بعد خمسة أشهر من اعتلائه سدة الحكم طرح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون للنقاش العام مسودة التعديل الدستوري التي تمثل أول ورشة في برنامجه للإصلاح السياسي الشامل.
وبدأت مؤشرات تغير لافت في العقيدة العسكرية للجيش تظهر، بعدما بات مسموحاً للرئيس الجزائري، وفق مسودة الدستور الجديد، بإرسال وحدات من الجيش خارج الحدود الجزائرية، سواء للمشاركة في عمليات حفظ السلام الأممية أو عمليات قتالية لإحلال السلام في دول الجوار، بعد ستة عقود لم يكن مسموحاً خلالها للقوات الجزائرية بالقتال في الخارج، لتنقسم وجهات النظر بين من يرى هذه الخطوة تغييراً لعقيدة الجيش ومن يرى أنها خطوة تحميه من الضغوط الخارجية لإقحامه في عمليات قتال.
"بإمكان الجزائر في إطار الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وفي ظل الامتثال التام لمبادئها وأهدافها، أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام"، هذه أول مادة دستورية في تاريخ الجزائر المستقلة تتحدث عن إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج، جاءت في مسودة تعديل الدستور المناقشة حالياً، وتبعتها مادة أخرى تمنح الصلاحية للرئيس بالموافقة على إرسال الجيش بشرط تصديق ثلثي أعضاء البرلمان.
المقترح أثار سجالاً على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام حول توجُّه الجزائر إلى تغيير عميق في "العقيدة التاريخية للجيش"، رغم أن الدساتير السابقة تمنع بنص صريحٍ إرسال الجيش الجزائري خارج الحدود.
ولمعرفة خلفيات وأسباب مقترح إرسال الجيش إلى خارج الحدود اتصل "عربي بوست" بخبراء في الشأن الأمني وضباط متقاعدين.
تقييد الرئيس
امتنعت الجزائر طوال عقود، عن اللجوء إلى الحرب خارج حدودها إلا في حالات نادرة، متمسكة بدورها فيما يتعلق بدعم حركات التحرر في مناطق عدة، دون وجود نص دستوري صريح يمنعها، كما حرصت على الالتزام بمنطق أن "جيشها قوة سِلم وأمن" بالعالم كما تنص عليه ديباجة الدستور.
يقول العقيد المتقاعد أحمد عظيمي لـ"عربي بوست": "إن كل الدساتير الجزائرية لا تنص على منع إرسال الجيش خارج الحدود، وقرار الإرسال كان متاحاً للقائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية فقط، والمقترح الجديد قيّد صلاحية الرئيس بتصديق ثلثي نواب البرلمان".
ويُرجع العقيد المتقاعد سبب إضافة الشرط الجديد إلى تجنب الضغوطات الخارجية على رئيس الجمهورية في المستقبل بإرسال القوات المسلحة خارج الحدود، وكذلك حماية الجيش من رعونة أو تهور أي رئيس مستقبلاً.
وكشف عظيمي لـ"عربي بوست"، أن "الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة تعرّض لضغوطات كبيرة من طرف فرنسا؛ من أجل إرسال قوات الجيش الجزائري إلى جانب القوات الفرنسية في شمال مالي لمحاربة الإرهاب بداية عام 2013".
وأوضح أن "بوتفليقة كان راغباً في إرسال الجيش استجابة لطلب فرنسا؛ لتسهيل عملية التخلص من قادة الجيش الرافضين لمشروعه من جهة، وضمان مسألة نقل السلطة أو التوريث من جهة ثانية، لكن تدخُّل مجموعة من الضباط المتقاعدين وأساتذة جامعيين وسياسيين وتحريكهم للرأي العام جعل بوتفليقة يتراجع عن قراره"، لأنهم كانوا يعتقدون أن الجيش كان سيحارب بالوكالة لصالح فرنسا.
تضرر المصالح
ورغم الضغوط الدولية وارتفاع الأصوات المطالبة للجزائر بتحريك قواتها العسكرية لتكون جزءاً من التحولات الإقليمية التي شهدتها المنطقة منذ 2011، فإن الدبلوماسية الجزائرية ظلت تراوح مكانها، متمسكة بموقفها الأول.
أما العقيد المتقاعد بن عمر بن جانة، ففي حديثه لـ "عربي بوست"، يرجع أسباب إحياء فكرة إرسال الجيش خارج الحدود، إلى الظروف الإقليمية والتطورات التي شهدتها المنطقة خاصة في العقد الأخير، وتضرر المصالح الاستراتيجية والعمق الأمني للجزائر في دول الجوار مثل مالي والنيجر وليبيا، بسبب حروب أهلية ونشاط مكثف للجماعات الإرهابية، بالإضافة إلى قواعد عسكرية لدول أجنبية.
كما سجلت محاولات لتهديد أمن واستقرار الجزائر من خلال حادثة الهجوم الإرهابي على منشأة النفط في تقنتورين (2013) بولاية إليزي جنوب الجزائر والتي تسللت فيها المجموعة الإرهابية من ليبيا، ومحاولة الاعتداء على ثكنة عسكرية في تمنراست أقصى الجنوب، بالإضافة إلى اقتحام القنصلية الجزائرية في مالي واختطاف 5 دبلوماسيين من قبل إحدى الجماعات الإرهابية.
كل هذه العوامل يعتقد بن جانة أنها فرضت تعديل الدستور، لإدراج مادة تسمح للجيش الجزائري بالمشاركة في عمليات حفظ السلام تحت رعاية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية.
والمحصلة أن هذه الرخصة الدستورية الجديدة تشير إلى تغير لافت في السياسة الإقليمية للجزائر، ومراجعة شاملة لمبادئ السياسة الخارجية للجزائر.
الدور الإقليمي والدولي
أوضح المراقب الدولي السابق للأمم المتحدة أحمد كروش، أن النقاش حول فكرة إرسال الجيش إلى خارج الحدود كان متداولاً سابقاً، خلال مشاركة الجيش الجزائري بضباط ملاحظين في إطار بعثات الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية لعمليات حفظ السلام.
في المقابل، استبعد الخبير الأمني أحمد كروش إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج إلا إذا كان هناك تهديد فعلي للجزائر، أو لتعزيز مكانتها ودورها إقليماً وعالمياً بمجال مكافحة الإرهاب في إطار الحفاظ على الأمن والسلام الدوليَّين بالمنطقة أو في إطار اتفاقيات ثنائية مع الدول، وهذا القرار لن يصدره الرئيس إلا بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان، وهو ما يحمي البلاد من السقوط في مستنقعات الحروب المستنزفة.
الدفاع النشيط
وأجمع الخبراء الأمنيون على أن الظروف الحالية لا تدعو إلى تدخُّل الجيش خارج الحدود، لكن هذا لا يمنع من حماية حدود الوطن والدفاع عن مصالح الجزائر حيثما كانت، بتفعيل "الدفاع النشيط"، وهو الدفاع المتقدم خارج الحدود قبل وصول الخطر إلى الداخل إذا أجبرت الظروف على ذلك.
في المقابل يُتوقع عودة الجزائر إلى الساحة الإقليمية، وهو ما يؤدي إلى تغيّر موازين القوى بالمنطقة، وتبدُّل أدوات تفعيل الموقف في دول الجوار التي تشهد توترات ونزاعات داخلية، لها ارتدادات مباشرة وغير مباشرة على أمن واستقرار الجزائر.
لا حظر دستورياً
وقد سبق أن شارك الجيش الجزائري في مهمات قتالية خارج البلاد في حربي 1967 و1973 مع الجيوش العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق هواري بومدين، كما شارك في نشر قوات الاتحاد الإفريقي بالصومال، وساهم في بعثة حفظ السلام الأممية بكمبوديا، وقام بأعمال غير قتالية في الصحراء الغربية لنجدة اللاجئين وتموينهم، وملاحقة خاطفي 33 سائحاً ألمانياً شمال مالي عام 2003، وكذا عملية إجلاء الدبلوماسيين الجزائريين في ليبيا عام 2014، كل هذه المعطيات تلغي تماماً حجة الحظر الدستوري على إرسال الجيش إلى الخارج.