على الرغم من أن وباء كورونا لا يزال يحصد الأرواح حول العالم ويصيب عشرات الآلاف يومياً، أعلنت بعض الدول أنها ستبدأ في تخفيف الإغلاق الذي فرضته على الحياة فيها، وبدأت بعضها بالفعل في تخفيف تلك الإجراءات، حيث تواجه دول العالم اختياراً يبدو مستحيلاً، بين استمرار الإغلاق التام أملاً في احتواء الفيروس والقضاء عليه، ومحاولة التعايش ولو جزئياً، مع وجوده انتظاراً للتوصل إلى لقاح؟
ماذا يحدث في إسبانيا؟
شهد الإثنين 13 أبريل/نيسان، توجه بعض الإسبان إلى محطات المواصلات العامة الرئيسية في البلاد مرتدين الكمامات الطبية، بعد أن خففت الحكومة إجراءات العزل العام الرامية إلى الحد من تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، الذي أودى بحياة نحو 17 ألف شخص في البلاد.
ومع دخول إسبانيا الشهر الثاني من إجراءات العزل العام، سمحت السلطات لبعض الشركات التي لا يمكنها تشغيل عملياتها عن بُعد، مثل شركات الإنشاءات والتصنيع، بالعودة إلى العمل اليوم، وهو ما أثار انتقادات بعض الزعماء المحليين الذين يخشون من عودة التفشي، على الرغم من أن أغلب السكان ما زالوا ملتزمين بعزل منزلي، وستظل المتاجر والحانات والأماكن العامة مغلقة حتى 24 أبريل/نيسان على الأقل.
وقال وزير الداخلية الإسباني فرناندو جراندي-مارلاسكا، لإذاعة كادينا سير، الإثنين، إن الشرطة بدأت توزيع ملايين الكمامات في وقت مبكر من الصباح، بالأقاليم التي لا تشهد عطلة عامةً، اليوم. وقال: "يجب تأمين صحة العاملين، إذا تضرر ذلك بأدنى قدر فلا يمكن بدء النشاط".
وأظهرت لقطاتٌ صوَّرها تلفزيون رويترز عدداً محدوداً من الركاب يخرجون ويدخلون محطة قطارات أتوتشا المزدحمة عادةً بمدريد، وكانت حركة المرور في الشوارع خفيفة كذلك وأغلبها حافلات عامة.
يأتي هذا في الوقت الذي تحتل فيه إسبانيا المركز الثاني عالمياً من حيث عدد الإصابات بفيروس كورونا والذي بلغ نحو 170 ألف حالة، الإثنين، في حين وصل عدد حالات الوفاة إلى نحو 17500. لكن إجراءات العزل العام التي تم اتخاذها كانت قد أسهمت بشكل واضح، في تراجع حالات الوفاة التي بلغت ذروتها في أوائل أبريل/نيسان الجاري.
أوروبا تستعد لاستعادة الحياة
وبحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، بدأت بالفعل دول الاتحاد الأوروبي في وضع خطط لإعادة الحياة إلى الاقتصاد ورفع جزئي للقيود المفروضة حالياً بسبب الجائحة، وأعلنت دول مثل الدنمارك والنمسا وجمهورية التشيك والنرويج وجزر فارو عن استعدادها لبدء الرفع التدريجي بداية من منتصف أبريل الجاري.
وسوف يعاد فتح المحلات الصغيرة في النمسا بداية من الثلاثاء 14 أبريل/نيسان، والمحلات الأكبر ستفتح أول مايو/أيار، ويأمل المسؤولون هناك أن يعاد افتتاح المطاعم والفنادق منتصف مايو/أيار، وقد أعلن المستشار النمساوي سيباستيان كيرتس -الذي شهدت بلاده 312 حالة وفاة بسبب الوباء- أنه سيتحدث مع الخبراء بشأن "إعادة الحياة للبلاد" في أعقاب عيد الفصح.
وفي السياق نفسه، سوف تعلن المفوضية الأوروبية، الأسبوع المقبل، "خارطة طريق أوروبية نحو الخروج من وباء كوفيد-19″، في ظل قلق متزايد في بروكسل -مقر المفوضية- من أن حدوث خروج من حالة الإجراءات التقييدية الصارمة المطبقة حالياً، بشكل فوضوي، قد يكون مميتاً.
لماذا المخاطرة؟ وهل يقتنع الناس؟
وناشدت المفوضية الأوروبية في مشروع الدليل الاسترشادي الدول الأعضاء كي تنسق "التخفيف التدريجي لإجراءات العزل"، محذرة بأن ذلك التخفيف سوف يؤدي إلى ارتفاع متوقع في حالات الإصابة الجديدة، بحسب المستندات التي اطلعت عليها الصحيفة.
وكان رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، قد قال إن قرار استئناف العمل في بعض القطاعات اتُّخذ بعد التشاور مع لجنة من الخبراء، وأي توسيع لتخفيف القيود سيعتمد على مدى النجاح في مكافحة الفيروس.
الجدال بشأن إعادة الفتح التدريجي للحياة أو ما يمكن تسميته "التعايش مع كورونا"، أصبح القضية الأبرز في أوروبا حالياً، مع رفض بعض المواطنين قرار تخفيف الإجراءات التقييدية قبل القضاء على خطر تفشي الفيروس.
ففي الدانمارك، على سبيل المثال، أثار اقتراح عودة تلاميذ المدارس الابتدائية لمدارسهم الأسبوع المقبل، غضباً وعدم تصديق في بعض الأوساط، وقالت ساندرا أندرسون، وهي أُم لطفلتين في الخامسة والتاسعة، لصحيفة بوليتيكين المحلية: "لم أصدّق الخبر عندما سمعته وقلت لنفسي إنه لا يمكن أن يكونوا جادين. لديَّ إحساس بأن الأطفال سيكونون بمثابة فئران اختبار، لأننا لا نعرف شيئاً عن طبيعة الفيروس، وهو دائماً ما يتحور بشكل أشرس. من الجنون أن نرسل صغارنا للمدارس وهم لا يعرفون شيئاً عن قواعد الوقاية".
وقد أنشأت أندرسون صفحة على فيسبوك بعنوان "طفلي لن يكون فأر تجارب لكوفيد-19″، انضم إليها أكثر من 37 ألف متابع منذ إعلان رئيسة وزراء الدانمارك، ميتي فريدريكسين، عن التخفيف الجزئي لإجراءات الإغلاق، والصفحة مليئة بمنشورات من أولياء أمور متوترين ويصرون على أنهم لن يرسلوا أبناءهم للمدارس، في حين يتهم البعض مؤسسة الصفحة بنشر الذعر.
والجدل هذا منطقي؛ صحيح أن هناك من يرى في التخفيف الجزئي للقيود الصارمة بارقة أمل بنهاية الخندق المظلم، تتمثل في بداية طريق العودة للحياة الطبيعية، إلا أن الأمر كله يغلفه القلق والتوتر، إذ بعد أشهر من إخبار المواطنين عن مخاطر كورونا والعدد الضخم من حالات الوفاة حول العالم -أكثر من 115 ألف حالة حتى الإثنين 13 أبريل/نيسان، والأعداد تتزايد وإن كانت متفاوتة بين دولة وأخرى- وأن عليهم قبول الإجراءات الصارمة والبقاء في منازلهم، يظل السؤال الأبرز الآن: هل الناس مستعدة للعودة إلى حياتها قبل الفيروس؟
الجانب الاقتصادي
تفكير الحكومات في كيفية الخروج من الموقف المستحيل الذي تواجهه بفعل الجائحة، نابع بالطبع من الآثار الاقتصادية المترتبة على توقف عجلة الاقتصاد ومعاناة الحكومات لاحتواء الجائحة -التي لا يبدو أن لها علاجاً أكثر نجاعة من بقاء المواطنين في منازلهم- وبين توفير متطلبات القطاع الصحي لعلاج المصابين ومواجهة عجز مفاجئ في الموازنة العامة مع انخفاض حاد في الإيرادات وارتفاع قياسي في الإنفاق.
فكلما طال أمد الإغلاق الكلي، زادت وطأة الظروف الاقتصادية، وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي ذاته ويمثل خطراً قد يكون أسوأ من تهديد الجائحة ذاتها بحسب توصيف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ ومن ثم تبحث الحكومات عن حل وسط يتمثل في التخفيف التدريجي للقيود الصارمة، خصوصاً في القطاعات التي لا يمكن استمرار العمل فيها عن بُعد أو من المنازل، كقطاع الإنشاءات والمقاولات.
وقد نشرت صحيفة تايم البريطانية تقريراً بعنوان "الحكومات تدرس كيفية تخفيف إغلاق كورونا والسماح بخروج الشباب أولاً قد يكون خياراً"، ألقى الضوء على ورقة بحثية تم تقديمها للحكومة البريطانية، تقول إن الشباب بين 20 و30 عاماً يجب أن يكونوا في طليعة من يتم تخفيف القيود عنهم والسماح لهم بالعودة للعمل، على أن يبقى آباؤهم ومديروهم في المنازل.
الورقة التي أعدها اقتصاديون في جامعة وورويك وتم نشرها هذا الأسبوع، تقول إن تلك الفئة العمرية تواجه مخاطر منخفضة فيما يخص العدوى بـ"كوفيد-19″؛ ومن ثم هم الأكثر تأهيلاً للعودة إلى العمل وبث بعض الحياة في النشاط الاقتصادي قبل أن يموت الجميع، وبحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز تدرس الحكومة البريطانية المقترح حالياً.
لكن حالات الوفاة لشباب في الفئة العمرية نفسها ولا يعانون أي مشاكل صحية بسبب عدوى فيروس كورونا، دون أن يتوصل العلماء إلى تفسير لتلك الحالات، تمثل عائقاً كبيراً أمام هذا الإجراء.
كل هذه المعطيات تجعل فكرة الرفع الجزئي للقيود الصارمة جدلية للغاية؛ فعلماء الفيروسات وخبراء الأوبئة يتفقون على أنه إلى حين التوصل للقاح للفيروس -غير متوقع قبل 12 إلى 18 شهراً على الأقل- يظل أي تخفيف للقيود يحمل في طياته مخاطر زيادة وسرعة التفشي وارتفاع حصيلة قتلى الفيروس، ويقول العلماء من جهتهم، إنَّ وضع نماذج توقعات لتأثير مختلف الطرق لتخفيف الإغلاق يحتاج مزيداً من الوقت.
لكن الحكومات تواجه تبعات الاقتصاد المرعبة غير المسبوقة، من جراء تلك الإجراءات التقييدية، وهذا ما يدفعها إلى البحث عن بدائل أو خيارات تتمكَّن من خلالها من إعادة تحريك بعض الأنشطة الاقتصادية في الأشهر القليلة المقبلة أو على الأقل قبل نهاية العام، وهو ما يعني حتمية البدء في فكرة التعايش مع وجود الفيروس ولو جزئياً، وهو ما سيتم التراجع عنه بالقطع لو حدثت حالات تفشٍّ جديدة وارتفع النسق مرة أخرى.