فرض وباء كورونا حظراً على تحركات البشر حول العالم، وأصبح العمل من المنزل أمراً طبيعياً وله فوائد كثيرة لجميع الأطراف، فما الذي يمنع استمراره؟ وماذا عن هؤلاء الذين لا تسمح طبيعة الوظيفة بتأديتها من المنزل؟ هل يكفي 4 أيام أسبوعياً؟ الفكرة قديمة أعطاها الوباء قُبلة الحياة، فما القصة؟
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "هل تمهِّد هذه الجائحة الطريق لتطبيق نظام العمل لأربعة أيام فقط في الأسبوع؟"، ألقى الضوء على سيناريوهات التعامل مع متطلبات النشاط الاقتصادي في ظل وجود الفيروس القاتل.
عيون العالم على نيوزيلندا
قضت الإجراءات الحاسمة المبكرة وأسلوب القيادة التشاركي والمتعاطف الذي انتهجته رئيسة وزراء البلاد جاسيندا أردين، على تفشّي فيروس كورونا في البلاد خلال أقل من 50 يوماً، لينال البلد بذلك موقعاً على قائمة موجزة من بلدان يتطلّع إليها بقيّة العالم بعين الطامع في النصح والإرشاد، ليس على مستوى كيفية مواجهة الموجة الأوّلية من الجائحة فحسب، بل فيما يتعلّق بما قد يحدث في أعقابها.
ومن ثمّ، عندما رفعت جاسيندا مقطع فيديو على فيسبوك خلال الأسبوع الماضي يلوّح بفكرة العمل لأربعة أيّام في الأسبوع، جذبت الفكرة انتباه جمهور خارج نيوزيلندا، وهو ما اتضح من تعليقاتهم، وفي خضمّ المرونة التي أبدتها الشركات استجابةً لأزمة فيروس كورونا المستجد، لم تعد تلك الفكرة التي لطالما اعتُبرت هامشية في كثير من الأوساط، بعيدة عن التصور.
قالت جاسيندا إنها تبحث عن أفكار إبداعية لتحفيز السياحة المحلّية، من أجل مساعدة الصناعة على التعافي بالتزامن مع بدء فتح البلاد من جديد تحت مظلّة التدابير الصارمة التي لا تزال مفروضة على الحدود، ولكنها صاغت الفكرة في سياق تغييرات أوسع نطاقاً ألحقتها الجائحة بأماكن العمل.
وقالت: "لقد سمعت الكثير من الناس يقترحون أن يصير أسبوع العمل أربعة أيّام، وفي نهاية المطاف، هذا يعتمد على أصحاب العمل والعاملين"، وحثّت رئيسة الوزراء الشركات على النظر في تبنّي سياسات جديدة.
اتجاه قائم من قبل الوباء
قبل أن تقلب جائحة فيروس كورونا الحياة في العالم رأساً على عقب بفترة طويلة، اكتسبت أطروحة أسبوع العمل الذي يقتصر على أربعة أيّام دعماً عالمياً، حسبما أشار ألكيس سوجونغ كيم بانغ، مؤلّف كتاب "Shorter: Work Better, Smarter, and Less — Here's How".
وليُجري أليكس دراسته التي طرحها في مُؤلَّفه، عكف على قضاء وقتٍ في المكاتب التي تطبّق تلك السياسة في أستراليا، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، والبلدان الاسكندنافية، كي يتقصّي سبب تبنّيهم ذاك التحوّل، وتشير بعض الدراسات إلى زيادة الإنتاجية والرضا في العمل إذا ما وُضعَت جداول حضور أقصر وأكثر ضغطاً.
روّج رئيس الوزراء الفنلندي لتلك الفكرة، واحتشد حزب العمال البريطاني دعماً لها أيضاً، ونجحت شركات من بينها مايكروسوفت في اليابان، وشاك شاك بالولايات المتحدة في تجربة نُسخٍ منها، ورغم أن بعض التجارب لم تُطبّق على الدوام في نهاية المطاف، اكتشفت دراسة أجريت خلال العام الماضي في المملكة المتحدة أن 64% من قادة الأعمال التي تطبّق نظام العمل أربعة أيّام أسبوعياً قد شهدوا زيادة في إنتاجية العاملين، وربط 77% من العاملين ذاك الإجراء بتحسين جودة الحياة.
"فقاعات" عملٍ محظوظة
ترى كارين جانسن، باحثة السلوك التنظيمي في المملكة المتّحدة، أن الكثير من منافع العمل لأربعة أيّام أسبوعياً تتداخل نظرياً مع مزايا العمل من المنزل، تلك التي تتجاوز مسألة السلامة خلال الجائحة، إذ قالت: "إن التداخل يكمن في تحقيق التوازن بين العمل والحياة، والمساعدة في الحفاظ على البيئة فيما يتعلّق بتنقّلك وأثر أنشطتك الإنسانية على الأرض".
ولكن، لن يصير العمل لأربعة أيّام أسبوعياً، على نحوٍ كبير الشبه بالعمل عن بعد، متاحاً لجميع العاملين على حد سواء، وهناك نماذج مختلفة من أنظمة العمل لفترات أقصر، بعضها يطرح تصوراً لتحقيق نفس الإنتاجية في ساعات أقل، والبعض الآخر يتخيّل ببساطة ساعات عملٍ أطول في عدد أقل من أيّام العمل.
وبالفعل، أدّت الجائحة إلى تفاقم الانقسامات بين أصحاب المهن التي يمكن القيام بها عن بُعد، والعاملين في مجال الرعاية الصحية، وتجارة التجزئة، وتوصيل الطلبات، وتجهيز الأغذية، والقطاعات الأخرى ممن لا يمكنهم البقاء في المنزل ويواجهون مخاطر متزايدة، كما أدت الأزمة إلى تضخيم أوجه عدم المساواة المتأصلة بين العمال في الوظائف الرسمية، بعقود وساعات محددة، وأولئك الذين يعملون تحت مظلّة الاقتصاد غير الرسمي.
وقالت كارين إن أسبوع العمل الممتدّ لأربعة أيّام فحسب لا يمكنه علاج هذه "الفقاعات"، بل ستصير عطلة نهاية الأسبوع التي تستمر ثلاثة أيام "فقاعة" شبيهة بالعمل عن بعد، وستشمل تلك الفقاعة عدداً متزايداً من الأشخاص والمهن بينما تستبعد آخرين.
لصالح المساواة بين الجنسين أيضاً
قال أندرو بارنز، وهو رجل أعمال ومؤيد بارز لنظام العمل أربعة أيّام أسبوعياً في نيوزيلندا، إنه إذا ما طُبِّق ذاك النموذج قد يفيد في تصحيح مواطن الخلل بين الجنسين.
تشير دراسات إلى أن النساء في جميع أنحاء العالم يتحملن وطأة رعاية الأطفال والمسؤوليات المنزلية الأخرى في ظل إغلاق البلاد وتعليمات العمل من المنزل، مما يؤدي إلى تفاقم الخلل الموجود من ذي قبل، وعلى النقيض، يرى أن تطبيق نظام العمل لأربعة أيّام أسبوعياً قد يفلح في التطبيع مع نمط حياة يقسّم فيه جميع الأفراد على حدٍّ سواء أوقاتهم بين المنزل ومكان العمل، وهدم الحاجز المتأصّل أمام التقدّم المهني للإناث.
وقال بارنز: "لن تجد النساء بأعلى المناصب ما لم تُخرج الرجال من المكاتب. فحين تفعلها، تجعل قضاء الرجال وقتاً في منازلهم، لكي يعتنوا بالأطفال ويتحمّلوا مسؤوليات الرعاية، أمراً مقبولاً".