مع بدء عودة العمل تدريجياً بعدما قضى المصريون فترة طويلة تحت حظر التجول الجزئي والتي امتدت لما يقرب من 13 ساعة يومياً، امتلأت شوارع القاهرة بملايين المواطنين العائدين إلى أعمالهم وقضاء مصالحهم والذين كان عليهم الالتزام بارتداء الكمامات لتفادي دفع الغرامة التي قررتها الحكومة على المخالفين، ضمن خطة التعايش مع كورونا وتنفيذاً للإجراءات الاحترازية، لتفادي انتشار الفيروس.
ورغم التزام الغالبية بارتداء الكمامة تجنباً لدفع غرامات متدرجة، وتشدُّد سائقي وسائل النقل العام وأفراد الأمن في المنشآت المختلفة بعدم دخول من لا يرتدي الكمامة، لم يخلُ الموقف من خروج على النص بات يمهد لكارثة صحية تهدد حياة المصريين، فقد رصد "عربي بوست" ظاهرة لجوء بعض سائقي الأجرة إلى شراء بعض الكمامات وتدويرها على زبائنهم والإفلات من غرامة إقلال ركّاب لا يرتدون الكمامة، فيما ذهب باعة جائلون لجمع الكمامات المستعملة وغسلها ثم إعادة بيعها بسعر زهيد لغير القادرين.
كارثة الكمامة الدوارة
فيما أكد عدد من الأطباء أن قضية "تدوير الكمامة" تعد إحدى قضايا "الأمن القومي"؛ لما تمثله من خطورة على الصحة العامة للمواطنين.
وقال الدكتور أحمد درديري أستاذ بالطب الوقائي، إن "تأجير الكمامات أو استبدالها من شخص لآخر يزيد الوضع تعقيداً ويزيد من وطأة التحديات التي تواجهها الحكومة، ويعد أمراً كارثياً، فهو أخطر من الإصابة بالفيروس نفسه، لأن من يقومون بذلك لن يعرضوا أنفسهم للإصابة بكورونا فقط ولكن للإصابة أيضاً بعديد من الأمراض والبكتيريا والفيروسات الملتصقة بالكمامة الدوارة والتي حتماً ستنتقل اليهم بمجرد استخدامها، حيث إن الفم والأنف الملامسَين للكمامة يحتويان على عديد من الميكروبات غير المرئية، والتي تحتاج إلى علاج مكثف ربما أشد من علاج فيروس كورونا ويحتاج إلى مدة طويلة جداً".
ويؤكد د. الدرديري أن ما يفعله بعض السائقين يمثل خطورة شديدة على من يرتديها، أكثر من الشخص الذي لا يرتدي كمامة، لأنه بمجرد استخدامها تصبح رطبة باللعاب والسوائل، فضلاً عن أنها تفقد صلاحيتها في حال اتساخها وتصبح وسيلة لنشر الفيروس بدلاً من أن تكون وسيلة للوقاية منه، وعند إزالتها يجب وضعها فوراً في حاويات النفايات لا استعمالها مرة أخرى حتى من جانب الشخص الأول نفسه.
ويتساءل قائلاً: "المفروض اننا نناقش قضية الكمامات المغشوشة؛ لما تمثله من تهديد على صحّة المواطنين، فهي ليست صحية بالمرَّة من حيث الخامة وعدم توافر بيئة معقمة لها، فما بالنا بالكمامة المستعملة التي لا تفتقر فقط إلى المواصفات؛ بل أيضاً تنقل فيروسات وبكتيريا تكون أشد فتكاً من كورونا نفسه عند دخولها إلى الممرات التنفسية".
وشدد الدرديري على أنه كان من المفترض على الحكومة قبل فرض ارتداء الكمامات، اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية ومراعاة ظروف الفقراء؛ تحسباً لمثل تلك الظواهر "الكمامة الدوارة" والتي ستزداد يوماً بعد يوم وتزيد من عدد الإصابات وتنشر أمراضاً أخرى كثيرة بين المواطنين، لافتاً إلى ضرورة عدم الاستهانة بهذه الأشياء، خاصة في ظل خاصية الانتشار السريع للأمراض التنفسية.
ويشير إلى أنّ نشر الوعي وحماية المواطن وتوفير المستلزمات له بما يتناسب مع إمكاناته لا يقل أهمية عن الإجراءات التى تتخذها الحكومة لمواجهة الأزمة الاقتصادية لفيروس كورونا.
تشديدات وملاحقات
ميدانياً، تنتشر الدوريات المرورية في شوارع القاهرة منذ الأحد الماضي، في مواقف سيارات النقل العام والخاص، لمتابعة مدى التزام السائقين بارتداء الأقنعة الواقية بالإضافة إلى التزام الركاب بارتدائها، وقد رفض سائقو هيئة النقل العام استقلال المواطنين للأتوبيس من دون كمامات، لدرجة أن بعضها بدا خالياً من الركاب في أول ساعة من تطبيق القرار الحكومي، على الرغم من أنه موعد الذهاب إلى العمل.
فيما عمّت قناعة لدى البعض بأن جهات بعينها تسيطر على صناعة الكمامات الطبية في مصر وتحتكر المادة الخام اللازمة للتصنيع بغرض التربح من بيعها بقرارات حكومية؛ وهو ما دفع البعض إلى التعامل مع هذه القرارات بعدم اكتراث، وعند مناقشة بعضهم أرجعوا عدم التزامهم إلى ما سموه "تخبط القرارات" واهتزاز ثقتهم بالإجراءات التي تتخذها الحكومة دون تحقيق نتيجة ملموسة على أرض الواقع.
فيما أكد مصدر أمني ـرفض ذكر اسمهـ أن هناك متابعة مستمرة من اللجان الأمنية بمواقف سيارات الأجرة والطرق الرئيسية، لرصد السيارات المخالفة لقرار ارتداء السائقين والركاب الكمامة الواقية، وتوقيع الغرامات على المخالفين طبقاً للقانون، بالإضافة إلى التأكد من إجراءات النظافة والتطهير، والتهوية والمسافات الملائمة بين المواطنين قبل تسييرها، وذلك بالتنسيق مع الوحدات المحلية وإدارة المواقف والمرور.
وشدد المصدر على سحب تراخيص سيارات "السرفيس" والأجرة في حال عدم التزام السائقين فيها بارتداء الكمامات أو في حال السماح للمواطنين بالركوب دون ارتدائها؛ حفاظاً على صحة وسلامة المواطنين، مؤكداً ضرورة تعقيم سيارات الأجرة قبل تحرك السيارة من الموقف وبعد نزول الركاب؛ لعدم تعرضهم لسحب رخصة القيادة وإيقاف خطوط السير وتوقيع الغرامة المالية وتحرير محضر للمخالف.
وهو ما نفاه أحد المواطنين قائلاً: "لا يوجد أي تعقيم لوسائل المواصلات، والناس متكدّسون في سيارات الأجرة، وليس هناك أي حرص على التباعد الاجتماعي".
محمد عبدالمنعم موظف بمكتب للبريد، يقول لـ"عربي بوست" متسائلاً: "ما دامت الكمامة مهمة للوقاية من الفيروس، لماذا لم يطالبونا بارتدائها قبل شهرين! أم كانوا في انتظار تشغيل مصانعهم الخاصة في إنتاج الكمامات؟! لم يعد لديَّ ثقة بأي قرار حكومي، فكلها قرارات متخبطة، وليس لدي قدرة على شراء كمامة يومياً بثلاثة جنيهات فهذه ميزانية إضافية لا أقدر عليها".
وختم قائلاً: "لاحظت أن ضباط الشرطة يشددون على ارتداء الكمامة في الصباح، وفي المساء لا يبالون بمن لا يرتديها، هم لا يهتمون بصحة المواطن هم فقط يطبقون تعليمات".
دعم مشروط
من جهة أخرى انتقد صحفي بإحدى الصحف القومية يدعى شريف، قرار الهيئة الوطنية للصحافة تقديم دعم مالي مشروط للمؤسسات الصحفية لشراء المستلزمات الطبية الكافية لموظفيها، وألزمها مقابل الحصول على الدعم بأن تنفقها على منتجات وزارة الإنتاج الحربي دون غيرها، وقال: "هذا القرار يقضي على التنافسية التي توفر الجودة والسعر المناسبين".
وكانت الهيئة الوطنية للصحافة قد قررت وفقاً للقانون رقم 179 لسنة 2018 بشأن تشكيل الهيئة وصلاحياتها، "تقديم دعم عاجل بقيمة 100.000 جنيه كدفعة أولى لكل مؤسسة لشراء مستلزمات التطهير والتعقيم من جهاز الخدمات العامة للقوات المسلحة ووزارة الإنتاج الحربي، على أن يتم تقديم الفواتير المعتمدة للهيئة، وألا تُنفق في أية أغراض أخرى بخلاف القرار، كما اشترطت عدم تقديم أي دعم آخر إلا بعد استيفاء هذا الشرط" .
على جانب آخر كان مجلس الوزراء المصري قد أعلن عن تطبيق حزمة من العقوبات على مخالفي قرار ارتداء الكمامة الواقية في وسائل النقل العام، ومترو الأنفاق والأسواق والمراكز التجارية، تبدأ من 50 جنيهاً مصرياً وتصل إلى 4000 جنيه، علماً بأن غرامة عدم ارتداء ركاب الحافلات العامة وسيارات الميكروباص الكمامة تقع على السائق والراكب المخالف على حد سواء، باعتبار أن الأول هو المنوط به التأكد من الالتزام بالقرار.
وهو الأمر الذي تسبب في حالة من الاستياء بين سائقى الميكروباص منذ صباح الأحد، وهو أول أيام العمل بعد انتهاء عطلة عيد الفطر؛ ما دفع بعض سائقي الميكروباص إلى ابتكار فكرة الكمامة الدوارة، رغم كونها شديدة الخطورة وقد تتسبب في تفاقم الأزمة الصحية لا في وقفها.
من جهة أخرى، كانت الحكومة أوقفت إعلانات الكمامات القطنية ثم أعلنت تصنيعها تحت إشرافها رغم تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد في مصر خلال الأيام الماضية، وشعور كثيرين بالهلع من السير على طريقة دول أوروبا المنكوبة مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرهما.
فقد تعامل كثير من البسطاء مع القرار الجديد باستهتار وخفة واضحَين، فقد قام عدد من المواطنين بشراء كمامة قماشية؛ ليتمكن من غسلها وإعادة استخدامها عدة أسابيع.
فرصة لابتزاز السائقين
شكوى جديدة لسائقي الأجرة رصدها "عربي بوست"، فقد فتحت قرارات الحكومة بتغريم السائقين، باب ابتزازهم من قِبل أمناء الشرطة، الذين يحصلون على أموال منهم مقابل الامتناع عن تحرير محاضر عدم ارتداء الكمامة.
ويقول عمرو علي، وهو سائق ميكروباص، إن "إحد الأمناء أخذ منه خمسين جنيهاً مقابل عدم تسجيل مخالفة أو سحب رخصته، ويشير إلى أن يومي السبت والأحد كان هناك تشدد في الإجراءات ولكن في الليل اختلف الأمر، وقايض أمين شرطة السائق لكي يفلت من الكمين!".
لا ثقة بالقرارات
يقول باحث اقتصادي، طلب عدم ذكر اسمه: "إن مشكلة عدم الالتزام بالقرارات الحكومية رغم أنها تهدف إلى الحفاظ على حياة المواطنين، فإن هؤلاء ليست لديهم ثقة بقرارات المسؤولين الحكوميين، بسبب تضاربها ووصول الوضع إلى تلك المرحلة الخطيرة التي جعلت الجميع بلا استثناء أمام فوهة مدفع".
ويشير الباحث الى أن الخطة الموضوعة للتعايش مع كورونا لن تساعد في تعافي الاقتصاد فالأزمة عالمية، وتخفيف إجراءات الإغلاق داخلياً لن يقابله سياحة واستثمار، فضلاً عن انكماش تحويلات المصريين بالخارج، وربما تراهن الخطة على تنشيط اقتصاد قطاعات داخلية متضررة، لكن ماذا عن الأرواح؟