فيروس كورونا المستجد قضية صحية بحتة، والوباء المتفشي حول العالم حالياً هو مجال علماء الفيروسات والأطباء وخبراء الصحة بلا جدال، لكن بعض السياسيين يستغلون الخطر غير المسبوق الذي يواجهه مواطنيهم لتحقيق أغراض سياسية، ويعتبر الجدل الدائر حول استخدام دواء هيدروكسي كلوروكين كعلاج للمصابين بالفيروس نموذجاً صارخاً، فما قصة "الاستغلال السياسي" لهذا العلاج المزعوم؟
كيف بدأت القصة؟
ترجع قصة استخدام عقار هيدروكسي كلوروكين المضاد للملاريا كعلاج لفيروس كورونا إلى دراسة بحثية صغيرة وتمهيدية تم نشرها يوم 17 مارس/آذار الماضي في موقع علمي ينشر دراسات تمهيدية تخضع لمراجعات زملاء -الأولى في الأبحاث العلمية- تقول إن عقار الكلوروكين المستخدم في علاج الملاريا منذ أربعينات القرن الماضي يصلح كعلاج للمصابين بفيروس كورونا.
وفي يوم 3 أبريل/نيسان الجاري، أصدرت الجمعية العلمية المسؤولة عن الموقع -الجمعية الدولية للعلاج الكيماوي وعلاجات الميكروبات- بياناً صحفياً عبرت فيه عن "قلقها البالغ بشأن المعايير والوسائل التي اعتمدتها الدراسة"، وشكّك البيان في النتائج التي توصلت لها الدراسة.
الدراسة إذاً غير موثقة ولا نهائية من الناحية العلمية -حتى وإن قدمت أملاً يحتاجه الملايين في هذه الظروف الصعبة- لكنها أصبحت حديث العالم في ظرف ساعات بمجرد نشرها "أون لاين"، وكان أول من روّجها إيلون ماسك (الملياردير الأمريكي وأحد أبرز داعمي الرئيس دونالد ترامب) بعد أن نشرها من خلال حسابه على تويتر الذي يتابعه أكثر من 32 مليون شخص.
العلاقة بين ترامب وماسك تستدعي التوقف، فقد وصف الرئيس ماسك بأنه كنز وطني وعبقري مشبهاً إياه بتوماس أديسون، وماسك هو المدير التنفيذي لشركة SpaceX للسيارات الكهربائية التي تبلغ قيمتها السوقية 100 مليار دولار، بينما تبلغ ثروته الشخصية 30 مليار دولار وهو مهندس كهرباء.
ونتوقف مع ماسك نفسه قليلاً ورأيه فيما يتعلق بوباء كورونا، فنجد أنه متطابق تماماً مع رأي ترامب؛ فقد وصف ماسك حالة "الفزع" من كورونا بالغباء المطلق، وكان ذلك يوم 6 مارس/آذار الماضي، وقلل من خطورته بكل وسيلة ممكنة، وبعد أن بدأ تفشي الوباء إلى الولايات المتحدة وارتفعت أعداد حالات الإصابة بصورة صاروخية، نشر ماسك تغريدة بشّر فيها بأن عقار كلوروكين ناجح في علاج الوباء.
ترامب يعتبره علاجاً ويكذب بشأن اعتماده
يوم 19 مارس/آذار وفي مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، أعلن ترامب اعتماد الكلوروكين كعلاج لمصابي كورونا، وأكد أن هيئة الأغذية والعقاقير قد وافقت عليه بالفعل، مقدماً القصة على أنها اكتشاف سيغير مجرى الحرب ضد كورونا.
"لقد أتموا عملية الموافقة. تمت الموافقة عليه (استخدام كلوروكين كعلاج لفيروس كورونا). لقد اختصروا عملية الموافقة التي تستغرق في العادة شهوراً طويلة جداً إلى موافقة فورية. سنجعل هذا العلاج متاحاً من خلال الوصفات الطبية"، هذا ما قاله ترامب نصاً في ذلك اليوم، في إشارة لهيئة الأغذية والعقاقير الأمريكية.
واتضح أن تصريح ترامب هذا مجافٍ للحقيقة تماماً، حيث إن هيئة الأغذية والعقاقير لم تكن قد وافقت على العلاج كما زعم الرئيس، بل حتى لم تكن عملية التدقيق قد بدأت بعد، ورغم ذلك استمر ترامب في الضغط على المسؤولين في القطاع الصحي، متحدثاً في المؤتمرات الصحفية اليومية في أمور لا شأن له بها، وفي وقت كان الوباء قد بدأ التفشي في الأراضي الأمريكية بصورة مفزعة.
وعلى الفور أصبحت قصة استخدام العقار كعلاج للفيروس حديث الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم، ويوم 23 مارس/آذار تناول مواطن أمريكي وزوجته الكلوروكين أملاً بأن يحميهما من الإصابة بالفيروس، ففقد الزوج حياته بينما لا تزال الزوجة ترقد في العناية المركزة.
وعلى الرغم من أن الدراسة التي بنى عليها ترامب وكثير من السياسيين غيره حول العالم "قصة نجاح وهمية" كانت ولا تزال غير موثقة، واصل ترامب ضغوطه حتى رضخت هيئة الأغذية والعقاقير الأمريكية يوم 28 مارس/آذار وأعطت "موافقة طارئة" لاستعمال الدواء تحت إشراف الأطباء في المستشفيات فقط.
ثم أصبح العقار مجالاً للتجاذبات السياسية
وصل الأمر بترامب أن منع الدكتور أنطوني فوتشي -مدير المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية- من الإجابة عن أسئلة الصحفيين بشأن العقار وذلك قبل يومين فقط، على الرغم من أن الأسئلة تتعلق بأمر طبي بحت وفي مجال تخصص فوتشي وليس ترامب، لكن القرار في النهاية يتخذه ترامب، أليس هذا كارثة في حد ذاته؟
وأمس الثلاثاء 7 أبريل/نيسان حذر مسؤولون سابقون في هيئة الأغذية والعقاقير الأمريكية من خطورة رضوخ الهيئة للضغوط السياسية في أمور تتعلق بالصحة العامة للمواطنين، فإعطاء الموافقة بأي صيغة على عقار دون إجراء الأبحاث اللازمة لضمان فاعليته بشكل تام يعرض حياة المواطنين للخطر.
ترامب، من جانبه، يقول إن المريض بكورونا وحياته معرضة للخطر ليس لديه ما يخسره، فإذا نجح العقار في علاجه فهذا أمر جيد وإذا لم ينقذه فحياته كانت في خطر أصلاً، ويرد المعترضون على "تسييس الأمور الصحية" بأن تطبيق "هذا المنطق الترامبي هو ما جعل تفشي الوباء في الولايات المتحدة الأكثر قسوةً على الإطلاق حول العالم"، حيث وصل تخطى عدد الإصابات اليوم الأربعاء 8 أبريل/نيسان 400 ألف والوفيات اقتربت من 13 ألفاً.
الهند تمنع تصدير العقار وترامب يضغط
وهكذا أصبح عقار هيدروكسي كلوروكين سلاحاً سياسياً يباهي به مَن يمتلكه وارتفعت أسعاره حول العالم بصورة غير منطقية بسبب حالة الهلع من الإصابة بفيروس كورونا المنتشر حول العالم، ولا يبدو أن هناك وسيلة لمنعه من التفشي سوى إجراءات التباعد الاجتماعي والبقاء في المنزل، وهذا ما لا يريده السياسيون الذين يفكرون في الاقتصاد أولاً وأخيراً لأنه ورقتهم الرابحة لكسب أصوات الناخبين.
اتخذ رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قراراً بمنع تصدير العقار، لكن ترامب تدخل وأصبحت القصة مثاراً لتجاذبات سياسية، وفي النهاية رضخ مودي ووافق أمس الثلاثاء على تعليق قراره، بينما كان ترامب قد أعلن السبت أن الحكومة الاتحادية لديها 29 مليون جرعة من الدواء وأضافته لمخزونها الوطني.