يبدو أن حفتر قلق من الوجود الروسي في ليبيا، والذي تعزز بإرسال طائرات من طراز سوخوي 24 وميغ 29 إلى قاعدة الجفرة الواقعة إلى الجنوب من طرابلس.
فهدف بوتين من الوجود الروسي في ليبيا يبدو عصياً على الفهم حتى بالنسبة للجنرال المتقاعد خليفة حفتر، الذي سبق أن كرّمته موسكو بالصعود على إحدى حاملات الطائرات التابعة لها.
ولكن في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً محمد المسماري، المتحدث باسم قوات حفتر، بدا الناطق باسم الجنرال الليبي المختفي عن الأعين حذراً في حديثه عن دور روسيا في ليبيا، حذر بدا نابعاً من عدم القدرة على معرفة أهداف الوجود الروسي في ليبيا وتوجهاته.
فعندما سئل المسماري عن هل يتوقع أن تنسق روسيا مع تركيا في ليبيا؟ قال المسماري إنهم ليس لديهم معلومات عما إذا كانت روسيا تنسق مع تركيا في ليبيا أم لا.
وبالنظر إلى طبيعة المسماري المبالغة دوماً بشأن ما يعرفه وما لا يعرف، فإن مجاهرته بجهله بنوايا روسيا تبدو أمراً لافتاً عندما تخرج من رجل كان يبشر أنصارَه كلَّ يوم بكل ثقة بأن سقوط طرابلس أصبح وشيكاً.
واللافت أيضاً عندما سئل المسماري عن موقف جنراله من إنشاء قواعد في ليبيا، في إشارة لقاعدة الجفرة التي سيطرت عليها روسيا، قال إننا لا نؤيد وجود قواعد أجنبية في ليبيا حتى لا تضطر البلاد للانحياز لأحد الأطراف.
ولا يمكن افتراض أن هذا التصريح جاء خوفاً من إغضاب الغرب بقدر ما هو تعبير عن قلق بشأن نوايا روسيا، خاصة أن قوات حفتر سمحت للإمارات بتأسيس وجود قوي في ليبيا.
كما أن المسماري في كلامه بدا يتحدث عن قوة العلاقة مع روسيا بصيغة الماضي أكثر منها معاصرة، متحدثاً عن الرغبة في استعادة قوة هذه العلاقة.
بدا المسماري في حديثه أنه يتمنى علاقة قوية مع روسيا أكثر مما هو واثق من قوة هذه العلاقة.
ما هدف بوتين من الوجود الروسي في ليبيا، والأهم مَن سيكونون حلفاءه؟
قد تكون معرفة أهداف روسيا في ليبيا أسهل من معرفة كيف ستنفذ هذه الأهداف.
يريد بوتين من الوجود الروسي في ليبيا تعزيز وجودها في البحر المتوسط لتحقيق الحلم الذي فشل البلاشفة والقياصرة في نيله، بالوصول للمياه الدفيئة ومحاصرة أوروبا من خاصرتها الجنوبية.
كما يريد بوتين الإجهاز على الربيع العربي في ليبيا كما فعل في سوريا، مدفوعاً بالأساس بأسباب تاريخية.
فقد ورث بوتين عن القياصرة والبلاشفة العداء للإسلام السياسي الذي قاوم توسع موسكو في القوقاز وآسيا الوسطى وأفغانستان، كما ورث عنهم العداء للديمقراطية.
وفي الربيع العربي اجتمعت الديمقراطية والإسلام السياسي معاً.
كذلك تريد روسيا البوتينية نصيباً من الكعكة النفطية الليبية، التي تجذب الجميع لهذه البلاد.
ولكن كيف تُحقق روسيا كل ذلك، هل تدخل في مواجهة مع حكومة الوفاق المدعومة من تركيا لصالح حفتر المدعوم إماراتيا وفرنسياً ومصرياً، وقد يعني ذلك إفساد التطور الكبير في العلاقة بين أنقرة وموسكو، واللتين تخطتا خلافاتهما في سوريا.
أم العكس، تقوم بالتنسيق مع تركيا لتنظيم الوضع في ليبيا، بما في ذلك الحصول على نصيب من استثمارات النفط الليبية.
وفي الحالتين، هل يكون التدخل الروسي في صالح حفتر الذي أحرج بوتين من قبل ورفض التوقيع على وثيقة سلام في موسكو، أم أن روسيا ستُعلي من شأن عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب اللبناني.
من الصعب الإجابة عن كل هذه الأسئلة، لأن الروس وبصورة أقل الأتراك تسود علاقتهما مساحة من الغموض والتقلب، بين التنسيق والمواجهة التي تقترب من أن تكون مباشرة مثلما حدث في إدلب.
ويبدو من كلام المسماري أن حفتر وحلفاءه لا يستبعدون تنسيقاً روسيا تركياً، كما حدث في سوريا، ومن الواضح أنهم لم يتلقوا إيضاحات وتطمينات روسية كافية أو لم يتلقوا أي إشارة على الإطلاق من بوتين، رجل المخابرات الساكن في الكريملين.
واللافت هو قصف قوات حكومة الوفاق لمنصات الصواريخ الروسية البانستير بواسطة الطائرات المسيرة التركية الصنع، وهو مؤشر على شكل من أشكال المواجهة غير المباشرة كالذي حدث في إدلب.
وفي المقابل، يجب الانتباه إلى أن عملية مغادرة المرتزقة الروس لمدينة بني وليد وغيرها من مناطق شمال غرب ليبيا تمت تحت أعين قوات حكومة الوفاق، ما يؤشر إلى شكل من أشكال التنسيق أو التراضي التركي الروسي.
موقف حفتر أضعف من بشار الأسد
بالعودة إلى الحالة السورية يلاحظ أن روسيا بعدما هزمت المعارضة المدعومة من سوريا بمساعدة إيران وميليشياتها عادت وتصالحت مع تركيا، وأوقفت النظام (إلى حد ما) عن قصف حلفائها وسمحت لأنقرة بتحقيق بعض من مصالحها الأساسية، خاصة فيما يتعلق بإدلب والأكراد، بينما همّشت إيران حليف الأسد، وأحياناً الأسد نفسه.
وفي الحالة الليبية، يبدو موقف حفتر تجاه الروس أضعف، فهو ليس رئيساً معترفاً به دولياً، ولا حليفاً تاريخياً أباً وابناً كالأسد، وهو في موقف أضعف عسكرياً من الأسد، وداعماه مصر والإمارات ليستا متورطتين بنفس القدر كتورط إيران في سوريا، وحشدهما للمرتزقة أقل حجماً وتأثيراً من الناحية العسكرية من الحشد الإيراني للميليشيات التي جلبتها من كل أنحاء العالم الشيعي الممتد من أفغانستان وباكستان شرقاً إلى لبنان غرباً مروراً بالعراق.
الاستيلاء على أسلحة حفتر والإمارات
وفي هذا الإطار، كشف مصدر تابع لميليشيات حفتر، في تصريحات خاصة لــ"عربي بوست" أن عدد مرتزقة مجموعة "فاغنر" الروسية الذين سيطروا على قاعدة الجفرة يزيد عن 2000 مقاتل، مدعومين بأسلحة ومدرعات ومنظومات تشويش إلكتروني ومنظومات دفاع جوي.
وقال إن قيادات "فاغنر" عمِلت على تأمين القاعدة منذ وصولهم إليها، بتركيب أكثر من 6 منظومات دفاع جوي، إضافة إلى نشر عددٍ من المراصد حول القاعدة للتصدي إلى أي تقدم بري، استولت على القاعدة بشكل كامل، ومن بينها أسلحة ومعدات كانت تابعة لميليشيات حفتر.
والأغرب أن المصدر قال إن مجموعة فاغنر استولت في قاعدة الجفرة على منظومات البانستير وطائرات من الجيل الثاني والثالث الروسية، ومدرعات إماراتية، وحاملات جنود أردنية، وعدد من منظومات التشويش المتطورة وأربع منظومات دفاع جوي متطورة أيضاً لم يُفصح عن اسمها.
يبدو المشهد في الجفرة وفي ليبيا مربكاً للجميع، لا أحد يعلم هل جاء الروس لإنقاذ حفتر، أم رغم أنفه.
وهل تستخدم الطائرات التي أرسلتها روسيا لليبيا لقصف قوات الوفاق، أم تكون وسيلة ضغط على حفتر للإنصياع لعملية السلام التي طالما قلب طاولتها.
وقد يكون هذا الإرباك مقصوداً من قبل بوتين، وهو تطور لسياسة روسيا في سوريا، حيث تقوم بدور الخصم والحليف والوسيط مع الأتراك، والأكراد ونظام الأسد والإيرانيين والإسرائيليين.
على الجانب الآخر، يبدو رد الفعل التركي معتدلاً إزاء التواجد الروسي، إذ إن الأتراك أصبحوا أكثر من يفهم أساليب اللعب الروسية التي خبروها في سوريا.
وفي هذا الإطار، قيل إن تركيا تسعى لتأمين قاعدة الوطية، حيث تتحدث بعض المصادر عن أنها قد تتخذها محطة لطائرات إف 16.
إلا أن الأكثر واقعية أن تركيا سوف تسعى لتعزيز أسطول الوفاق من الطائرات المسيرة.
كما أفادت تقارير بأن رد فعل تركيا على نشر الطائرات الحربية الروسية شمل مغادرة العديد من رحلات الشحن الجوي من إسطنبول إلى مصراتة، بما في ذلك طائرات النقل الجوي التركية هرقل C-130 وطائرات إيرباص A400، بالإضافة إلى طائرة نقل عسكرية C-17 Globemaster III، مقدمة من قطر.
ويدعم هذا الجسر الجوي تعزيز الدفاعات التركية المنتشرة في طرابلس، وخاصة الأنظمة المضادة للطائرات التي تهدف إلى بناء قبة حماية حول طرابلس ومصراتة والقاعدة الجوية الوطنية (الوطية)، التي سيطرت عليها قوات الوفاق.
بصرف النظر عما إذا كان هناك اتفاق تركي روسي بشأن ليبيا أم لا، فإن أنقرة تعلم أن الاتفاقات لا تكفي فقط مع الروس، وإن للميدان -مثلما حدث في إدلب عندما ألحقت الطائرات التركية المسيرة خسائر كبيرة بالجيش السوري- دوراً كبيراً في تحديد شكل التفاوض مع الروس.
الهدف الأثمن لروسيا في ليبيا
في ليبيا على العكس من سوريا فإن المغانم بالنسبة لروسيا ليست أيديولوجية ولا جغرافية سياسية فقط، بل هي أيضاً نفطية تترجم إلى جني دولارات وليس إنفاقها كما يحدث في سوريا.
وأغلب الاستثمارات النفطية في ليبيا مقسمة بين فرنسا وإيطاليا وهناك نصيب للولايات المتحدة.
ولكن اللاعبين التركي والروسي لم يكن لهما نصيب يذكر، وقد يؤدي التدخل الروسي إذا اقترن مع التنسيق مع تركيا إلى إعادة لتوزيع كعكعة الاستثمارات النفطية في ليبيا.
وفي هذا الإطار، يبرز إعلان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونميز، أن بلاده ستبدأ استكشاف الساحل الليبي للغاز في غضون ثلاثة أشهر بعدما قدمت شركة البترول التركية طلباً لحكومة الوفاق الوطني الليبية للحصول على إذن للتنقيب في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وبينما تحشد القاهرة فرنسا واليونان وإسرائيل وقبرص الرومية في مواجهة تركيا بمنطقة شرق البحر المتوسط، فإن من شأن تنسيق تركي روسي في ليبيا، خاصة في ملف الغاز والنفط، تغيير المعادلة تماماً في شرق المتوسط برمته.
تركيا لم تطلق أوروبا بعد
ولكن تظل كل هذه التحالفات والخصومات تتسم بالتقلب وعدم الثبات.
فتركيا من ناحيتها لم تعلن الطلاق من أوروبا حتى لو كانت غاضبة منها، وإذا وجدت أنقرة من الدول الأوروبية الكبرى عرضاً لائقاً في كل الملفات الخلافية وفي مقدمتها ليبيا، فإنها من شأنها تخفيف حدة تقاربها مع موسكو.
كما أن أنقرة تضع دوماً عينها على واشنطن، وإذ تجاوزت أمريكا الدعم الكلامي كالذي قدمته لتركيا في إدلب، إلى حل المشكلات العالقة بين البلدين، وتقديم الدعم لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، فإن تركيا قد تهتم بدواعي قلق واشنطن من توسع النفوذ الروسي في ليبيا.
ولكن أوروبا وأمريكا تركتا روسيا تفترس حلفاء أنقرة في سوريا، وعندما تقاربت تركيا مع روسيا لتقليل خسائر هؤلاء الحلفاء، فإنها تعرضت للنقد الغربي.
وبالتالي تركيا لن تُكرر ما فعلته في سوريا، حينما دفعها الغرب وشجعها على دعم الثورة السورية، ثم تركها وحدها في مواجهة التدخل الروسي وقامت دول الناتو بسحب أنظمة باتريوت من أراضيها، رغم الانتهاكات الجوية الروسية لأجوائها.
تعلمت أنقرة من خذلان الغرب لها في سوريا، وأثناء الانقلاب العسكري الفاشل، كيف تبني سياستها الخاصة حتى بدون دعم غربي.
واليوم أصبحت روسيا وتركيا أبرز اللاعبين في الشرق الأوسط، وليبيا ستكون اختباراً لهذه المعادلة الجديدة بينهما.