فجأة وجدت الإمارات نفسها محصورة بين المطرقة والسندان؛ فمن ناحية أصبحت الصين شريكاً تجارياً لا غنى عنه، ومن ناحية أخرى العلاقة مع واشنطن استراتيجية من أجل البقاء، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقول ما معناه "من ليس معي فهو ضدي"، فما المخرج من هكذا مأزق؟
صحيفة The Financial Times البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "الإمارات تعلق بين الولايات المتحدة والصين مع تنافس القوتين على النفوذ في الخليج"، ألقى الضوء على المأزق الإماراتي الذي لا يبدو أن هناك مخرجاً منه دون خسائر فادحة.
التوتر المكتوم ظهر للعلن
بعد فترة وجيزة من افتتاح أكبر مختبر لتشخيص "كوفيد-19" في العالم خارج الصين، عرضت الإمارات على سفارة الولايات المتحدة لديها منحها المئات من أجهزة الفحص لاستخدامها على موظفيها. لكن مبادرة الإمارات، واحدة من أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة، قوبلت بازدراء نادر الحدوث.
ومن جانبه، قال مسؤول أمريكي: "رفضنا العرض بلباقة". وأضاف المسؤول إنَّ السبب هو دور الشركات والتكنولوجيا الصينية؛ مما رفع "راية الخطر" وأثار شكوكاً حول خصوصية المرضى، ونزع الرفض الغطاء عن التوترات المستترة بين أبوظبي وواشنطن حول تعميق العلاقات بين الإمارات والصين، في الوقت الذي تنهال فيه إدارة ترامب على بكين بهجمات شفهية بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد.
ونظراً لأنَّ الأزمة أوجدت خطوط قتال جديدة بين واشنطن وبكين، اضطرت دول الخليج إلى إيجاد التوازن بين الحاجة الفورية للتعامل مع العلاقات الوثيقة مع الصين، واحدة من أكبر مستوردي النفط الخام من الخليج، ووجوب إرضاء حليفتها التاريخية الولايات المتحدة.
وقال مسؤول غربي: "أصبحت الإمارات جبهة توسع النفوذ الصيني. وكانت الولايات المتحدة قد أبعدت الإمارات عن هذه المنافسة سابقاً، لكنها أصبحت الآن تهاجم الإماراتيين بسبب هذه العلاقة، هناك شعور بأنك إما معنا أو علينا في هذه الحرب الباردة؛ مما أبرز التوترات التي تتراكم منذ بعض الوقت".
وافتُتِح مركز التشخيص الإماراتي في أواخر مارس/آذار من خلال مشروع مشترك بين شركة الجينوم الصينية BGI ومجموعة الذكاء الاصطناعي G42، التي لها صلات بالعائلة الحاكمة في أبوظبي، وقد دعم المركز -ومقره بالعاصمة الإماراتية- حملة تشخيص "كوفيد-19" في الإمارات، التي أجرت أكثر من مليوني فحص في الدولة التي يبلغ عدد سكانها 9 ملايين شخص -وهو واحد من أعلى معدلات نصيب الفرد من الفحوصات في العالم.
لكن بالنسبة للسفارة الأمريكية، أثار الجمع بين شركة جينوم مقرها الصين وكيان في أبو ظبي له هيكل ملكية مبهم، مخاوفَ من أن تجد المعلومات الحساسة حول دبلوماسييها طريقها إلى بكين، وأوضح المسؤول الأمريكي: "هناك مخاوف عن خصوصية المرضى، والطريقة التي يمكن استخدام فحوصات التشخيص بها".
وقالت شركة BGI -المملوكة للقطاع الخاص- إنها لا تمتلك صلاحية الوصول إلى بيانات المرضى، التي تديرها السلطات الصحية المحلية. أما G42 فامتنعت عن تحديد مالكيها، لكنها قالت: "هناك بروتوكولات صارمة لأمن المعلومات وخصوصية البيانات".
تحذير أمريكي صارم
وقبل أزمة فيروس كورونا المستجد بوقت طويل، حذَّرت واشنطن دول الخليج من أنَّ زيادة التعاون التكنولوجي مع القطاع الخاص الصيني قد تعرض عقوداً من التعاون الأمني للخطر، ومنحت شركات الاتصالات الحكومية في الإمارات -وهي محور نقل وتجارة يربط بين الشرق والغرب- عقود إنشاء شبكات الجيل الخامس 5G لشركة Huawei الصينية المُدرَجة في القوائم السوداء لواشنطن.
وقال المسؤولون الأمريكيون: "هم يخاطرون بتمزيق العلاقات الاستراتيجية طويلة المدى التي تربطهم بالولايات المتحدة"، وعملت الإمارات ودول الخليج الأخرى على توطيد العلاقات التجارية والسياسية مع الصين خلال السنوات الأخيرة.
تبادل تجاري متزايد بين الإمارات والصين
إلى جانب ذلك، عزَّزت القوة الآسيوية، التي تستورد معظم نفطها من الخليج، من التجارة غير النفطية مع المنطقة، وفي مطلع الألفية الحالية، وصل حجم التجارة الثنائية السنوية مع الإمارات إلى ملياري دولار، لكنها ارتفعت منذ ذلك الحين إلى 50 مليار دولار، وقبل تفشي الوباء، كانت الإمارات تأمل في زيادته إلى 70 مليار دولار هذا العام.
وتبلورت القيمة الاقتصادية والدبلوماسية لشراكة الإمارات مع الصين -التي تأكَّدت في عام 2018 من خلال الزيارات الثنائية لقادتيها- خلال أزمة فيروس كورونا المستجد، إذ أرسلت الإمارات أقنعة وقفازات إلى الصين خلال المراحل الأولى من تفشي الجائحة، بينما شاركت بكين المعرفة الطبية بعد اجتياح الفيروس لدول الخليج.
وأبرمت الصين شراكات استراتيجية مع جميع دول الخليج العربي، باستثناء البحرين. وفي أبريل/نيسان، توسعت شركة BGI إلى السعودية، حيث وقعت صفقة بقيمة 265 مليون دولار لستة مختبرات في المملكة.
إضافة إلى ذلك، أرسلت بكين شحنات من المعدات الطبية، مثل الأقنعة وأجهزة التنفس الاصطناعي، إلى شركاء آخرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق وإيران ومصر والجزائر.
وفي هذا السياق، قال جوناثان فولتون، الأستاذ المساعد في جامعة زايد بأبوظبي: "تعد شراكات الصين الإقليمية أداة دبلوماسية معقدة للغاية، تأخذها إلى حافة تحالف بهدف التعاون الأمني لكن من دون الحاجة لقوات على الأرض. إن فائدة هذه العلاقة، في مواجهة فشل الولايات المتحدة في معالجة نفسها، ناهيك عن مساعدة الشركاء، جعلت الصين أكثر جاذبية في جميع أنحاء المنطقة".
ولا تزال دول الخليج تعتمد على القوة العسكرية الأمريكية من أجل حمايتها، في حين لم تبدِ الصين أي اهتمام أو حرص يُذكَر على الاضطلاع بدور الوسيط في أمن منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
واستطرد فولتون قائلاً إنَّ بكين بدأت في "الالتفاف حول حواف" المناطق التي فشلت فيها الولايات المتحدة في تلبية طلبات حلفائها في الخليج. على سبيل المثال، منعت الولايات المتحدة توريد طائرات بدون طيار عسكرية متطورة إلى السعودية والإمارات؛ لذا اشترت كلتاهما طائرات صينية بدون طيار.
وأضاف فولتون: "ستواصل الإمارات التطلع إلى الولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية، لكن في الوقت نفسه، تزداد قوة الجذب والترابط مع آسيا عمقاً وكثافة. ولا أرى كيف يمكن أن يتغير ذلك"، وعن الخلاف حول شركة Huawei، قال مسؤول كبير في الخليج: "على الأمريكيين أن يقدموا بدائل تكنولوجية"، وأضاف المسؤول: "لا يمكنك أن تقول: "لا تشتر منتجهم من الأرز، مع أنني أنا لا أنتج الأرز. الأمور تحت السيطرة الآن، لكن هذه المسألة ستصبح مستعصية بمرور الوقت".