بدا على الرئيس ترامب نفاد الصبر في اجتماع عقده مؤخراً مع كبار مستشاريه السياسية؛ حين حذروه من أنه يسلك طريقاً نهايته المحتومة هي الهزيمة إذا ما استمر في سلوكه التحريضي على الملأ على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، كما تنقل ذلك صحيفة New York Times الأمريكية.
تحريض على المتظاهرين ونعتهم بالإرهابيين
وكان ترامب قد أثار قبل هذا الاجتماع بأيام موجة من الذعر باستجابته للتظاهرات على وحشية الشرطة بتهديد قال فيه: "حين يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار".
وذكرت ثلاثة مصادر اطلعت على ما جرى في أروقة الاجتماع أن ترامب دخل في جدل مع مساعديه زاعماً أنه "ينبغي أن يكون نفسه". وبعد الاجتماع بساعاتٍ قليلة نشر على تويتر خطاباً من محاميه الشخصي السابق ينعت فيه بعض المتظاهرين بأنهم "إرهابيون".
وذكر مقربون من ترامب أن تكرار التصرفات المدمِّرة لمستقبله السياسي –ومن بينها الصورة التي التقطها أمام الكنيسة وتم تفريق المتظاهرين السلميين بالقوة لأجلها، والتهديد باستخدام الجيش الأمريكي لقمع التظاهرات- قد أثرت بشكل ملحوظ في فرص إعادة انتخابه، ومع ذلك لا يزال الرئيس عاجزاً في معظم الأحيان عن التوقف عنها، أو غير راغب في ذلك.
ترامب عاجز عن كبح سلوكه الجنوني
لا يريد ترامب أن ينظر إليه على أنه "خاسر" أو "فاشل"، في حملته ضد نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن. ويعتقد بعض مستشاريه أن شغفه بالمعارك سيعود إليه في فصل الخريف، حين يحمى وطيس المعركة بينه وبين بايدن.
وإن كانوا يرون أنه في الوقت الحالي يتصرف بشكل دفاعي ومحدود الخيارات، وأن سلوكه الذي يتسم بالتدمير الذاتي قد خرج عن جادة الصواب بالنسبة لشخص يسعى للوصول إلى منصب الرئيس في عام الانتخابات، مما دفع العديد من مستشاريه إلى التساؤل عما إذا كان يرغب فعلاً في أن يعاد انتخابه لمدة رئاسية ثانية.
ويقول بعض من تحدث إلى ترامب مؤخراً إنه بدلاً من أن يركز على أهدافه وخططه للسنوات الأربع الإضافية في منصبه، يكتفي بالرثاء والشكوى لحاله من التغطية الإعلامية له منذ بداية جائحة كورونا. وقد أخبر مستشاريه بأنه مهما فعل فإن الصحافة لن تنشر عنه قصصاً "جيدة"، الأمر الذي غالباً ما استحوذ على اهتمامه وانتباهه.
ترامب لا يُبدي حماساً قوياً للحكم 4 سنوات إضافية
واشتكى ترامب من أنه لا شيء مما يفعله يبدو جيداً بما يكفي، متذمراً من النقد الذي تعرض له بأنه لم يتعامل بشكل جيد مع مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في مينيابوليس. وأخبر مساعديه بأن الملاحظات التي ذكرها عن فلويد حين حضر إطلاق المركبة الفضائية Space X كان ينبغي أن تعد كافية.
كما بدا ترامب مشغولاً، مرةً أخرى، بالتسريبات الصادرة من البيت الأبيض، وطالب المسؤولين بالعثور على الشخص المسؤول عن تسريب المعلومات حول هروبه إلى قبو أسفل البيت الأبيض أثناء التظاهرات العنيفة، ومحاكمته.
وذكر مقربون من ترامب أنه في حين أبدى الأخير حماساً لاستئناف حملاته الانتخابية، فإنه لم يبدِ نفس الحماس تجاه إمكانية الحكم 4 سنوات إضافية. وقد أعد ترامب قائمة من "الأوغاد" الذين سيلقي عليهم باللوم إذا خسر الانتخابات، وهم: الصين التي أساءت التعامل مع فيروس كورونا وإغلاق الاقتصاد والديمقراطيون الذين أخبر مستشاريه أنهم "سيسرقون" الانتخابات منه.
وأقرّ مساعدو ترامب بأنه دائماً ما يواجه صعوبة في التحكم في سلوكه، الذي يجاوز بكثير الحدود التي جرى عليها العرف للسلوك الرئاسي. ومن الأمور التي اشتهرت به فترة رئاسته، وتسببت في تقويضها، ولعه باستخدام لغة عنصرية، مثل التغريدة التي نشرها عن إطلاق النار على ناهبي المحال التجارية. غير أن سلوكه وملاحظاته مؤخراً وعجزه عن التحكم فيها، قد تسببت في حالة من الصدمة في أوساط مستشاريه، ونظروا إليها باعتبارها مختلفة عن كل تصرفاته الغريبة التي تصدر عنه في المعتاد.
وقد أجرت صحيفة The New York Times مقابلات مع أكثر من 12 شخصاً يتحدثون إلى الرئيس أو يتعاملون معه بشكل مستمر، بمن في ذلك مساعدون سابقون وحاليون في البيت الأبيض، ومستشارون لحملته الانتخابية، وأصدقاؤه، ومساعدوه. وقد تحدث معظمهم إلى الصحيفة شريطة عدم الكشف عن اسمهم، حتى يتمكنوا من الحديث بأريحية عن كواليس ما يجري داخل البيت الأبيض ويتجنبوا المساءلة على ذلك. يود كل من تحدث إليهم الصحيفة لو يروا ترامب يفوز مرةً أخرى، غير أنه يقولون إنهم مصدومون من تحول سلوكه أثناء التهديد الخطير الأخير لرئاسته.
كل شيء في رئاسته يسير في الاتجاه الخطأ
وذكر النائب عن الحزب الجمهوري في نيويورك بيتر كينغ في مقابلة أجريت معه أن التحديات الخطيرة التي تواجهها البلاد قد دفعت ترامب إلى موقف غير مسبوق؛ وهو "أمرٌ غير معتاد بالنسبة له".
وأضاف مشيراً إلى الأزمة القوية التي تعرض لها ترامب إبان تحقيق مولر بشأن التدخل الروسي في حملته: "أما تحقيق مولر، فكان أمره سهلاً، بصورة أو بأخرى". فقد كان صورة من المواقف التي اضطر ترامب إلى التعامل معها طوال مسار حياته المهنية.. ولكن الأمر الآن مختلف".
وقد ذكرت أليسا فرح، المتحدثة باسم البيت الأبيض، في بيان أن "الرئيس ملتزمٌ تماماً بشغل المنصب لفترة ثانية ويبني على إنجازاته في فترة الرئاسية الأولى لصالح الشعب الأمريكي".
وقد ذكر أحد المسؤولين، الذي تحدث عن تخطيط الإدارة الأمريكية فقط، أن الموظفين المسؤولين عن وضع السياسات لم يتم إخبارهم بإعداد مبادرات لعام 2021 وما بعده سوى هذا الأسبوع.
وإبان التحقيق بشأن التدخل الروسي وإجراءات العزل، كان مسؤولو البيت الأبيض وغيرهم يقولون إن ترامب كان حريصاً على القتال حتى النهاية؛ وهو ما فعله على نحو آتى ثمرته إلى حد كبير. ولكن الآن، فإنهم يرون سلوكه منحصراً في الدفاع عن النفس، واندفاعات الغضب ومديح الذات التي يطلقها باعتبارها أمراً غير مُجدٍ في مواجهة عدو غير مرئي مثل الفيروس وحركة تظاهرات لم يبدِ الكثير من التعاطف معها.
وفي هذا الصدد، يقول أنثوني سكاراموتشي، الذي شغل منصب مدير الاتصالات في البيت الأبيض لأقصر مدة في التاريخ (11 يوماً): "ترامب هو ليندون جونسون العصر الحديث، إذ إن كل شيء في رئاسته يسير في الاتجاه الخطأ وما لديه من مواهب ومهارات لا تنفعه في إصلاح ما فسد".
ويقول سكاراموتشي أن كل ما حاول ترامب فعله حتى الآن لم يغير من نظرة الناس لفترة رئاسته أو يزيح المخاوف العميقة بشأن العنصرية أو انتشار فيروس كورونا من واجهة الأخبار. وأضاف: "لهذا السبب أنا أعرف أنه لا يحب عمله كرئيس".
الحياة خارج البيت الأبيض
لم يبقَ سوى خمسة أشهر حتى موعد الانتخابات، ولا يبدو أن ترامب قادرٌ، أو راغبٌ، في تعديل سلوكه كما اعتاد أن يفعل من آن لآخر، في اللحظات الفارقة كما في عام 2016 حين وافق على اختيار مايك بينس المتدين المحافظ الذي لم يكن له سابق علاقة به ليترشح معه لمنصب نائب الرئيس؛ ويسكت صوت تغريداته في الفترة التي سبقت يوم الانتخابات مباشرة.
غير أن ترامب قد أقدم في نهاية الأسبوع الماضي على خطوة سياسية وصفها حلفاؤه بأنها "حكيمة" حين أعلن فجأة تغيير اليوم المحدد لحشد انتخابي كان مساعدوه قد خططوا لعقده في أوكلاهوما يوم 19 يونيو/حزيران، وهو يوم الاحتفال بإنهاء العبودية في الولايات المتحدة. هذا طبعاً بغض النظر عن أن ترامب نشر قرار تغيير الموعد على تويتر قبل أن يخبر به مساعديه.
ويرى النائب الجمهوري توم كول أن أداء حملة ترامب أفضل بكثير من حملات مرشحين جمهورين سابقين لم يستطيعوا الفوز بولاية رئاسية ثانية. ومع ذلك فإن التصريحات التي تخرج عن ترامب تشير إلى أنه يفكر في الحياة خارج البيت الأبيض.
فقد ذكر ترامب متحدثاً في فعالية عن تحسين عمليات التوظيف وجود طفرة في إنشاء المركبات الترفيهية، ثم يتأمل للحظة ثم يردف: "ربما علي أن أشتري إحدى هذه المركبات لأطوف به الولاية. أو ربما أقودها عائداً إلى نيويورك ومعي السيدة الأولى في مقطورة خلفي".
وقد ذكر مستشارون حاليون وسابقون للرئيس أنه بالنسبة لترامب فإن نشوة الفوز بمنصب الرئيس وما له من مزايا لا يساوي مقدار الأعباء والواجبات التي فرضها عليه المنصب.
ومعظم الرؤساء لا يدركون في الواقع حقيقة وظيفتهم إلا حين يدخلون غمارها. ولكن بالنسبة لترامب، الذي لم يسبق أبداً أن خدم في منصب حكومي وقضى سنوات من عمره في برامج الترفيه، فإن الفجوة المعرفية لديه فيما يخص مهام المنصب كبيرة وشاسعة.
ترامب كان يبحث عن "فوز" فقط
وفي هذا الصدد يقول سام نونبيرغ، الذي عمل في حملة ترامب عام 2015 وعمل مستشاراً له قبل ذلك: "كان ترامب يبدي اهتمامه لمن حوله بالفوز بالرئاسة؛ فعلى مدار ثلاث سنوات بين عامي 2012 وحتى 2014، ركز على التفاصيل بل أدق تفاصيل الجولة الأولى وعملية الانتخابات بشكل عام. وكان واضحاً أن ترامب يريد أن يُنتخب رئيساً. غير أن عمله كرئيس على أرض الواقع لم يكن محل نقاش أبداً".
ويصف موظفون داخل البيت الأبيض الرئيس بأنه وحيد ومعزول، ولا يستمتع بالحديث سوى مع قلة من الناس؛ ويقول العديد من الموظفين أن الحالة المعنوية في البيت الأبيض في أسوأ حالاتها منذ الأسابيع الأولى لإدارة ترامب.
كما أن الجناح الغربي الذي يقيم فيه ترامب في عزل افتراضي منذ مارس/آذار، لا تبدو منه الشعور بوجود هدف أو غاية أو دافع للتصرف بسرعة، كما يقول من زاروه في الآونة الأخيرة. كما اشتكى مارك ميدوز، كبير موظفي البيت الأبيض، من أنه لم يكن يعرف مدى التفكك والتفسخ في أجواء البيت الأبيض إلا بعد أن دخله، وفقاً لمصادر مطلعة على محادثاته.
ويبدو أن ترامب معجب بأحدث محاربيه، كايلي مكيناني، السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، غير أن مسؤولين في البيت الأبيض يقولون إنها تقضي معظم وقتها مع الرئيس وقليلاً منه مع الموظفين. وفي الأيام التي تخرج فيها بالإيجاز الصحفي للبيت الأبيض، تقضي ساعات في التحضير له، ما يصيب بعض زملائها بالإحباط. كما أنها أزاحت العديد من الأشخاص من مواقعهم في مطبخ الصحافة والتواصل داخل البيت الأبيض، وعيّنت ابن عم زوجها، تشاد جيلمارتين، مساعداً لها.
ترامب لن يستطيع الفوز بولاية ثانية
انتهى الجمهوريون في واشنطن إلى أن ترامب لن يستطيع الفوز بولاية ثانية على كرسي البيت الأبيض، ويعلقون آمالهم على أن استئناف المؤتمرات الانتخابية لترامب -بدءاً من يوم السبت في تلسا، سيشتت الانتباه عن هذه الحقيقة. غير أن كينغ يقول إن آخر مرة تحدث فيها إلى ترامب، قبل مقتل فلويد مباشرةً، بدى فيها الرئيس واثقاً من إعادة انتخابه.
لكن الحقيقة أن ترامب يبدو موقناً في الوقت الحالي أن حظوظه السياسية قد انقلبت، رغم أنه لم يفترض أنه المسؤول عن ذلك. ففي مقابلة عقدت معه على شبكة Fox News الأمريكية الأسبوع الماضي، صدر منه إقرارٌ نادرٌ بأمر لم يستبعد حدوثه حين قال: "إذا لم أفز بجولة ثانية، فلا بأس في ذلك" وأضاف: "ما أعنيه أنني سأشغل نفسي بأمور أخرى". وأضاف: "أعتقد أنه هذا لو حدث، فسيكون أمراً محزناً للغاية بالنسبة لبلادنا".