قبل خمس سنوات، اقترضت أميرة حوامدة 423 دولاراً لشراء أزرار وخيوط غزل، لصناعة الشنط والسترات والبطانيات وبيعها للجيران. وقد احتُفي بمثل تلك القروض الصفيرة لتأسيس مشروعات منزلية صغيرة، بوصفها طريقة مبتكرة لإنتشال النساء من الفقر، وتمكينهن من أن يصبحن رائدات أعمال يسهمن في الاقتصاد.
لكن أميرة توقفت عن العمل منذ ثلاث سنوات؛ بعدما أصيبت بداء السكري وألم الظهر. وعندما مرض ابنها، أخذت قرضاً متناهي الصغر ثانياً لتشتري له الدواء، وعندما عجز زوجها عن تسديد الإيجار، أخذت قرضاً ثالثاً، كما تقول لصحيفة The New York Times الأمريكية.
"كنت يائسة"
تقول أميرة، البالغة من العمر 64 عاماً، وهي أُم لسبعة أبناء: "كنتُ يائسة". واليوم هي مَدينة بـ613 دولاراً، وتخشى أن يُزج بها إلى السجن.
على نحوٍ متزايد، أمست سيدات الأردن اللاتي يقترضن قروضاً متناهية الصغر لمواجهة البطالة والفقر، يقعن في فخ نظام كان من المفترض أن يساعدهن. فهناك مئات من مكاتب الإقراض غير النظامية التي تعمل في سوق التمويل متناهي الصغر المزدهر بالأردن، وهي تقدم قروضاً سهلة المنال ولكنها مرتفعة الفوائد والعقوبات، مع وجود تهديد بالسجن إن لم تسدَّد تلك القروض.
يعد الأردن من البلدان القليلة التي تجرِّم الدَّين. وفقاً لتقرير وطني بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة، هناك نحو ألفي سجين -ما يمثل 12% من سجناء البلاد- محتجزين بتهمة عدم سداد القروض. وفي الشهر الماضي، أرجأت الحكومة حبس ثلاثة آلاف غارم آخرين؛ لمنع تكدُّس السجون، في إطار جهودها لمواجهة فيروس كورونا.
مقرِضون عديمو الضمير
يقول العاملون في مجال الإغاثة والحقوقيون، إنه غالباً ما يفشل المُقرضون عديمو الضمير في شرح شروط القروض ومخاطرها للمقترضين، الذين غالباً ما يفتقرون إلى الثقافة المالية وقد يعانون من الفقر المدقع.
قالت سارة فيرير أوليفيلا، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الأردن: "مَنح قرضٍ لشخص لا يعرف عواقبه تصرُّف غير مسؤول. الأمر شبيه بإعطاء شخص حقنة لا يعرف آثارها الجانبية".
وتطالب الشركات المرخصة المانحة للقروض متناهية الصغر بمزيدٍ من الرقابة؛ للقضاء على الممارسات الخادعة التي قد تشوّه الصناعة برمَّتها. قالت لينا بخيت، مديرة قطاع الأعمال في البنك الأهلي ونائبة رئيس الشركة الأهلية للتمويل الأصغر: "هناك حاجة لمزيدٍ من التنظيم، حتى لا نقضي على هدف دعم المشروعات متناهية الصغر".
وقد أمست مشكلة سجن الغريمات الفقيرات واضحة للغاية، لدرجة أن الملك عبدالله الثاني تطرَّق إليها في برنامج صباحي أُذيع بعيد الأم في البلاد، إذ دعا الأردنيين إلى مساندتهن. وسدد الملك عبدالله شخصيّاً ديون 1500 امرأة، أسفرت دعوته عن جمع نحو 10 ملايين دولار لسداد ديون 6481 امرأة أخرى.
كان الناشطون وأقارب الغارمين تظاهروا مرتين بعمَّان العاصمة في الشهور الأخيرة، مطالبين بإلغاء القانون الذي يسمح للدائنين بطلب سجن المدينين.
كانت فكرة ثورية
عندما أسس الاقتصادي محمد يونس "بنك غرامين" للتمويل الأصغر في بنغلاديش عام 1983، مطلقاً بذلك مساراً آخذاً في الانتشار، بدت الفكرة ثورية.
فقد وعد نظام السوق الحرة، الذي حلَّت فيه القروض الصغيرة محل الأعمال الخيرية، بمساعدة الفقراء من النساء، وأحياناً الرجال، ليصبحوا عاملين منتجين. وفي كثير من الحالات، كانت النساء منخرطات في صناعات منزلية بالفعل، وكانت العقبة الوحيدة التي حالت دون توسيع أعمالهن والتغلب على الفقر هي النُّظم المصرفية التي لا تقدم قروضاً صغيرة.
ومن هناك، انتشرت الفكرة وازدهرت صناعة التمويل متناهي الصغر، ونال يونس جائزة نوبل في عام 2006. لا تزال صناعة التمويل متناهي الصغر حديثة نسبيّاً بالشرق الأوسط. في الأردن، مدَّت تلك الصناعة يد العون لكثيرين ممن لم يوفوا شروط الإقراض في البنوك التجارية العادية.
أعلنت مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي عام 2018، أنها أقرضت مؤسسة تعمل في مجال التمويل متناهي الصغر بالأردن 10 ملايين دولار، في ظل الجهود الرامية إلى دعم الأعمال الصغيرة، ورواد الأعمال، والنساء.
لماذا النساء؟
كان الأردن، الذي يبلغ فيه معدل البطالة 20%، سوقاً مناسباً. وحتى هؤلاء الذين لديهم وظائف، لا تغطي رواتبهم الشهرية التي يبلغ متوسطها 637 دولاراً مصاريفهم الأساسية. وقد وجدت إحدى الدراسات أن النساء يمثلن 70% ممن يحصلون على القروض متناهية الصغر.
بالإضافة إلى الحصول على القروض، فإن السيدات اللاتي أسسن مشروعات ناجحة من منازلهن كن يتمتعن بالرقابة المالية، ودعم العائلة، وخطة تسويق واقعية. علماً بأنه ما زال على السيدات اللاتي يُدرن مشروعات منزلية الاعتناء بالمنزل والأطفال.
ولكن بالنسبة لعشرات الآلاف من السيدات، أصبحت القروض متناهية الصغر ماكينات صراف آلي افتراضية، وطريقة سريعة للحصول على المال من أجل دفع الإيجار أو شراء الأدوية الطارئة. العام الماضي، قالت بسمة إسحاقات، وزيرة التنمية الاجتماعية الأردنية، إن 9 آلاف سيدة على الأقل متأخرات عن سداد قروض تبلغ 1400 دولار أمريكي أو أقل.
طريق إلى السجن
قد يؤدي هذا الطريق إلى تراكم الديون، وأحياناً إلى السجن. تختبئ فاطمة شيتاوي، المَدينة بأقل من 706 دولارات أمريكية، من أمر ضبطها.
وعندما تواصلنا معها عبر الهاتف، قالت إنها طلبت قرضاً بقيمة 600 دولار من الشركة الأهلية للتمويل الأصغر. وعندما سألتها الشركة عما تخطط لفعله بالمال، كذبت وقالت إنها أرادت بدء مشروع من المنزل.
بدلاً من هذا، استخدمت المال لدفع الإيجار. وقالت: "اعتقدنا أن هذا كان حلّاً سيساعدنا ويمنحنا سبيلاً للبقاء"، مضيفة أن الشركة لم تبدُ مهتمة بجهة صرف المال.
وتابعت: "لم يأتوا قط لمعرفة إن كنت بدأت المشروع أو كيف استخدمت المال. فقط اتصل بي الموظفون المعنيّون بالقرض ليسألوني: لماذا لم أدفع الدين، وبعد ذلك صدر أمر بالقبض عليَّ. وأنا الآن مختبئة. ورفضت الشركة الأهلية للتمويل الأصغر التعليق على تلك الحالة.
ماذا تقول شركات التمويل الصغيرة؟
يقول موظفون من شركتي إقراض، وافقوا على التحدث لـ"نيويورك تايمز" عن نشاطهم بشرط عدم الإفصاح عن هويتهم، إن المسؤولين عن القروض يتابعون العملاء، ولكنهم لا يستطيعون دائماً التحقق من موقف العميل.
وأضافوا أنه في بعض الحالات، لا تسمح السيدات إلا بدخول موظفات من شركات الإقراض إلى منازلهن، وفي حالات أخرى، تكون السيدات قد تخلفن عن دفع القروض بالفعل قبل أن يتمكن الموظف من زيارتهن.
للقروض الصغيرة أسعار فائدة تتراوح بين 22 و50%، وتفرض عديدٌ من الشركات المقرِضة رسوم معاملات إضافية تتراوح بين 70 و280 دولاراً. وفي بعض الحالات، قد يزيد سعر الفائدة إذا تأخر السداد.
تجلس حنان حسن، وهي أُم لأربعة أبناء في مدينة الرصيفة بوسط الأردن، على مرتبة رفيعة منقوشة بالورود في غرفة شبه مظلمة يغطي جدرانها العفن. وهناك دلوان فارغان تملأهما المياه المتساقطة من السقف المتشقق. وهناك حمام يفصله عن المطبخ حائط غير مكتمل، وليست فيه مياه جارية. وكانت هناك أكوام من الأوراق المبعثرة على الأرض بجانبها.
قالت: "كل هذه الأوراق تحذيرات قضائية". وكان هناك مزيد منها على هاتفها: فإحدى الرسائل النصية تحذر من اتخاذ إجراءات قانونية لعدم سداد القرض. لمدة 15 عاماً، كانت تأخذ قروضاً متناهية الصغر من ست شركات نظامية وغير نظامية، لتُبقي أسرَّتها صامدة. قالت حنان: "كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لتسديد الفواتير".
انتهاك للمواثيق الدولية
يقول خبراء حقوق الإنسان إن سَجن الغارمين ينتهك الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ولكن بعض البلدان القليلة؛ مثل المملكة العربية السعودية، ومصر، واليمن، لا تزال تقْدم على هذا، وبالمثل ولاية ميسيسيبي.
في الأردن، قد يُسجن الغارم مدة تصل إلى 90 يوماً سنوياً للقرض الواحد. وإن لم يُدفع الدَّين في العام التالي، يمكن أن يُسجن مرة أخرى. ومن شأن سَجن الأمهات أن يدمر عائلات برمتها.
تقول ديما كرادشة، وهي مستشارة وباحثة في قضايا المرأة، أجرت مقابلات مع عشرات النساء اللاتي أُطلق سراحهن من السجن بسبب الديون: "في بعض الأحيان، يُطلّق الزوج زوجته في أثناء سجنها، وتنهار الأسرة. إن ذلك مخالف كلياً لتمكين المرأة".
قال علي الصليبي، المستشار القانوني بمركز العدل للمساعدة القانونية، إن صناعة التمويل متناهي الصغر في الأردن مثال للرأسمالية المستعرة.
وأضاف: "غياب الثقافة المالية، وغياب الرقابة، وعدم الاهتمام باستدامة المشروعات المنزلية أمر مثير للذهول. تتربص تلك الشركات بالفئات الضعيفة وتستهدفها".
لا تجد حنان مخرجاً من المأزق في شقتها الباردة. يقود زوجها سيارة أجرة، ويجني من 10 إلى 20 دولاراً يومياً، وهي تَحيك الأثواب الشعبية، وتجني نحو 3.5 دولار أسبوعياً. قالت حنان إن زوجها ضغط عليها لأخذ القروض، وهو الآن يحثها لبدء مشروع منزلي لزيادة دخلهم.
وأضافت: "لا يفهم أننا عالقون لسنوات في دائرة الديون القاسية، وأن مستقبلنا غامض".