فجأةً أصبحت مدينة سرت الساحلية في ليبيا "خطاً أحمر" للجميع، فهل الأسباب اقتصادية بحتة أم استراتيجية وعسكرية، أم كل ذلك معاً؟ والأهم ما السيناريوهات الأقرب على الأرض في ظل الدعوات للعودة للتفاوض بعد فشل مشروع حفتر وداعميه؟
موقع Al-Monitor الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "لماذا سرت "خطٌ أحمر" للجميع في ليبيا؟"، ألقى الضوء على الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمدينة الساحلية بالنسبة لجميع الأطراف والسيناريوهات المتوقعة هناك.
انتظار للتفاوض التركي- الروسي
تعثر التقدم السريع لقوات طرابلس المدعومة من تركيا في ليبيا عند مدينة سرت الساحلية المهمة استراتيجياً، إذ عززت روسيا من دورها في الصراع، إيذاناً بتفاوضٍ صعب بين أنقرة وموسكو.
فالمسيرات التركية التي أسهمت في قلب موازين الصراع لصالح حكومة الوفاق الوطني، بدأت تصل إلى حدود مداها التشغيلي، بعد ابتعاد القوات الحكومية عن طرابلس من أجل مطاردة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وعلى جانب حفتر تنضم إلى المسيرات الإماراتية طائرات ميغ-29 النفاثة الروسية، فيما يبدو محاولةً من روسيا لإعاقة أي تقدم لحكومة الوفاق الوطني نحو سرت.
وقد أدت الهزائم التي تعرّض لها حفتر في محيط طرابلس إلى توقعات بأن طرفي النزاع سيعودان إلى مواقع سيطرتهما قبل شنّ الجيش الوطني الليبي هجومه الضاري على العاصمة، في أبريل/نيسان 2019، وأن شراكة تركية روسية ستتكون للدفع بالعملية في ذلك الاتجاه.
حفتر أفشل وقف إطلاق النار
وكانت الطعنة الأولى التي تعرّض لها التعاون المشترك بين روسيا وتركيا في يناير/كانون الثاني، حين وقعت أنقرة اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني، وصعدت تركيا من تدخلها العسكري في ليبيا، لكن المحاولة فشلت حين أصرّ حفتر على محاولة الفوز بطرابلس.
وبعد خسارة الجيش الوطني الليبي لقاعدة الوطية، الشهر الماضي، سحبت موسكو مرتزقة شركة Wagner الداعمين لحفتر إلى قاعدة الجفرة في وسط ليبيا، فيما اعتبره المحللون إشارةً إلى أن الجفرة ستكون خطاً أحمر بالنسبة لروسيا.
وقد سيطر حفتر على الجفرة في 2017، في حين سقطت سرت، التي تبعد عنها 300 كيلومتر إلى الشمال، في أيدي قواته في يونيو/حزيران 2019. وقد أظهرت روسيا أنها ستحتفظ بمواقعها هناك حين نشرت 14 طائرة ميغ-29 وسو-24 على الأقل، في أواخر مايو/أيار، ولم تُبدِ روسيا أي مرونة بشأن سقوط سرت في قبضة الوفاق أيضاً، ما حطم آمال أنقرة في تكرار انتصاراتها السهلة نسبياً في الوطية وترهونة.
وفي الرابع عشر من يونيو/حزيران، أجّل وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان زيارتهما لتركيا في الدقيقة الأخيرة، مع استمرار الاتصالات بين الجانبين على مستوى أدنى، وقد انسحب الروس من المحادثات بعد رفض تركيا مقترحاً مصرياً لوقف إطلاق النار يتماشى مع الخطة الروسية، إذ عزم المسؤولون في تركيا على استمرار الزحف العسكري لقوات حكومة الوفاق الوطني.
وفي حوارٍ تلفزيوني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم الثامن من يونيو/حزيران، قال أردوغان إن سرت والجفرة وحقول نفط كبرى هي الأهداف القادمة للحملة العسكرية، واعترف أردوغان بأن روسيا "منزعجة"، وأنه سيناقش هذا الشأن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وبالمثل، تعهد وزير الداخلية بحكومة الوفاق الوطني بالسيطرة على سرت، وأمر رئيس الوزراء فايز السراج، بعد عودته من مباحثات في أنقرة، باستكمال الهجوم، وقال الناطق باسم غرفة عمليات تأمين وحماية سرت والجفرة، العميد عبدالهادي دراه، إن "سرت خطٌّ أحمر" بالنسبة لحكومة الوفاق.
سرت "خط أحمر" لجميع الأطراف
تقبع سرت في منتصف الساحل الليبي، وهي المدخل الغربي لمنطقة "الهلال النفطي"، والطريق الذي يتعين السيطرة عليه من أجل السيطرة على موانئ السدرة وراس لانوف ومرسى البريقة والزويتينة، حيثُ تتصل 11 خط أنابيب للنفط وثلاثة خطوط أنابيب للغاز بساحل البحر المتوسط، والاستيلاء على سرت سيسهل السيطرة على 350 كيلومتراً من الساحل الليبي حتى بنغازي، تضم وفرة من خطوط الأنابيب ومعامل التكرير والمحطات ومنشآت التخزين، وقد منحت السيطرة على "الهلال النفطي"، الذي يضم 60% من ثروات ليبيا الهيدروكربونية، أفضلية لحفتر يُضعف بها قوات طرابلس ومصراته.
وفي ليبيا ما قبل الحرب كان 96% من الدخل العام يأتي من الهيدروكربونات، ويصل احتياطي البلاد من النفط إلى 48.3 مليار برميل من النفط و1.5 تريليون متر مكعب من الغاز، غير أن إنتاجها من النفط انحدر إلى 90 ألف برميل يومياً من 1.6 مليون برميل في العام الماضي.
الخلاصة أن السيطرة على "الهلال النفطي" بطريقة تضمن تدفق الموارد النفطية يُمكن أن تُحدث أثراً مضاعفاً في قلب موازين الصراع، وسرت ضرورية للسيطرة على المنطقة.
وبعد سيطرتها على الوشكة في السادس من يونيو/حزيران، زحفت قوات الوفاق الوطني على سرت من ثلاث جبهات، لكن الغارات الجوية الداعمة لحفتر عرقلت تقدم قوات الوفاق، وقد زاد المأزق العسكري من ترقب المحادثات التركية الروسية، غير أن احتمال إحراز تقدم في المحادثات يظل ضعيفاً حتى يجلس أردوغان مع بوتين.
وتسعى تركيا إلى إرساء تواجد عسكري دائم في ليبيا، وتضع قاعدة الوطية الجوية وقاعدة بحرية في مصراته نصب أعينها. ويزعم البعض أن روسيا قد توافق على سيطرة روسية في الجفرة مقابل سرت. ويُزعم أن تركيا تضع عينها على قاعدة القرضابية الجوية في حالة سقوط سرت.
أما روسيا فيرى البعض أنها من جانبها تضع عينها على استعمال سرت كقاعدة بحرية، إلى جانب الجفرة، سعياً لتعزيز موقفها في منطقة البحر المتوسط، بعد سيطرتها على قواعد في طرطوس واللاذقية في سوريا، وليس مفاجئاً أن هذه الاحتمالات أقلقت حلف الناتو، الذي ينتابه القلق من محاصرة جبهته الجنوبية، غير أن حلف الناتو لم يتوصل إلى موقفٍ محدد في هذا الشأن.
ويبدو أن تركيا وحلفاءها عازمون على إقصاء حفتر من محادثات تسوية النزاع المرتقبة، ولن تُخاطر روسيا على الأرجح بإفساد المفاوضات بالتمسك بحفتر، فبعد هزائمه الأخيرة، بدأت موسكو في تصعيد نجم عقيلة صالح عيسى، رئيس برلمان طبرق. لكن يظل على الطرفين حسم مكاسبهما في سرت والجفرة قبل البحث عن مخرج من الصراع.