لا شك أن الخطوط الجوية كانت الناقل الرئيسي لجائحة فيروس كورونا المستجد، ومن المؤكد أن أول انطلاق للفيروس إلى العالم (وإلى داخل الولايات المتحدة) كان من الصين، قبل وقت طويل من استيعاب خطورته وفتكه بأرواح البشر، لكن ورغم ذلك قد يكون قطاع الطيران في الصين من أكثر المستفيدين من الأزمة بعد زوالها، بحسب تقرير لموقع The Daily Beast الأمريكي.
في العقد الأخير، عندما أعطت الصين أولوية لتطوير السفر، الداخلي والخارجي، اختيرت ووهان لصناعتي الطيران والسكك الحديدية لتصير واحدة من محاور النقل الفائقة، وشيدت بسرعة وكفاءة لا يسعنا إلا أن نتعجب أمامها.
كانت ووهان تقع في واحدة من المناطق الأعلى كثافة سكانية في البلاد والأسرع نمواً في المنطقة. وعندما روج مستشارو الطيران لمطار مركزي جديد في ووهان بوصفه تعزيزاً للصناعات المحلية، والسفر كذلك، رأى مخططو السكك الحديدية ذلك وسعوا وراء نفس الفرصة. فجعلوا ووهان مركزاً لشبكة سكك حديدية فائقة السرعة، حيث ضمت خمسة خطوط رئيسية تتشعب منها.
كانت زيادة الحركة بسرعة هدفاً رئيسياً نظراً إلى أن الشعب الصيني صار أكثر ثراء. واكتسبت طبقة متوسطة ناشئة الوسائل والذوق اللازم للسفر، فصارت -تقريباً بين عشية وضحاها- موجة جديدة لأعمال الضيافة بالنسبة لأرباب الفنادق ومديريها حول العالم.
والواقع أن الطلب في الصين على السفر جواً زاد بأربعة أضعاف بين 2008 و2018. وبحلول عام 2019، صارت تسهم وحدها بـ18% من المسافرين جواً حول العالم، بقيمة 89 مليار دولار سنوياً. (يعد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة المنطقة الأعلى إسهاماً في السفر جواً، بنسبة 25%، وبقيمة 169 مليار دولار). وكانت المطارات الثمانية الأكثر ازدحاماً في الصين مجتمعةً تخدم سنوياً مسافرين أكثر بكثير من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة: أي بإجمالي يتجاوز 482 مليون شخص.
فيروسات طليقة
كان الموقف مختلفاً تماماً عندما ظهر فيروس سارس في غوانغدونغ جنوب شرق الصين أواخر 2002. فلم يكن النمو الهائل في السفر الجوي في الصين قد حدث بعد.
بمجرد اتضاح نطاق وامتداد جائحة كوفيد-19، تقلصت رحلات السفر المحلية في الصين، لكنها لم تغلق تماماً. كانت أقل مرحلة نشاط لها في منتصف فبراير/شباط، عندما أُتيح في الصين 3.7 مليون مقعد في الرحلات الداخلية في الصين خلال أسبوع واحد. وبحلول 24 مايو/أيار، انتعشت الحركة الجوية بدرجة كبيرة، لتصل إلى أكثر من 11 مليون مقعد أسبوعياً. (في السابق، استناداً إلى النمو الذي خططته البلاد للسفر الجوي، تنبأت الصين أنه بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان، كان عدد المسافرين جواً سيصل إلى 16.8 مليون مسافر أسبوعياً.
محظوظة بالفعل
تعمل حوالي 40 شركة طيران في الصين. وتنظم أنشطتها إدارة الطيران المدني في الصين، وتعد لجنة الإشراف على الأصول العامة وإدارتها المساهم الرئيسي فيها.
تمنح هذه السيطرة من أعلى إلى أسفل الحكومة الصينية امتلاك قبضة أكثر إحكاماً على العمليات في الطيران التجاري أكثر مما يمكن حدوثه في أي بلد آخر؛ والسبب أن إدارة الطيران المدني في الصين لديها سيطرة مباشرة على المطارات والخطوط الجوية وتخصيص المسارات.
سوف يكون ذلك النفوذ حاسماً الآن، ليس فقط في تحديد سرعة تعافي السفر الجوي الصيني، بل وأيضاً في تحديد السرعة التي سوف يُسمح بها لشركات الطيران الأجنبية بالعودة إلى الصين. وسوف تكون نتيجة هذه القرارات متأثرة حتماً بالتصعيد المتزايد في الخطابات والتهديدات بين الصين والولايات المتحدة.
ففي الواقع، تتخذ الصين وضعاً مثالياً يجعلها على أهبة الاستعداد للاستغلال الاستراتيجي للموقف الذي أنتجته الجائحة.
فرصة من الأزمة
لتوصيف أكثر تحديداً، تجلس الصين الآن مثل أخطبوط كبير تمتد أطرافه إلى المسارات الجوية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، مما يمنحها مستوى جديداً تماماً من النفوذ على كيفية تطور مستقبل السفر الجوي، ليس فقط في المنطقة، بل وخارجها أيضاً.
لا شك أن ذلك سوف يؤثر على الشركات الأمريكية الرئيسية الثلاث، يونايتد إيرلاينز، وأميركان إيرلاينز، ودلتا إيرلاينز، التي شيدت مسارات مربحة للغاية داخل السوق الصيني. أوقفت هذه الشركات جميع رحلاتها الصينية في فبراير/شباط، وسوف يتوجب عليه بناؤها مرة أخرى من الصفر.
سوف تتحدد السرعة التي ستفعل بها ذلك عن طريق هيئات الطيران الصينية، التي يجب عليها، مثلما يجب على الأمريكيين، ألا تسترشد بقوى السوق قصيرة المدى نسبياً. يمكن للصينيين أن يعطوا الضوء الأخضر لشركات الطيران التي لديهم بأن تبدأ في بناء أعمال تجارية مرة أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي الوقت ذاته يقيدون دخول شركات الطيران الجوية الأمريكية إلى الصين، فيفضلون -على سبيل المثال- "أبطالهم" المحليين من هذه الشركات، مثل خطوط جنوب الصين الجوية، التي تعد فعلياً أكبر شركة طيران في آسيا.
وقد كانوا فطنين. بمجرد أن ارتأوا أن الجائحة خلقت طلباً هائلاً جديداً على الشحن الجوي، ولا سيما من أجل منتجاتهم الطبية، قررت السلطات بدء بناء شركة صينية مماثلة لشركة فيديكس، تجمع بين التوزيع الأرضي الأكثر تطوراً وأسطول الشحن الجوي الممتد لجميع أنحاء العالم.
تزامن كل هذا مع فكرة طرحها للمرة الأولى محللون من صحيفة The Economist لتحديد "الفقاعات" الإقليمية، حيث تعاملت البلاد، التي تمثل وجهات السفر الرئيسية، مع الفيروس بطريقة جيدة. (على سبيل المثال، الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ونيوزيلندا وأستراليا). سوف يسمح بعودة السفر الجوي في هذه المناطق بتواتر أكبر من مناطق على شاكلة أمريكا الشمالية، وأوروبا، التي شهدت فوضى أكبر وأكثر فتكاً.
ثمة شيء أكيد: قريباً سوف يختلف مستقبل جغرافيا شبكة الطيران الجوي الدولي اختلافاً كبيراً. ظلت خارطة المسارات العالمية الأساسية كما هي منذ بدء عصر الطائرات النفاثة قبل 60 عاماً، مع تحيز قوي يفضل الخطوط الجوية الغربية التي كان لها الريادة فيه. وفي ذلك الوقت، كانت الصين بلا وجود فعلي على الخريطة. والآن تبدو أشبه بمركز العالم.
مع انسحاب أمريكا من الاضطلاع بدورها القيادي العالمي، واتجاهها نحو حرب تجارية حمائية، وهو ما تضاعف الآن بتصرفات الصين القمعية ضد هونغ كونغ، مُنح سادة الصين مساراً واضحاً لقيادة مستقبل النمو وصياغة شكل السفر الجوي عبر آسيا والمحيط الهادئ.