباء، إذ أعلن رئيس الوزراء الصيني، لي كه تشيانغ، الشهر الماضي أن الميزانية العسكرية سترتفع بنسبة 6.6% هذا العام، لتقترب من 180 مليار دولار، وهو ما يعادل نحو ربع ميزانية الدفاع الأمريكية، وذلك رغم توقع انخفاض الإنفاق الحكومي الإجمالي بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي.
في مجلس الشعب الصيني، أشار شي إلى الدور الذي لعبه الجيش في ووهان، التي شهدت بدء تفشي المرض في الصين، وحذر من أن الوباء يشكل تحديات للأمن القومي. وقال إنه يتعيّن على البلاد "تكثيف الاستعدادات لخوض النضالات العسكرية، وإجراء تدريبات عسكرية فعلية بمرونة، وإضفاء تحسين شامل على قدرة جيشنا على القيام بمهام عسكرية".
وأصبح أقرب للجيش الأمريكي في هذه المجالات
يشيع الاعتقاد بأن الجيش الصيني لا يزال في موضعٍ أدنى كثيراً من نظيره الأمريكي، ولكنه تميّز في بعض النطاقات العسكرية، لا سيّما مدّ قوته البحرية ونشر الصواريخ المضادة للسفن والطائرات.
حسب تقرير صدر الشهر الماضي عن مركز الكونغرس للخدمات البحثية في واشنطن، فبحلول نهاية العام الماضي، كان يُعتقد في امتلاك الصين ما لا يقل عن 335 سفينة حربية، ويزيد ذلك عما تمتلكه الولايات المتحدة، التي لديها 285 سفينة حربية في أسطولها.
وقال التقرير إن الصين تشكل الآن "تحدياً كبيراً لقدرة البحرية الأمريكية على فرض السيطرة على مناطق البحار المفتوحة غرب المحيط الهادئ – وهو أول تحد تواجهه البحرية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة".
تحرشات الصين بجيرانها
وقد كثفت الصين من نشاطها العسكري بالقرب من تايوان بعد إعادة انتخاب رئيس الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، تساي إنغ ون، في يناير/كانون الثاني بفوزه على مرشح كان ينظر إليه بوصفه أقل عداءً لبكين.
وأبحرت إحدى حاملتي الطائرات في الصين على طول الساحل الشرقي لتايوان في أبريل/نيسان، مصحوبة بخمس سفن حربية أخرى. وحلّقت الطائرات الصينية مراراً في المجال الجوي التايواني خلال الأسبوع الماضي، فيما قال محللون إن تلك الممارسات تُعد اختباراً لدفاعات الجزيرة. وتخطط الصين إجراء مناورة عسكرية في أغسطس/آب، يقال إنها ستحاكي الاستيلاء على جزر براتاس التايوانية، وهي مجموعة من الجزر المرجانية المعروفة في جزر الماندرين باسم جزر دونغشا.
ومدّت الصين أيضاً نطاق عملياتها إلى بحر الصين الجنوبي، إذ أسست منطقتين إداريتين جديدتين لحكم الجزر التي تسيطر عليها في سلسلتي باراسيل وسبراتلي، ولتهديد جيران آخرين.
في أبريل/نيسان، صدم خفر السواحل الصيني سفينة صيد فيتنامية وأغرقها. وفي الشهر نفسه، طاردت سفينة استطلاع حكومية صينية سفينة نفط في المياه التي تزعم ماليزيا ملكيتها، مما دفع الولايات المتحدة وأستراليا لإرسال أربع سفن حربية لمراقبة الوضع. وتقدمت الفلبين بشكوى دبلوماسية رسمية بعدما وجهت سفينة حربية صينية رادارها لاستهداف سفينة بحرية فلبينية.
في بحر الصين الشرقي، اكتُشفت غواصة صينية الأسبوع الماضي كانت هي الأولى منذ عام 2018، حينما أرغمت السفن الحربية اليابانية غواصة هجومية نووية على الطفو. ويأتي ذلك في أعقاب توتّر متصاعد إثر إدارة اليابان لجزر سينكاكو، التي يطلق عليها الصينيون جزر دياويو.
يقول تايلور فرافل، مدير الدراسات الأمنية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وخبير الجيش الصيني: حينما ترى الصين تحدّياً يواجهها متمثلاً في نزاعات بشأن سيادة الأطراف الأخرى في المنطقة، فإنها تتخذ مساراً صارماً في الرد".
وقاذفاتها تحلق رغم قدمها
ويقول فرافل، مشيراً إلى الحشد المستمرّ للقوات البحرية والجوّية الصينية: "لم تنعم الصين قطّ بالقدرة على تأكيد نفسها في المجال البحري قبل السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية: "لقد مكّن ذلك الصين من الضغط لإقرار مطالبها في شرق وجنوب بحر الصين أكثر من ذي قبل".
وكثّف ذلك الدوريات في سماء المنطقة؛ إذ قال الجنرال تشارلز كيو براون جونيور، قائد القوات الجوّية في منطقة المحيط الهادئ الذي سيتولّى قريباً منصب رئيس أركان القوّات الجوّية، يوم الأربعاء، إن الصين حتّى وقت قريب لم تكن تقوم سوى ببعثات لقاذفاتها من طراز H-6 من حين لآخر، ولكنّها اليوم تقوم بذلك يومياً.
ورغم قِدم تلك القاذفات، جددتها البلاد وجهّزتها بصواريخ جديدة استعرضتها الصين في عرض عسكري خلال أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، احتفالاً بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
ولكنه لم يخض معارك حقيقية منذ عقود
ورغم كافة أنشطتها الأخيرة، لم يخضع بعد الجيش الصيني للاختبار الفعلي، إذ كان الاشتباك مع الهنود بمثابة معركة حجارة لا أسلحة نارية. لذا لا تكاد تعد هذه اختباراً للتأهّب العسكري الصيني. كما أثار الاشتباك تساؤلات حول التدريب والانضباط.
لا تزال تفاصيل الحادث غامضة ويستحيل التحقق منها بشكل مستقل، ولكن وفقاً لبعض الروايات التي طرحتها وسائل الإعلام الهندية، فإن ثمة وضعاً متوتّراً، يُمكن السيطرة عليه، خرج عن السيطرة بسبب قيادات مستحدثة تفتقر إلى الخبرة من أجزاء أخرى من التبت، والتي لم تلتزم بالبروتوكولات المعتادة في حالات نزع فتيل المواجهات.
لم تكشف الصين عن عدد الضحايا من جانبها، ولكن تقريراً صدر عن منصّة India Today الهندية الرئيسية في البلاد، قال إن القوات الهندية سلّمت البلاد جثث 16 جندياً صينياً. ورجّح مسؤول استخباراتي أمريكي أن الصين تخفي خسائرها عن قصد. وأُشير إلى فقدان الهند 20 إلى 30 جندياً.
وقال المحلل العسكري المستقل، سونغ تشونغ بينغ، إن الرقم أقل من المزاعم الهندية ولكنه لن يُعلَن رسمياً "لتجنب تأجيج المشاعر في الهند".
والأولوية له هي الولايات المتحدة وليس الهند
رغم أهمّية التوتّرات التي تشهدها مع الهند، فإنها ليست الأولوية العسكرية الصينية الأساسية، إذ تحتل مواجهة ما تعتبره الصين عدواناً أمريكياً جوار الصين عرش الأولوية.
وصعّدت الولايات المتحدة كذلك نشاطها العسكري في المنطقة. إذ أرسلت سفناً حربية أمريكية عبر بحر الصين الجنوبي وكثفت دعمها لتايوان وجيشها -وهي قضايا تجلَّت هذا الشهر عندما التقى وزير الخارجية مايك بومبيو مع الدبلوماسي الصيني البارز، يانغ جيتشي، في هاواي.
يصبّ الصينيون اللوم على الولايات المتحدة فيما يتعلّق بالتوترات في المنطقة، متهمين الجيش الأمريكي بالتدخل المستمرّ في منطقة ليس لواشنطن بها مزاعم إقليمية.
وحذر تشو فنغ، المدير التنفيذي لمركز الصين للدراسات التعاونية لبحر الصين الجنوبي، والذي ساهم أيضاً في تقرير النشاط العسكري الأمريكي هناك، من احتمال تفاقم المواجهة مع احتدام الحملة الرئاسية الأمريكية.
وقال إن "الولايات المتحدة قد كبّلت الصين بمِقبضين؛ أحدهما بحر الصين الجنوبي والآخر تايوان".