تشهد الحرب الكلامية التي تشنها فرنسا ضد تركيا بشأن الوضع في ليبيا تناقضات صارخة في ثناياها وتعكس تحولات في موقف باريس تبعدها عن محيطها الأوروبي ووضعها في المعسكر الغربي بشكل عام وتقربها من روسيا، فما سر الموقف المرتبك للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقصر الإليزيه؟
تقارب مع موسكو
أمس الأربعاء 24 يونيو/حزيران، قال قصر الإليزيه إن ماكرون سيناقش عدة قضايا أمنية تشمل أوكرانيا وليبيا وإيران مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال اتصال عبر دائرة تلفزيونية الجمعة 26 يونيو/حزيران، مضيفاً في بيان أن "هناك حاجة لمزيد من التقدم في جدول أعمال الأزمة، خاصة فيما يتعلق بأوكرانيا".
يأتي ذلك على خلفية دعوة ماكرون أوروبا إلى النظر بعين فاحصة في شراكتها الاستراتيجية مع روسيا قائلاً إن سياسة التحدي مع موسكو في السنوات القليلة الماضية لم تنجح، في إشارة "رقيقة" إلى الموقف الذي اتخذته أوروبا وأمريكا رفضاً لغزو موسكو وضمها لشبه جزيرة القرم بالقوة في تحد للقانون الدولي.
عداء لتركيا
وفي نفس اليوم، أيضاً أمس الأربعاء، دعا وزير الخارجية الفرنسي نظراءه في دول الاتحاد الأوروبي إلى إجراء محادثات عاجلة بشأن العلاقات المستقبلية للتكتل الأوروبي مع تركيا، وذلك على خلفية الصدام بين أنقرة وباريس بشأن الوضع في ليبيا.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، ساءت العلاقات بين الدولتين، مع تشديد فرنسا لهجتها المنتقدة للدعم العسكري الذي تقدمه تركيا لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، وقال وزير الخارجية جان إيف لو دريان للمشرعين: "ترى فرنسا أن من الضروري أن يفتح الاتحاد الأوروبي بأقصى سرعة نقاشاً جوهرياً، مع عدم استبعاد أي شيء، ودون سذاجة، حول آفاق العلاقة المستقبلية للاتحاد الأوروبي مع أنقرة"، مضيفاً أنه على الاتحاد الأوروبي الدفاع عن مصالحه الخاصة بحزم.
وفي ظل كون فرنسا وتركيا حليفتين كونهما عضوين في حلف الناتو، الذي تأسس بقيادة أمريكية في مواجهة حلف وارسو بقيادة سوفيتية، يصبح الموقف معقداً بصورة تستدعي محاولة تفكيكه حتى تكون الصورة أوضح، فالخلافات بين الحلفاء واردة، لكن أن يصل الخلاف إلى حد تغيير تحالفات تاريخية فلابد من أن هناك أسباباً أكثر عمقاً من مجرد الفصل الأخير من الأحداث.
وبما أن الخلاف بين باريس وأنقرة سببه الصراع في ليبيا، فمن المهم هنا تفصيل موقف كل منهما من ذلك الصراع منذ بدايته وحتى اليوم، أيضاً كي تكون الصورة واضحة وحتى يمكن وضع تصورات منطقية حول مسارات الأحداث.
الدور الفرنسي في الصراع الليبي
يأتي ذلك بعد يومين من توجيه ماكرون اتهاماً لتركيا بممارسة "لعبة خطيرة" في ليبيا، وكان الرد التركي حاسماً بالقول إن ماكرون قد أصابه "كسوف في العقل" لمعارضته دعم أنقرة لحكومة طرابلس.
وبالعودة لبداية الأزمة في ليبيا، نجد أن فرنسا كانت رأس الحربة في تدخل حلف الناتو في ليبيا، منذ فبراير/شباط 2011، مع بدء الموجة الأولى من ثورات "الربيع العربي"، حيث استخدم الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي القوة المسلحة في قمع الانتفاضة الشعبية، وفي أعقاب إصدار مجلس الأمن الدولي قرارين بشأن الموقف هناك، أطلق "الناتو" عملية "الحامي الموحد" في ليبيا وأعلن منطقة حظر للطيران.
وكانت فرنسا أكثر الدول الأوروبية حماساً لتنفيذ غارات جوية ضد قوات القذافي، ونفذ حلف الناتو 26 ألف طلعة جوية في ليبيا، بمشاركة 8 آلاف جندي و21 سفينة حربية وأكثر من 250 طائرة، ونتيجة لهذا التدخل، امتلكت المعارضة الليبية زمام المبادرة، وأسقطت حكم القذافي عام 2011، ما دفع الحلف إلى إنهاء مهمته في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
منذ سقوط القذافي، دخلت ليبيا في نفق مظلم من الصراعات بين الأطراف الداخلية، مما جعلها مسرحاً للفوضى وسيطرت على بعض مناطقها جماعات إرهابية مثل داعش وهو ما أدى إلى أن تصبح مسرحاً للحرب على الإرهاب منذ عام 2014، وبدأ التدخل الأجنبي يأخذ أشكالاً متعددة وبدأت تتبلور الأطماع في ثروات البلاد الضخمة من النفط والغاز وغيرهما.
وبدأت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي محاولات مساعدة الليبيين على تشكيل سلطة معترف بها دولياً، وتم التوصل لاتفاق سياسي عام 2016 هو اتفاق الصخيرات والذي انبثقت عنه حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وكانت العلاقات بين فرنسا وتركيا في ذلك الوقت طبيعية إلى حد كبير ولا يبدو أن هناك خلافات، على الأقل بشكل علني فيما يتعلق بليبيا، رغم أن باريس كانت تدعم خليفة حفتر بينما تدعم أنقرة حكومة الوفاق، فلم يكن حفتر قد كشف عن وجهه الانقلابي بعد ولم يشن هجومه على العاصمة طرابلس طمعاً في السيطرة على ليبيا وفرض نظام حكم ديكتاتوري عسكري يرفضه المجتمع الدولي، ولو من ناحية الشكل.
الرهان على الطرف المهزوم
يرجع الرهان الفرنسي على حفتر إلى أسباب متعددة منها مشاركة باريس عسكرياً في منطقة الساحل الإفريقي ومناطق نفوذها الاستعماري القديم، ووجود نظام عسكري حليف لها في ليبيا موضع ترحيب بالطبع من جانب باريس. ومن هذا المنطلق، لعب كثيرون في وزارة الدفاع الفرنسية وفي قصر الإليزيه على ورقة عودة نظام قوي في ليبيا.
وكان وزير الدفاع السابق ووزير الخارجية الحالي جان إيف لو دريان واحداً من أصحاب هذه الرؤية باسم "الحرب ضد الإرهاب"، وفي أبريل/نيسان 2019، كانت التوقعات في باريس، وخصوصاً بين مستشاري ماكرون أن حفتر قادر بالفعل على السيطرة على طرابلس في غضون أيام قليلة.
ومن اللافت هنا ما جاء في مقال في صحيفة لوفيغارو، حول زيارة وزير الخارجية إلى ليبيا في بداية عدوان حفتر على طرابلس تحت عنوان "تقريب الإخوة الأعداء الليبيين"، حيث كان واضحاً تماماً أن لودريان في زيارة دعم لحفتر.
وبالتالي رفضت باريس إدانة هجوم حفتر على طرابلس، ورفضت بشكل مستمر تحميله مسؤولية الحرب، كما حرصت فرنسا على عدم أخذ موقف واضح والانحياز لأي من الطرفين، مع غض الطرف عن حفتر ومورده الرئيسي للأسلحة أي الإمارات العربية المتحدة.
دموع التماسيح
هذا السياق يوضح أسباب التصعيد الفرنسي للهجوم على تركيا ومحاولة تصويرها على أنها الطرف الذي ينتهك القانون الدولي ويساعد على تأجيج الصراع في ليبيا، وهو الموقف الذي وصفه تقرير لموقع Euroobserver بـ"دموع التماسيح".
التقرير يتحدث عن الشكوى التي تقدمت بها فرنسا لدى حلف الناتو بشأن تهديد مقاتلات تركية لإحدى الطائرات الفرنسية في البحر المتوسط قبل أيام، وهو الحادث الذي قال السكرتير العام لحلف الناتو جينس ستولتينبرغ إنه "تم التطرق إليه أثناء اجتماع" الخميس الماضي 18 يونيو/حزيران.
الحادث من وجهة النظر الفرنسية دليل على أن أنقرة تسلم أسلحة إلى حكومة الوفاق في انتهاك لحظر الأسلحة المفروض على جميع الأطراف المتنازعة في ليبيا، "لكن في نفس الوقت لابد وأن شكوى فرنسا من التدخل الأجنبي في ليبيا قد بدا مثل دموع التماسيح بالنسبة للمناقشات بين أعضاء حلف الناتو"، بحسب التقرير.
قد تكون تركيا انتهاكاً لحظر الأسلحة على ليبيا لكنها على الأقل تحارب في صف حكومة الوفاق الشرعية والتي تحظى باعتراف الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بحسب مراقبي الاتحاد الأوروبي، عكس فرنسا التي تدعم طرفاً انقلابياً وغير شرعي تدعمه أيضاً روسيا التي تريد أن يكون لها قواعد في خاصرة أوروبا الجنوبية وهو ما يمثل تهديداً خطيراً لأمن الناتو وأوروبا.
وبالتالي فإن التحقيق في الشكوى الفرنسية بشأن الحادث المزعوم لن يكون في صالح باريس، خصوصاً أن الطرف الذي تدعمه وهو حفتر لم يهزم عسكرياً فقط، ولكنه الآن متهم بارتكاب جرائم حرب بعد اكتشاف مقابر ترهونة الجماعية.