"بوتين اخترق الغرب وهو أصدقاؤه وأرصدتهم تصل إلى 800 مليار دولار".
كان هذا بعض ما ورد في كتاب Putin's People: How the KGB Took Back Russia and Then Took On the West.
في هذا الكتاب تعرض الصحفية البريطانية كاثرين بيلتون ما تقول إنه، الطريقة التي شكلت بها المخابرات السوفيتية بوتين وروسيا الحديثة.
تدفع كاثرين بأن بوتين لم "ينثن" أبداً عن سعيه لاستعادة قوة المخابرات السوفيتية، التي بدا أنها، إلى جانب الاتحاد السوفيتي، أصبحت من مخلفات الماضي.
وتتتبع كاثرين التاريخ المهني لبوتين وشركائه من جواسيس من المستوى المتوسط في الثمانينيات إلى قمة السياسة والشركات الروسية بعد انقلاب الوضع في التسعينيات، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لم يكتف بشرب البيرة في ألمانيا، بل حاك بداية المؤامرة
وتدفع كاثرين بأنهم أسسوا نظاماً يسير على نهج المخابرات السوفيتية KGB للحفاظ على سيطرتهم على السلطة، والتلاعب بمئات المليارات من الدولارات في تدفقات الأموال، ومد النفوذ الروسي إلى عمق الغرب.
ولفهم الطريقة التي يعمل بها بوتين، تشير كاثرين إلى أنه من الضروري العودة إلى مدينة درسدن بألمانيا الشرقية، حيث عُين بوتين ضابط استخبارات أجنبي عام 1985. ورغم أن معظم روايات هذه الفترة عن حياة بوتين تشير إلى أنه لم يفعل سوى أكثر قليلاً من تعلم اللغة الألمانية وشرب البيرة، ترسم كاثرين صورة مغايرة تماماً.
وتقول إن بوتين كان منخرطاً في إدارة العملاء، وتجنيدهم، وسرقة التكنولوجيا، بل وإدارة الجماعات الإرهابية اليسارية التي نفذت عمليات اغتيال على الجانب الآخر من الستار الحديدي. وفي الوقت نفسه، كان بوتين مطلعاً على التدابير التي اتخذتها المخابرات السوفيتية للحفاظ على نفوذها في حالة انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وهو ما كان يتوقعه بعض الضباط المتبصرين.
وفي المجمل، كان ذلك يعني إنشاء صناديق أموال سوداء يشرف عليها "أمناء صناديق محل ثقة" و"شركات صديقة" وإنشاء خطط تهريب وشبكات وكلاء معقدة في الخارج. وتدفع كاثرين بأن ما كان بوتين والمخابرات السوفيتية يجهزون له في الثمانينيات من القرن الماضي، هو "مخطط لكل شيء كان سيأتي لاحقاً".
زملاؤه السابقون يسيطرون على الثروة والسلطة
لكن كتاب Putin's People لا يتناول عمليات التجسس الروسية في الخارج فحسب. ولكن تركيزه الرئيسي، كما يوحي عنوانه، هو مجموعة رجال الأعمال والمسؤولين الأقوياء في قلب الكرملين، وما يفعلونه بأموالهم ونفوذهم.
ومن غير المستغرب أن جميع الشخصيات تقريباً في كتاب كاثرين سبق لهم العمل في المخابرات السوفيتية. فيوجد إيغور سيتشين، عميل المخابرات السوفيتية السابق في شرق إفريقيا الذي عمل سكرتيراً لبوتين في التسعينيات (تذكر كاثرين قصة يطلب فيها رشوة بقيمة 10 آلاف دولار لرئيسه) وهو الآن رئيس شركة النفط المملوكة للدولة Rosneft. ويوجد غينادي تيمشينكو، الذي درس اللغة الألمانية مع بوتين في مدرسة تدريب المخابرات السوفيتية قبل أن ينتقل إلى تجارة النفط وجمع ثروة بقيمة 14 مليار دولار.
وهناك أندريه أكيموف، الذي كان عميلاً استخباراتياً سوفيتياً في فيينا وأصبح مشاركاً رئيسياً في استيلاء الدولة على شركة النفط الخاصة يوكوس Yukos والمخططات المالية المعقدة المستخدمة في الاستيلاء على مليارات الدولارات من صفقات تصدير الغاز.
لكن كاثرين تذهب إلى أبعد من ذلك، وتوضح كيف أن حتى أصحاب المليارات الذين يُنظر إليهم على أنهم أكثر استقلالية مرتبطون بالكرملين ارتباطاً وثيقاً. وتصف كيف أن مالكيّ مصرف ألفا بانك الخاص، ميخائيل فريدمان وبيوتر أفين، عينا أقارب معارف بوتين الجواسيس في ألمانيا الشرقية وكيف أن بوتين أمر الملياردير رومان أبراموفيتش بشراء نادي تشيلسي لكرة القدم عام 2003.
وكان خضوع الشركات الروسية واضحاً خلال تفشي فيروس كورونا حيث تعتمد السلطات على الأغنياء لتوفير عشرات الملايين من الدولارات لتعزيز قدرات نظام الرعاية الصحية.
مؤامرة بدأت قبل انهيار الاتحاد السوفيتي
وتشرح كاثرين كيف أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو "عمل داخلي" نفذه رجال المخابرات السوفيتية وأن صعود بوتين إلى الرئاسة عملية مخطط لها بعناية من عمليات المخابرات السوفيتية.
وفي كلتا الحالتين، كانت هاتان العمليتان من العمليات السياسية المعقدة التي تنطوي على أكثر من مجرد مكائد زمرة من الجواسيس المحترفين.
وتستعين كاثرين أيضاً بمصادر مجهولة وأدلة ظرفية لإعطاء مصداقية جديدة لبعض الشائعات المخيفة التي ظهرت في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي: وهي أن بوتين متورط في مقتل رئيسه في التسعينيات أناتولي سوبتشاك، وأن حليفه نيكولاي باتروشيف نظم الحصار الإرهابي لمسرح في موسكو عام 2002، الذي قُتل فيه 170 شخصاً على الأقل، لتغطية بوتين بالدم و"ربطه بالرئاسة".
ولا يوجد سبب للشك في قسوة من كانوا يوماً ضباطاً في المخابرات السوفيتية، لكن أجهزة الأمن الروسية بعيدة كل البعد عن القوة المطلقة. إذ إن الفساد وانعدام الكفاءة والصدف هي أيضاً من ضمن مظاهر السياسة الروسية.
وما هو أكثر مدعاة للتأمل تطرق كاثرين لتلاعب نظام بوتين بالنظام الاقتصادي لجمع ثروات شخصية للمقربين منه، وإنشاء "صناديق حرب" تُمَوَّل سراً، وتمويل عمليات التأثير في الخارج. ويُظهر كتاب Putin's People، من خلال العديد من المحادثات مع المصرفيين ومصادر من الكرملين وجواسيس سابقين، كيف أن شركاء بوتين استحوذوا تدريجياً على الاقتصاد الروسي عن طريق اختلاس بعض أصول شركة غازبروم الحكومية التي تحتكر الغاز، والاستيلاء على الأموال من صادرات الطاقة، وإنشاء شركات مالية، مثل شركة التأمين Sogaz وBank Rossiya، التي يسيطر عليها رجال بارزون في الكرملين.
بوتين اخترق الغرب بفضل معرفته بنقطة ضعفه الكبرى
وتدفع كاثرين بيلتون على نحو مقنع بأن هذه العمليات حرض عليها الكثيرون في الغرب، الذين اعتقدوا أن دمج روسيا في الأسواق المالية العالمية سيدخلها إلى حظيرتهم بعد نهاية الشيوعية. لكن التسجيل الأجنبي للشركات الروسية ومداهنة المحامين والممولين والمسؤولين الغربيين لهذه الشركات أثرى ببساطة المقربين من بوتين، ورسخ لشكل من أشكال رأسمالية الدولة، وفي النهاية أعاق النمو الاقتصادي للبلاد.
وتكتب كاثرين أن المصرفيين في الولايات المتحدة وأوروبا "أعماهم تدفق السيولة. ورجال بوتين قدّروا بدقة أن الأموال عند الغرب تتفوق على كل المخاوف الأخرى".
وفي الوقت الذي انهارت فيه علاقات روسيا مع الغرب في أعقاب ضم موسكو 2014 لمنطقة شبه جزيرة القرم الأوكرانية، كانت قبضة بوتين على الاقتصاد الروسي شبه كاملة، وفقد الغرب فرصته لتشكيل نظام بوتين. ونقلت كاثرين عن أحد المصرفيين قوله: "جميعها أموال بوتين. وحين وصل إلى السلطة، بدأ بالقول إنه لم يكن أكثر من مدير بأجر. ولكنه أصبح بعد ذلك المساهم المسيطر على روسيا كلها". وصُرفت بعض هذه الأموال على مظاهر الترف لبوتين وأقرب حلفائه، ولكن وفقاً لكاثرين، تم تحويل جزء كبير منها أيضاً إلى الخارج، بعيداً عن الرقابة الديمقراطية، لتقويض المؤسسات في الغرب، من الانتخابات الأمريكية إلى التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 والأحزاب السياسية الهامشية في أوروبا.
وبحسب كاثرين، يملك رجال بوتين من المخابرات السوفيتية 800 مليار دولار "مخفاة في حسابات مصرفية خارجية".
هل ينهار نظام بوتين؟
وفي وقت سابق من هذا العام، أعلن بوتين سلسلة من التغييرات الدستورية التي ستمكّنه من البقاء رئيساً حتى عام 2036، مما حوله فعلياً إلى قيصر العصر الحديث. ولكن ما هو مصير نظام المخابرات السوفيتية في روسيا؟ هل سيدوم بعد موت بوتين، أم أن نهايته أقرب بكثير؟ هل يمكن، كما قال والد صديقي ذات مرة، "كسر" بوتين؟.
لا توجد الكثير من الدلائل على أي انهيار سياسي وشيك أو أن بوتين على وشك أن "ينكسر" إما عن طريق خصومه المحليين أو مؤامرة أجنبية. لكن أزمة فيروس كورونا أظهرت بوتين أكثر ضعفاً مما قد يتذكره العديد من المراقبين، وتستمر معدلات شعبيته في الانخفاض. وقد انقلبت خطط الكرملين السياسية: إذ تأجل الاستفتاء على الدستور وألغيت الفعاليات التاريخية بمناسبة الذكرى 75 لانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية جزئياً.
تعرض كاثرين بعض التوقعات الأولية عن طول عمر النظام في كتاب Putin's People، مما يشير إلى أن بوتين محكوم عليه بتكرار أخطاء أسلافه في المخابرات السوفيتية. وحذرت من أن حكم رجال بوتين في المخابرات السوفيتية "يتحجر"، ويواجه خطراً حقيقياً بـ"أن يصبح أكثر هشاشة يوماً بعد يوم".