العمل من المنزل بسبب جائحة كورونا هو البديل الأكثر أماناً حول العالم لمكافحة التفشي، والصورة الذهنية لدينا عن اليابان تجعلنا نعتقد أنها الدولة الأكثر استعداداً للعمل من المنزل، لكن الواقع مختلف تماماً؛ التقاليد والتكنولوجيا القديمة تجعل الأمر هناك شبه مستحيل، فمن يصدق هذا؟
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "يقولون إنّ علينا العمل من المنزل، لكن الأمر ليس بتلك السهولة في اليابان"، يلقي الضوء على مجموعة من العوامل التي تجعل فكرة التباعد الاجتماعي والعزل المنزلي في اليابان كابوساً مزعجاً للجميع.
العمل عن بعد غير مفهوم لهذه الأسباب
في خِضَم وباء فيروس كورونا، مع حالة الطوارئ التي أوشكت أن تُفرَض، ما تزال قطارات الركاب في طوكيو مكتظةً للغاية، كما تتصرّف العديد من الشركات وكأنّ شيئاً لم يتغيّر.
فهذه دولة يتعيّن عليك فيها الحضور شخصياً، إذ تتطلّب ثقافة العمل تفاعلاً مستمراً وجهاً لوجه، لإظهار الاحترام جزئياً. ويُحكَم على الموظّفين عادةً بحسب الساعات التي يقضونها وليس الناتج الذي يُنتجونه، ولا يثق المديرون في موظفيهم بما يكفي للعمل من المنزل، كما أنّ الكثير من الشركات ليست مُهيّأةً للعمل عن بُعد.
وقال أحد المصرفيين الاستثماريين، الذي اشترط السرية ليتحدث بصراحة: "قالها مُديري بوضوح وصرامة: إذا سمحت لكم بالذهاب إلى المنزل، فربما لا تُركزون على أعمالكم. ومن يعلم، ربما تبدأون في شرب الخمر أثناء العمل".
لا يرغب العملاء في إجراء الاجتماعات وجهاً لوجه بعد الآن، بحسب المصرفي، لكن المدير ما يزال يعتقد أنّ عليهم البقاء في المكتب لاستقبال اتصالات العملاء تعبيراً عن الاحترام، وأردف: "يقول مُديري إنّ التصرّف بخلاف ذلك سيُعطي العملاء انطباعاً بأنّنا نأخذ إجازة لنُسهّل الأمر على أنفسنا. هذا هو الفخر الياباني".
الأقل جاهزية للعمل عن بعد
وثقافة العمل الصارمة بشكلٍ فريد هذه تركت البلد في حالةٍ هي الأقل جاهزية بين دول العالم المُتقدّم لتبنّي حقائق العمل عن بُعد الجديدة في عصر فيروس كورونا الجديد.
وكان رئيس الوزراء شينزو آبي قد أعلن حالة الطوارئ أخيراً مساء أمس الثلاثاء السابع من أبريل/نيسان داخل طوكيو، وأوساكا، وبعض أجزاء البلاد الأكثر تضرّراً من فيروس كورونا. لكنّه أردف: "لن نُغلِق المدن كما حدث في البلدان الأخرى".
وجاء قراره في أعقاب أسبوعين من ارتفاع أعداد المصابين في طوكيو، وتزايد المطالبات باتّخاذ إجراءات حكومية أكثر صرامة.
في حين قالت استشارية الإدارة روتشيل كوب إنّ السبب وراء إحجام آبي عن التحرُّك بشكلٍ أسرع وأكثر حسماً يعود جزئياً إلى إدراكه مدى عدم جاهزية الكثير من الشركات للعمل عن بُعد.
اليابان ليست مهيأة للعمل عن بعد
وتُعَدُّ التقنية عاملاً مُهماً. فرغم الصورة عالية التقنية التي تتمتّع بها اليابان، لكنّها ليست مُهيّأةً للعمل عن بُعد على الإطلاق، ومثل الأرنب في قصة الأرنب والسلحفاة، كثيراً ما يبدو أنّ البلاد سارعت لتقفز مباشرةً إلى المستقبل، ثم أخذت قيلولةً في عام 1991 وتركت الجميع يسبقونها.
وتتخلّف الشركات اليابانية عن نظيراتها الغربية في استثمارات تكنولوجيا المعلومات، وما تزال الكثير منها عالقةً في الماضي الذي انتهى قبل 20 عاماً، مع برامج قديمة ووعي ضعيف بالحوسبة السحابية وأدوات مؤتمرات الفيديو.
كما أنّ أقسام تكنولوجيا المعلومات في الشركات مهووسةٌ للغاية بحماية الملكية الفكرية وبيانات العملاء السرية، لذا تسمح للموظفين بالولوج إلى أنظمة العمل فقط باستخدام حواسيب المكتب.
فضلاً عن أنّ غالبية الموظفين لا يمتلكون جهاز حاسوب محمول – ويعود ذلك جزئياً لخشيتهم فقدان تلك الأجهزة أثناء جلسات شرب الخمر بعد العمل، ولا يمتلك الكثيرون شبكة واي فاي في المنزل، وحتى لو امتلكوا تلك الأجهزة واتصالاً بالإنترنت، فسوف يُضطر الكثيرون منهم للعمل على طاولة غرفة الطعام داخل شقةٍ ضيقة في طوكيو.
وهذا بلدٌ ما تزال الشركات فيه تبعث الرسائل بالفاكس، كما يتعيّن ختم المستندات بالحبر، وأشارت وسائل الإعلام المحلية إلى أنّ الأشخاص الذين يعملون من المنزل سيتعيّن عليهم أيضاً الذهاب إلى المكتب من أجل ختم الوثائق من مديريهم، وأُغلِقَت المدارس، ولكنّها ليست مُهيّأةً للتعليم عبر الإنترنت.
ورغم أضواء النيون والقطارات فائقة السرعة، يبدو أنّ ثقافة الشركات اليابانية الأوسع ما تزال عالقةً في الماضي، مع تمييزٍ واسع النطاق ضد النساء واحتكارٍ للسلطة في أيدي الرجال المُسنّين المُحافظين.
مؤتمرات صحفية تكشف الحقيقة المرة
وربما تُفسِّر هذه الثقافة سبب اضطرار عامل من ذوي الياقات البيضاء إلى ارتداء قميص، وربطة عنق، وحمالة مكتب أثناء العمل على طاولة مطبخه بحسب تقارير وسائل الإعلام، فضلاً عن اضطرار امرأةٍ إلى تجاهل طلب الحكومة بالبقاء في المنزل الأسبوع الماضي، لأنّها كانت بحاجةٍ إلى بدلةٍ جديدة، لترتديها أثناء العمل من المنزل.
وفي الوقت ذاته، تستدعي الحكومة الصحفيين مراراً للتأكّيد على رسالتها المُكافِحة للفيروس – وهي أنّ الناس يجب أن يتجنّبوا الأماكن المزدحمة ضعيفة التهوية حيث يتحدّث الغرباء لفترات طويلة من الوقت- ويحدث ذلك عادةً خلال مؤتمرات صحفية تنتهك كافة تلك التوصيات بوضوح.
ورغم التوسّلات المُتكرّرة، جرى إعلام الصحفيين بأنّ وزارة الصحة والعمل والرفاهية "ليست لديها خُطط لإذاعة المؤتمرات الصحفية عبر البث المُباشر".
وتدور ثقافة العمل اليابانية حول مفهومٍ يُعرف باسم هو-رين-سو (ho-ren-sou)، ويعني كتابة التقارير-الإبلاغ-التشاور، وبدلاً من الحصول على مهام مُنفصلة مع استقلالية في تنفيذها، يُنتظر من المرؤوسين التشاور مع المديرين قبل كل خطوة.
وتزداد صعوبة تطبيق ذلك المفهوم حين لا يكون المدير والموظف في الموقع نفسه، ويكون الوصف الوظيفي غامضاً في كثيرٍ من الأحيان، كما يتقاضى الموظفون علاوة العمل الجماعي وليس الفردي. وهذه هي أحد الأسباب التي تجعل الحكم على الموظفين يصدر بناءً على عدد الساعات التي يقضونها، إذ يصعب تقييم الإنتاج حين يكون كل شيء من ثمار التعاون المُشترك.
وربما نجد أنّ بعض تلك الاختلافات ليست بالضرورة أسوأ من أساليب العمل الغربية، لكن روتشيل، التي تُقدّم المشورة للشركات الغربية واليابانية حول كيفية سد الفجوة الثقافية، قالت إنّ تلك المشكلات غالبيتها قائمة منذ فترة طويلة لكن فيروس كورونا ومطالبات العمل من المنزل كشفت الستار عنها: "الأمر يُشبه انتهاء المد – حين نرى كل القمامة مُكدّسةً على الشاطئ".
وأردفت أنّه في حال إغلاق المُدن، ستكون بعض الشركات جاهزة، بينما ستتكيّف الشركات الأخرى. في حين ستُوقِف بعض الشركات عملياتها، حيث سيُجبر أصحاب العمل الموظفين على أخذ إجازات مدفوعة أو إجازات بدون أجر.
وحتى ذلك الحين، سيُواصل الكثيرون التصرّف وكأنّ شيئاً لم يتغيّر، إذ قال المصرفي: "خرج مديري لشُرب الخمر مع زملائي مرتين الأسبوع الماضي. وهو يعشق شرب الخمر، ويُحب اصطحاب الآخرين للخروج والحديث عن العمل. وليست لدي مشكلةٌ في ذلك. ولكن ما أُريد قوله هو أنّك إذا أردت أن تُملي عليّ أفعالي وتكون صارماً في أمورٍ بعينها، فلماذا لا تكون صارماً مع نفسك؟".