قيام الصين بقمع الأقلية من مسلمي الإيغور لم يعد سراً أو أمراً مخفياً، لكن تفاصيل الاستراتيجية نفسها التي تطبقها بكين لا تزال تخرج للنور تباعاً، وما يحدث في معسكرات الاعتقال والمحاكمات التي يتعرض لها المسلمون تكشف أن المستهدف هو الثقافة الإسلامية لدى الإيغور، فما هي تلك التفاصيل؟
موقع شبكة الإذاعة الألمانية دويتش فيله نشر تقريراً بعنوان: "الإيغور في الصين يدانون في محاكمات صورية داخل معسكرات شينجيانغ"، ألقى الضوء على ما تقوم به الصين تجاه مسلمي الإيغور من حرب لا هوادة فيها تستهدف ثقافتهم الإسلامية.
في داخل شبكة واسعة من معسكرات اعتقال تسميها الصين "إعادة التأهيل" أسستها الحكومة الصينية في شينجيانغ، كانت الأهوال اليومية للاعتقال تغمرها الرتابة والملل.
ولكن بين الشهور العديدة التي يقضيها المحتجزون، قال بعضهم إن أحد هذه الأيام كان مختلفاً: وهو اليوم الذي يُجبرون فيه على اختيار مخالفة أو أكثر من قائمة مخالفات تُسلم إليهم، وفي جوهر هذه العملية، توجب على المحتجزين أن يختاروا بأثر رجعي الجرائم التي اعتُقلوا بسببها، غالباً لمدة أشهر، وفي أغلب الحالات بدون إخبارهم عن السبب الذي أدى إلى اعتقالهم في المقام الأول.
وبعد اختيار جريمة من القائمة، يحين وقت المحاكمة الصورية، التي لا يكون لدى المعتقلين أي تمثيل قانوني فيها، ويدانون دون أدلة أو محاكمة عادلة من أي نوع.
وتحدثت إذاعة Deutsche Welle مع أربعة معتقلين سابقين، رجلين وامرأتين من شينجيانغ، وهي منطقة نائية في شمال غرب الصين، التي عانى سكانها ذوو الأغلبية المسلمة من القمع الذي تمارسه السلطات الصينية في حقهم منذ عهد طويل، بما في ذلك ما حدث في السنوات الأخيرة من اعتقال جبري لمدد طويلة داخل ما تسميها الصين معسكرات "إعادة التأهيل".
قضى الأربعةُ شهوراً محتجزين في شينجيانغ بين عامي 2017 و 2018. وعلى مدى أسابيع عديدة، أُجريت مع كل فردٍ منهم مقابلات منفصلة عن الآخرين.
المعتقلون يُجبَرون على اختيار جرائم مكتوبة في قائمة
تذكر الأربعة اليوم الذي أُعطوا فيه ورقة تتضمن تفاصيل أكثر من 70 فِعلاً، وأُجبروا على اختيار فِعل واحد أو أكثر منها، وكانت بعض هذه الأفعال غير ضارة على ما يبدو، مثل السفر أو التواصل مع أشخاص في الخارج، لكن أغلبها كان أفعالاً دينية، مثل الصلاة أو ارتداء الحجاب.
ومنذ ذلك الحين، انتقل المعتقلون الأربعة إلى كازاخستان المجاورة، بعد ضغط شعبي من أفراد العائلة الذين يعيشون هناك، إضافة إلى ما يُرجح أن تكون جهوداً دبلوماسية خلف الكواليس من الحكومة الكازاخستانية، ونتيجة لهذا، أطلقت الحكومة الصينية سراح الأشخاص الذين لديهم تصريح إقامة في كازاخستان، وجوازات سفر كازاخستانية، وأقارب يعيشون في كازاخستان، التي تعد موطناً لأعداد كبيرة من مجتمعات الإيغور.
كان أحد السجناء في جناح مستشفى داخل المعسكر عندما أعطيت إليه الورقة التي تحتوي على القائمة؛ إذ كان يعاني من مرض السل الذي أُصيب به خلال إقامته داخل المعسكر، وكانت معرفة الرجل باللغة الصينية محدودة، لذا كان زملاؤه السجناء يترجمون له إلى لغة الإيغور.
قالت امرأة احتُجزت في مارس/آذار 2018: "هددونا قائلين: "إذا لم تختاروا شيئاً، فيعني ذلك أنكم لم تعترفوا بجريمتكم، وإذا لم تعترفوا، فسوف تبقون هنا إلى الأبد". ولذلك السبب اخترنا جريمة".
وقالت امرأة أخرى إن الأمر جعلنا نرتاح، وأضافت: "لأكون صريحة، كنا سعداء؛ فعلى الأقل عرفنا آنذاك المدة التي يمكن أن نقضيها في المعسكر. أما قبل ذلك، لم يبلغنا أحد إلى متى يتوجب علينا البقاء". وأُبلغ المعتقلون كذلك بأنهم إذا تعاونوا، فإن عدد السنوات التي كان يتوجب عليهم قضاؤها في المعسكر قد تقل.
تصرف شجاع
بينما يقول جميع المعتقلين إنهم تعرضوا للضغط من أجل التوقيع، نجح رجل واحد فقط في رفض التوقيع، في حالة نادرة لإظهار شجاعة فردية داخل معسكر محاط بالجدران المرتفعة وأبراج المراقبة ويحرسه مسؤولون مسلحون. قال الرجل إنه كان بريئاً ولم يفعل أي شيء خاطئ.
وعلى مدى ثلاثة أيام، لم ينقطع المسؤولون -وبعضهم من ذوي الرتب العالية- عن توبيخه في محاولة لإجباره على التوقيع على أي اعتراف.
ثم على غير المتوقع، أُطلق سراحه وخضع لمراقبة شديدة وإقامة جبرية داخل منزله لمدة أشهر. وقال حينها إنه كان الرجل الوحيد الذي أُطلق سراحه، بينما ظل جميع المعتقلين الآخرين في المعسكر، وتجدر الإشارة إلى أن الرجل كان لديه تصريح إقامة في كازاخستان، وهو ما يفسر سبب أنه -على عكس الآخرين- نجا من الخضوع لـ "محاكمة".
المحاكمات تُظهر أن الصين تستهدف ثقافة المسلمين
تشير الحقيقة التي تفيد بأن أغلب الأفعال التي ارتئيت غير قانونية كانت ذات طبيعة دينية، إلى أن السلطات الصينية استهدفت الدين والممارسات الثقافية للأقليات المسلمة التي تعيش على أراضيها في محاولة لمحوها، وذلك بحسب ادعاءات النشطاء منذ عهد طويل.
بدت الأنشطة الدينية التي تعد غير قانونية في أغلب الأحوال مبهمةً عند تفسير عدم قانونيتها، مثل "تعطيل النظام الاجتماعي"، وذلك حسبما قال تيموثي غروس، الخبير في شؤون شينجيانغ بمعهد روز هولمان في ولاية إنديانا، إذ قال في حديثه مع إذاعة Deutsche Welle: "يمكن للمسؤولين في الأساس تفسيرها بأي طريقة يريدونها؛ فالنظام القانوني بأكمله هو محض سخافة، وتعسفي".
الإيغور لا يحظون بمحاكمة عادلة
أخبر عديد من الخبراء إذاعة Deutsche Welle بأنهم اعتقدوا أن عقد المحاكمات الصورية كان "مقبولاً" للغاية، وقال ريان توم، الباحث الكبير في جامعة نوتنغهام بالمملكة المتحدة: "يناسب هذا نموذجاً أكبر لا يحظى فيه الإيغور بمحاكمة عادلة تسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم ويختفون حسب مشيئة البيروقراطيين وأعضاء الحزب"، وأضاف: "إذا حدث هذا حقاً، فإنه يوضح أن هناك إدراكاً لدى المسؤولين في الميدان بأن عليهم العثور على جرائم انخرط فيها الأشخاص".
أجرت Deutsche Welle مقابلات مع أقارب الأويغور المعتقلين في أنحاء شينجيانغ، ونُقل كثيرون منهم من معسكرات إعادة التعليم إلى السجن. وفي بعض الحالات، بدا أنهم ينتقلون بين معسكرات إعادة التعليم وبين السجن. قالت امرأة مستقرة في ألمانيا إن أقاربها حُكم عليهم مرتين، وأرسلوا إلى السجن، ليجدوا أنفسهم يعودون إلى معسكر إعادة التعليم وحسب. وأضافت: "يبدو أنهم يمارسون الألاعيب مع المعتقلين".
بدأ المعتقلون في الاختفاء بعد المحاكمة
ثمة شيء واضح برغم ذلك: بعد مدة وجيزة من المحاكمات، يبدأ المعتقلون في الاختفاء: بعضهم يُصطحب في الليل مكبلين ومعصوبي العينين، فيما يُستدعى آخرون من الصف، ولا يعودون قط.
ولكن في هذا أيضاً كان هناك نموذج: يختفي الأشخاص الذين تصل عقوبة سجنهم إلى أكثر من 10 سنوات، واتفقت أقوال الرجلين والمرأتين على أن هؤلاء كانوا سجناء اعترفوا بقيامهم بأفعال دينية، مثل الصلاة أو إمامة المصلين بصورة غير رسمية.
يتفق هذا مع الباحثين والنشطاء الذين يقولون إن الأئمة والمتدينين تزيد احتمالية إرسالهم إلى السجن، وأحياناً لعقود، والأرجح أن السبب في هذا أنهم يُنظر إليهم على أنهم "غير قابلين للإصلاح".
أُرسل آخرون إلى معسكرات العمل، مثل إحدى المعتقلات التي قالت إنها أُجبرت على العمل في مصنع قفازات، وكان هذا واحداً من مصانع عديدة يقول عنه الباحثون إنه انتشر في قرى منتشرة حول شينجيانغ، عبر خطة ترعاها الحكومة، وبعضها ينتج منتجات من أجل شركات وسلاسل إمداد أجنبية.
وأطلق سراح آخرين ليخضعوا بعد ذلك لإقامة جبرية شديدة القسوة؛ إذ تُراقب كافة تحركاتهم، وتُقلص حرية انتقالهم تقلصاً شديداً.
وقال معتقل سابق: "لا يُسمح لك بالتحرك أو السفر بحرية، ولا يمكنك الحديث مع الأشخاص الآخرين، ولا تستطيع الذهاب إلى أماكن مزدحمة، ولا تستطيع زيارة أقاربك. يمكنك فقط البقاء في المنزل أو الذهاب إلى مكتب إدارة القرية".
وفي مناسبات عديدة، أُجبر هو وزوجته على الاعتراف علناً بـ "جرائمهم" أمام آلاف الأشخاص. ويقول إنه أُجبر على الثناء على الحزب الشيوعي وتوجيه الشكر له على الفرصة التي منحه إياها لتلقي التعليم وتغيير أساليبه، برغم أنه لم يتعلم شيئاً واحداً خلال الوقت الذي قضاه في المعسكر.
معتقلة أخرى أطلق سراحها وخضعت للإقامة الجبرية، أُجبرت على استضافة أعضاء متنوعين من الحزب كل أسبوع. وكان يُنتظر منها إعداد طعام لضيوفها القادمين في المساء ومعاملتهم باحترام. وتقول إنها شعرت بعدم ارتياح عميق نظراً إلى أنها كانت تعيش وحدها وتضطر لاستضافة رجال ونساء لا تربطها بهم أي علاقة.
وتضيف أنها في كل صباح كان يتوجب عليها حضور مراسم رفع العلم، تعقبها اجتماعات سياسية تبدو أنها لا تنتهي وكذلك صفوف تعليم اللغة الصينية. وتوضح قائلة: "كان الأمر مرهقاً. وكنت متعبة للغاية في كل الأوقات".
المعتقلون تظهر لديهم أعراض من الصدمة الكبرى
في نهاية المطاف، سُمح للمعتقلين بمغادرة الصين، والأرجح أن السبب في هذا يُعزى إلى وجود أقارب لهم في كازاخستان، الذين كانوا يطلقون حملة نيابة عنهم، إضافة إلى أن اثنين منهم حملا الجنسية الكازاخستانية أو كان لديهما تصريح إقامة هناك.
تركت تجاربهم جروحاً جسدية وعاطفية عميقة، إذ إن جميع المعتقلين السابقين، الذين تحدثوا مع إذاعة Deutsche Welle، عانوا من أعراض واضحة لاضطراب ما بعد الصدمة، تضمنت فقدان الذاكرة والأرق. خلال المقابلات، تعاقبت نوبات الغضب والبكاء بينما كانوا يتذكرون محنهم، التي انطوت على الاستجواب والاعتداء الجنسي. قالت امرأة منهم إنها على مدار أشهر عديدة، كانت تُجبر على جمع المعتقلات من غرفة صغيرة لاصطحابهم من أجل الاستحمام.
وبالرغم من أنها كانت خائفة للغاية من التحدث مع النساء، قالت إنه كان واضحاً ما كان يحدث لهن: كُن يتعرضن للاغتصاب عن طريق الحراس. وقد أثيرت هذه المزاعم من قبل نشطاء الإيغور.
قالت امرأة أخرى إنها تعرضت للضرب بشدة في بطنها خلال التحقيق، ومنذ ذلك الحين لم تعد قادرة على الحمل. وقالت: "زوجي يقول إنني تغيرت، وإنني إنسانة مختلفة". وأضافت أنها قبل ذلك كانت تحب الاختلاط والحفلات، لكنها الآن بدأت تكره الناس. وتعرضت في حديثها لنوبات الغضب غير المبرر التي تمر بها، والإرهاق المزمن.
تحدث معتقل عن شعور خواء مشابه، إذ قال: "لا أحمل أي مشاعر تجاه أقاربي أو أطفالي، اعتدت أن أحب أطفالي للغاية، ولكنني الآن لا أشعر بأي شيء على الإطلاق"، وأضاف بعد أن توقف قليلاً: "لقد فقدت كل رغبة في الحياة".