التعايش مع الانفصال.. كيف ينضج الأطفال السوريون في رحلة اللجوء إلى أوروبا الممتدة منذ 9 سنوات؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/06/02 الساعة 18:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/02 الساعة 18:10 بتوقيت غرينتش
رحلات اللجوء السوري نحو أوروبا، أرشيفية

في صيف عام 2015، حين قرَّرت سُهير، والدة يوسف، أنّ العائلة يجب أن تُغادر سوريا وتبدأ في بيع كل شيء لتمويل الرحلة، عرض الصبي البالغ من العمر 13 عاماً وقتها بيع أثمن ما يملك: جهاز بلايستيشن 2 ومجموعة من أسطوانات الألعاب المُقرصنة، ومن بينها لعبته المفضلة Shadow of the Colossus، كما تقول والدته لصحيفة New York Times الأمريكية.

إذ هجر والده العائلة، في حين تقدّمت شقيقته سعاد -التي لم يرها منذ عام- للتو بطلب لجوء إلى هولندا، وكانت والدته تخشى على مستقبل أطفالها الثلاثة الباقين داخل سوريا: يوسف، وشقيقتيه الكبريين نائلة وميسم. لذا قرّرت العائلة أنّ الانضمام إلى سعاد في أوروبا هو أفضل خياراتها وأكثرها أماناً للبقاء معاً.

وبذل أصغر أفراد العائلة يوسف قصارى جهده كي لا يكون عبئاً أثناء تنفيذ الخطة. فلم يتذمّر حين فقد الشعور بقدمه تحت ضغط أوزان الآخرين المستقرين فوقه داخل القارب المطاطي، الذي حملهم من تركيا إلى جزيرة كوس اليونانية. ولم يبكِ حين توقّفت على غير هُدى داخل بحر إيجة، وبدأ العديد من البالغين في التذمّر والصلاة.

انفصال العائلة

خلال المرحلة التالية من الرحلة، انفصلت العائلة مؤقتاً لركوب الرحلات المغادرة من كوس. إذ حاول يوسف ووالدته السفر إلى بروكسل. في حين ستطير نائلة وميسم إلى زيوريخ، قبل أن يلتئم شمل العائلة من جديد من داخل هولندا. وكان على يوسف التظاهر بأنّه تشيكي في الـ16 من عمره -ليُطابق الهوية المزيّفة التي صنعها له مُهرّب لم يلتقه- رغم أنّ الكذب كان يُثير قلقه. وكان يخشى أنّ يكشف طُوله خدعته، إذ كان أقصر بكثير من صبي في الـ16 من عمره. ووقف هو ووالدته أمام مكتب تسجيل الوصول ليُراقبوا في رعب موظف التذاكر المُتشكِّك وهو يُمزِّق بطاقات صعود الطائرة أمامهم. وانطلق يوسف مع سهير في رحلة مشي استمرت لسبعة أيام من اليونان إلى أوروبا الغربية، مروراً بالبلقان، وهو الطريق الذي سلكه غالبية المهاجرين ذلك الصيف.

لكن يوسف لم يفقد أعصابه حتى وصل إلى كرواتيا، فأثناء اصطفافه مع والدته من أجل الحصول على الطعام في إحدى نقاط التفتيش الحدودية، سألها إنّ كانت تعرف شيئاً عن شقيقتيه نائلة وميسم، إذ سمحت الهويات المُزيّفة للشقيقتين في كوس بالصعود على متن الطائرة المُتّجهة إلى زيوريخ، وكانتا في انتظار ركوب القطار من هناك إلى أمستردام، وكان يعتقد أنّهما وصلتا بالفعل. 

لكن سهير كانت تعرف الحقيقة منذ أيام، وأخبرته أخيراً: لقد أُلقِيَ القبض على شقيقتيه داخل القطار في ألمانيا، بسبب تلك الوثائق المزيّفة واضطرتا لطلب اللجوء هناك. وبهذا لن تستطيعا الانضمام إليهما في هولندا، بافتراض نجاح سهير ويوسف في بلوغ هولندا. وحينها فقط فقد يوسف أعصابه ودخل في حالة بكاء هستيري بحسب والدته.

واقع جديد من الانفصال بعد 5 سنوات

وبعد مُضي خمس سنوات بدأ يوسف يتعايش مع واقعه الجديد، الواقع الذي تعيش فيه عائلته منفصلةً إلى أجلٍ غير مُسمى، وتنتشر بين أربع مدن في بلدين مُختلفين. إذ وصل هو ووالدته إلى أمستردام بنهاية سبتمبر/أيلول عام 2015، حيث التئم شملهم بسعاد، التي استقرت داخل المدينة أخيراً بعد سنوات من النزوح. ونائلة في برلين، بينما تعيش ميسم داخل قريةٍ صغيرة خارج مدينة هايدلبرغ الألمانية. وتأقلم يوسف مع الحياة في مدرسته الثانوية الهولندية، وبدأ يتعاطى مع الجامعة ويتكيّف بالملل المُعتاد من أي مراهق في الـ18 من عُمره عند التعامل مع أي شيء، بدءاً من إنجاز الواجبات المنزلية ووصولاً إلى عيش حياة اللاجئ كما هو الحال مع يوسف.

وكان العام الدراسي قد بدأ بالفعل حين وصل يوسف مع سهير إلى هولندا. ففي دمشق، كان من المفترض بيوسف أن يكون في الصفّ التاسع، لكنّه قضى شهوراً طويلة في التنقّل بين مُختلف مراكز اللاجئين على يد السلطات الهولندية.

وبدأ يحصل على بعض التعليم داخل المخيمات مع أطفالٍ عراقيين وسوريين في غالب الأحيان، حيث تلقّوا دروساً في اللغة الهولندية والرياضيات واللغة الإنجليزية لساعات طويلة كل يوم. وبعد عامٍ واحد من بلوغ هولندا أُودِع مع والدته في المساكن العامة بفليسنغن، وهي بلدةٌ ساحلية تعجّ بالسياح صيفاً، وتصير أكثر هدوءاً خلال العام الدراسي. وشعر أخيراً بالاسترخاء بمجرد انتهائه مع والدته من طلاء الجدران، وتركيب الأرضيات الخشبية، وتأثيث المنزل بأثاث وقطع مُستعملة.

وفي خريف عام 2016 كان من المفترض أن يكون في الصف العاشر إنّ بقي في سوريا، لكنّه التحق بمدرسةٍ عامة على أطراف فليسنغن ودخل الصف الثامن في التعليم الهولندي.

وكانت طاولات تنس الطاولة في الخارج هي أول ما لاحظه بمجرد زيارة مدرسته الجديدة، إذ كان لعب تنس الطاولة من الأشياء الجيّدة القليلة التي تعلّمها خلال الفترة التي قضاها في المخيمات. وداخل المدرسة كانت الجدران تحمل صوراً لمختلف الفرق الرياضية، بينما اصطفت الخزانات بطول الردهات، حيث تجوّلت قطةٌ مُقيمة بكل حرية دون أن تعبأ بالطلاب الذين يخرجون من صفوفهم عند قرع جرس انتهاء الحصة.

نجاح أكاديمي، ولكن

ويوسف مُتفوّق من الناحية الأكاديمية. ففي عامه الثاني بالمدرسة بدأ التركيز على مساره الجامعي وصار من الأوائل على صفه منذ ذلك الحين. وقال إنّ التعليم يُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة له، ويُدرك يوسف أنّه يرغب في تحضير الماجستير بعد الحصول على شهادته الجامعية، وهو مهتمٌ في الوقت الحالي بالفيزياء وعلم الأحياء النانوي وعلوم الحاسوب. بينما قال أستاذه في الاقتصاد أحمد الجوادي، الذي يُدرّسه منذ ثلاث سنوات، إنّ يوسف يمتلك "عقلاً جميلاً".

ولكن رغم نجاحه الأكاديمي وبعد نحو أربع سنوات قضاها في المدرسة عجز يوسف عن تكوين صداقةٍ واحدة، إذ لا يُشارك في الثرثرة التي تدور بين الحصص في الردهات، أو بين الخزانات، أو داخل الفصول قبل أن يدخل الأساتذة ويَهدأ الطلاب. إذ قال: "أنا أتفاعل معهم، ولكنّني لا أستطيع تكوين صداقات، أشعر دائماً بالحرج في وجودهم، وأعتقد أنّ السبب في ذلك هو عدم حصولي على تعليق حين أقول شيئاً، إذ لا أحصل على ردٍّ منهم".

وربما كُوفئ يوسف على فضوله الفكري في هولندا، لكنَّ ذلك الفضول سبّب مشكلات لعائلته بالكامل في سوريا، إذ اقتحم رجالٌ مُسلّحون من المخابرات منزل العائلة في عام 2012، حين كان يوسف في الـ11 من عمره، وبعد مضي عام على اندلاع الاحتجاجات المُعارضة للنظام كان الصبي استخدم منظاراً لتأمّل جبل قاسيون من شباك غرفة الطعام، وظهر ذلك المنظار من الشارع الذي يُوجد به مكتب مخابرات. واشتبهوا في أنَّ أحداً يتجسّس عليهم. وداخل منزل يوسف، دفع الرجال والدته جانباً، وصادروا المنظار وكافة الهواتف والحواسيب المحمولة داخل المنزل. ورغم صدمته وخوفه، وعدم إدراكه الكامل لما يحدث سأل يوسف أحد الرجال بكل براءة: "متى سأستعيد المنظار؟".

ويُؤكّد ذلك التدخّل العنيف ما تعلّمته أجيالٌ من السوريين تحت الحكم الاستبدادي، وهو أنّ هذا البلد ليس بلدهم، ولا يحصلون على حقوق ذات معنى بوصفهم مواطنين داخل دولة، كما تقول نيويورك تايمز، إذ إنّ "سوريا هي الأسد" بحسب التلقين السائد، وقد تلقّى يوسف بالفعل بعض تلك الدروس في حصص التاريخ والوطنية، وفي فناء المدرسة، حيث يصطفّ الطلاب كل صباح لتحية بشار الأسد.

التعايش مع الشتات والانفصال

أما شقيقته سعاد، التي تعيش على بُعد بضع ساعات في أمستردام فتعتقد أنّ يوسف يكره إعطاء وزنٍ كبير لمعاناته، لأنّه لا يرغب في النظر إليه على أنّه لاجئ. إذ قالت: "من الصعب أن تقبل الأمر على أنّه يُحدّد هويتك. وربما يشعر بعدم الارتياح لكنّه لا يخجل من كونه سورياً". ناهيك عن أنّ أوضاع الآخرين أكثر سوءاً بكثير، بينما يتسنّى له على الأقل أن يظل طفلاً ولو لبعض الوقت. وأردفت: "الأخطر من ذلك هو أنّ البعض لا يعيشون طفولتهم مطلقاً".

وبمرور الوقت، صار التعايش مع الانفصال عن نائلة وميسم أمراً أقل صعوبة. ويستطيع الآن رؤيتهما مرة كل عام على الأقل، ويتحدث إليهما أسبوعياً. ويشعر بالارتياح لعلمه إنّهما على ما يُرام في ألمانيا.

وحين سُئِلَ عن أكثر ما يُحبه في هولندا، عاد يوسف سريعاً إلى الحديث عن مسألة رفاه عائلته. وقال إنّه يُقدّر مدرسته، والمياه الجارية، والكهرباء، والإنترنت السريع. كما تحدّث عن إعجابه بالقطارات والعمارة الهولندية. لكنّه أوضح أنّ "الأهم من ذلك هو شعوره بأنّ والدته وشقيقاته يشعرن بسعادةٍ أكبر أيضاً".

ولا يزال يعشق ألعاب الفيديو، لكنّه يدّعي أنّه يلعب لبعض الوقت في العطلات ونهاية الأسبوع أحياناً فقط، نظراً لإدمانه تلك الألعاب بشدة.

وحين يتذكّر ذلك البلايستيشن الذي باعه في سوريا يشعر بالحنين إلى ألعاب أخرى بخلاف لعبته المُفضّلة، مثل: Ratatouille، والجزئين الأول والثاني من Madagascar، وNarnia، وGod of War. واختار تلك الألعاب تحديداً لأنّها: "كانت الألعاب التي ألعبها مع بقية أفراد العائلة".

تحميل المزيد