دخلنا الآن الشهر الرابع منذ أن بدأ العالم يسمع عن فيروس كورونا في الصين، وأصيب نحو مليون شخص وفقد ما يقرب من 50 ألفاً حياتهم، ولا تزال حقيقة الوباء وكيفية الوقاية منه تائهة وسط السجال السياسي والتصريحات المتضاربة، من أهمية ارتداء الكمامة للفئة العمرية الأكثر عرضة للإصابة، فهل السبب مواقع التواصل الاجتماعي أم أن المتهم الرئيسي هو ذاته المفترض أن واجبه حماية الناس؛ الأجندات السياسية والفشل؟
هل ارتداء الكمامة يقي من كورونا؟
حتى الآن لا يبدو أن هناك إجابة محددة لهذا السؤال، فقد نشرت شبكة "سي إن إن" الأمريكية، الخميس 2 أبريل/نيسان، تقريراً بعنوان: "يبدو أن آسيا كانت مُحقة بشأن فيروس كورونا وقناع الوجه، وبقية العالم بدأت تقتنع". التقرير ألقى الضوء على الرسائل المتناقضة بشأن ارتداء قناع الوجه أو الكمامة من جانب المسؤولين سواء في مجال الصحة أو السياسة.
في الأسابيع القادمة، من المرجح أن تنصح الحكومات شعوبها بارتداء أقنعة الوجه أو الكمامات بغرض الوقاية من فيروس كورونا، وهذا الأمر مُتَّبع بالنسبة لمن يعيشون في آسيا، وهو جزء من الاستراتيجية التي اتبعتها الصين والدول المجاورة لها بغرض احتواء الفيروس وبدا أنها نجحت إلى حد كبير، عكس التفشي السريع في أوروبا والآن بالولايات المتحدة.
هذه الرسالة مفاجأة صادمة ومربكة لمواطني أوروبا والولايات المتحدة بشكل خاص، لأنها تأتي في أعقاب أسابيع من ادعاءات مسؤولي الصحة العامة والسياسيين وأقطاب إعلامية مؤثرة، بأن الكمامات لا تفيد، مناشدين الناس -بكل ثقة- أن يركزوا فقط على غسل اليدين والتباعد الاجتماعي، بحسب تقرير "سي إن إن".
اللافت هنا أن أهمية الكمامة في الحد من انتشار الفيروس هي العنوان الأبرز بالصحف والمواقع الغربية كأنه اكتشاف علمي مذهل، والسبب هو الارتفاع الجنوني في أعداد الإصابات المسجلة بالولايات المتحدة (البؤرة الأكبر حالياً)، وأوروبا أيضاً البؤرة المستعرة بالفعل، وهو ما طرح تساؤلات غاضبة حول جدية تعامل السياسيين في الغرب مع الفيروس، ومدى دقة تصريحات مسؤولي الصحة العامة في تلك البلاد والتي يتكشف شيئاً فشيئاً منها أن التصريحات في أغلبها إما مسيَّسة وإما مغلَّفة بغطاء اقتصادي رأسمالي لا يعنيه أكثر من الربح.
ففي أواخر فبراير/شباط الماضي، غرد الجراح العام الأمريكي جيروم أدامز (أحد أبرز المسؤولين في إدارة ترامب)، قائلاً: "توقَّفوا عن شراء الكمامات!" (مستخدماً الأحرف الكبيرة في العبارة؛ تعبيراً عن الصرامة والغضب، ولتأكيد الرسالة).
وأضاف: "إنها ليست فعالة في وقاية الناس من فيروس كورونا، لكن إن لم يجدها العاملون في النظام الصحي الذين يرعون المرضى، فإنها تُعرِّضهم وتُعرِّض المجتمع كله للخطر!".
وفي الأسبوع نفسه، أجاب روبرت ريدفورد مدير مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، على سؤال من أعضاء الكونغرس بشأن ما إذا كان يجب على المواطنين وضع الكمامات، بالنفي الحاسم والمباشر: "كلا!".
لكن الآن تغيرت النبرة تماماً، وأجاب ريدفورد على السؤال نفسه، بالقول إن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها "تعيد النظر في إرشاداتها الصحية، وقد توصي الناس بارتداء الكمامات للوقاية من الفيروس". وعلى الأرجح، فإن ذلك ما ستفعله بقية الإدارات الصحية حول العالم وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية نفسها، التي كانت رسالتها منذ تفشي الفيروس وحتى اللحظة، لا تنصح بارتداء الكمامات.
رسالة جيروم وتغيُّر موقف ريدفورد بشأن الكمامة لا علاقة لهما بالأمور الصحية أو الحقائق العلمية بقدر ما هما رسائل نابعة من المواقف السياسية، فكلا الرجلين يعمل تحت رئاسة دونالد ترامب، المتهم الأبرز الآن في الكارثة الوبائية التي تواجهها بلاده، بسبب الاستهانة بالفيروس والتأخر في اتخاذ إجراءات الوقاية منه؛ ومن ثم فعندما طالبا الناس بالتوقف عن ارتداء الكمامات كانا في الواقع يتستران على حقيقة نقصها في المخزون الاستراتيجي الأمريكي بصورة مقلقة، وبدلاً من التحرك بسرعة لسداد النقص ومصارحة الناس بحقيقة الموقف، أدليا بتصريحات ربما أسهمت بصورة أو بأخرى في توحُّش الوباء وتفشِّيه المرعب هناك في أيام معدودة، قفزت خلالها حالات الإصابة إلى نحو ربع مليون حالة في أقل من أسبوع.
أجهزة التنفس
فيروس كورونا الذي ظهر بالصين في ديسمبر/كانون الأول 2019، وربما قبل ذلك، يصيب الجهاز التنفسي؛ ومن ثم فإنَّ وضع المصاب الذي يعاني من بداية أعراض حادة، على جهاز التنفس الصناعي ربما يكون حاسماً في إنقاذ حياة الشخص، وهذه النقطة تحديداً يبدو أنها التفسير الوحيد حتى الآن لانخفاض معدل الوفيات في ألمانيا بالتحديد، حيث سجلت نحو 80 ألف إصابة حتى الخميس 2 أبريل/نيسان، في حين بلغت حالات الوفاة 959 فقط، وبالمقارنة مع إيطاليا وفرنسا وإسبانيا نجد أن نسبة الوفيات إلى الإصابات هي الأقل بشكل واضح.
ظهرت أول حالة في ألمانيا أواخر يناير/كانون الثاني، وهو تقريباً الأسبوع نفسه الذي ظهرت فيه أول حالة في الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وغالبية أوروبا، لكن الإجراءات التي اتخذتها ألمانيا بالتحديد يبدو أنها أنقذت كثيراً من الأرواح، وأولها إجراء أكبر عدد من اختبارات الكشف عن الفيروس، وأيضاً البدء مبكراً في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي بشكل كبير، وذلك من خلال شركات تصنيع السيارات لديها.
أما في الولايات المتحدة، فإن قصة أجهزة التنفس لا تزال محل شد وجذب بين ترامب والمديرة التنفيذية لشركة جنرال موتورز، ماري بارا، حيث اتهمها الرئيس، الجمعة 27 مارس/آذار، على تويتر، بالسعي لتحقيق أكبر قدر من الربح المادي مقابل تصنيع أجهزة التنفس، كما هدد ترامب بتفعيل قانون "الإنتاج من أجل الأغراض الدفاعية"، الذي يخول للحكومة الاستيلاء على أي شركة أو مصنع من أجل المجهود الحربي (وكما هو واضح فإن القانون يختص بوقت الحرب، وهناك إجماع الآن على أن كورونا قد يكون أخطر عدو تواجهه البشرية في العصر الحديث).
كبار السن؟
القصة الثالثة هي أن فيروس كورونا أكثر خطورة على فئة كبار السن ومن يعانون أمراضاً مزمنة، وهو زعم تردد على لسان مدير منظمة الصحة العالمية منذ مطلع فبراير/شباط، وعلى لسان السياسيين ومسؤولي الصحة حول العالم، واليوم تُظهر الإحصائيات بشأن المصابين في الولايات المتحدة أنه غير دقيق.
"هل يصيب فيروس كورونا الأجيال الأصغر في الولايات المتحدة بصورة أكبر مما كنا نظن؟"، تحت هذا العنوان نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، الخميس 2 أبريل/نيسان، تقريراً كشف أن نحو 40% من حالات الإصابة بالوباء في أمريكا هم دون سن 55 عاماً، وأن 20% منهم تتراوح أعمارهم بين 20 و44 سنة.
التقرير استطلع رأي ثلاثة خبراء في علم الفيروسات والأوبئة، منهم الدكتور تيموثي بروير، الذي قال إن البيانات المتاحة بشأن الفيروس كانت تركز في البداية على الحالات الحرجة والوفيات، وكانت نسبة الشباب بينها منخفضة؛ وهو ما أدى إلى ترويج البعض لقصة "كبار السن" والتركيز عليها، لكن مع توافر مزيد من البيانات تأكَّد لنا أن هذه ليست الحقيقة.
الفيروس قد يصيب أي شخص في أي مرحلة عمرية إذن وليس فقط كبار السن، كما أن خطورته ليست مرتبطة بالسن بقدر ما هي مرتبطة بالحالة الصحية للشخص، وهنا تفسر الدكتورة إديث براكو سانشيز الحالة الأمريكية بالقول إن نحو 20% من الأطفال الأمريكيين يعانون من السمنة المفرطة، وتقريباً ضعف تلك النسبة بين الشباب، وهذا معيار واحد فقط للصحة العامة في الولايات المتحدة، وهذا قد يكون أحد أسباب تفشي الفيروس بين نسب كبيرة من الشباب والأطفال، عكس بلدان أخرى.
الواضح إذن أن الجميع معرَّض للإصابة بالفيروس وأن من يعانون من مشاكل صحية خطيرة هُم الأكثر عرضة للأعراض الحادة أو الوفاة، بغض النظر عن السن أو الفئة العمرية.
السياسة والبيزنس
الحقيقة الوحيدة التي تبدو مؤكدة حتى الآن إذن هي أن فيروس كورونا سريع الانتشار، وتكمن خطورته في قدرته على البقاء على قيد الحياة لأيام قد تصل إلى تسعة خارج جسم الإنسان، وأيضاً يمكن أن يكون الشخص حاملاً للعدوى دون أن تظهر عليه أية أعراض؛ ومن ثم يكون سبباً للعدوى دون أن يدري هو أو أي من المحيطين به، والأخطر أن الشخص قد يصاب بالفيروس ويُشفى منه دون أن تظهر عليه الأعراض، وهذا ما يفسر سرعة التفشي الرهيبة التي نشاهدها حول العالم، بعد أن أصيب نحو مليون شخص، وتتزايد أعداد الإصابات بمتوسط يبلغ أكثر 70 ألف حالة.
هذه الأمور تجعل كورونا بالقطع أكثر خطورة من الإنفلونزا العادية -عكس ما صرح به ترامب وغيره من السياسيين في أمريكا وحول العالم- لأسباب عدة، أولها أنه بمجرد إصابة الشخص بفيروس الإنفلونزا تظهر عليه الأعراض، كما أن هناك لقاحات وتطعيمات لفيروس الإنفلونزا، وهذا أمر لن يتوافر لمواجهة كورونا قبل عام ونصف العام أو عام على الأقل، بحسب الخبراء.
كيف تمكنت الصين من احتواء تفشي الفيروس على أراضيها بمقاطعة هوبي وتحديداً في مدينة ووهان، حقيقة أخرى تفسر سبب التفشي الرهيب للفيروس بأوروبا والولايات المتحدة؛ فقد طبقت الصين أساليب وُصفت بالقمعية والاستبدادية؛ وضعت نحو 60 مليون مواطن في أجواء تشبه المعتقلات داخل منازلهم، وسط تقنيات مراقبة صارمة على مدار الساعة، والسؤال هنا: ماذا فعلت أوروبا والولايات المتحدة وهي تشاهد الفيروس وما هو قادر عليه وكان لديها الوقت الكافي لاتخاذ الإجراءات لاحتوائه؟!
الذي حدث هو أنه بينما كانت الصين تركز على احتواء التفشي ومساعدة المصابين -جنباً إلى جنب مع التستر على حقيقة الوضع على أراضيها بمساعدة منظمة الصحة العالمية ومديرها تيدروس أدهانوم غيبريسيوس، الذي بدا كأنه المتحدث باسم بكين؛ لإشادته الدائمة بجهودها في مكافحة التفشي- كانت الولايات المتحدة على لسان رئيسها، تستهين بالفيروس وتقول إن الإنفلونزا أخطر منه، ويركز على أهمية الاقتصاد واستمراره.
ووجَّه ترامب الاتهامات إلى الصين بشأن كورونا، ووصفه مراراً وتكراراً بـ"الفيروس الصيني"، ثم جاء دور بكين بعد أن أعلنت انتصارها على الفيروس في 10 مارس/آذار، في السعي لقيادة العالم واستغلال دبلوماسية الفيروس لتأكيد تلك الزعامة، في ظل توجيه الاتهامات إلى الولايات المتحدة بأنها منشأ الفيروس عن طريق جنودها.
الخلاصة أن وباء كورونا كشف مدى التردي الذي وصل إليه النظام العالمي تحت قيادة سياسيين ورجال بيزنس ينصبُّ تركيزهم على الترويج لمصالحهم وأجنداتهم الخاصة؛ وهو ما أدى إلى تحويل فيروس كان يمكن احتواؤه في مهده والقضاء عليه لو أن الصين تعاملت بشكل أسرع ولم تعامل الأطباء الذين حذَّروا منه في البداية على أنهم "مُروِّجو إشاعات" واعتقلتهم فمات من مات منهم- إلى وحش مخيف يهدد البشر جميعاً.
ومرة أخرى كان من الممكن احتواء الفيروس وعدم إعطائه الفرصة للتفشي حول العالم، لو أن السياسيين في إيران لم يتستروا على حقيقته فتتحول إلى بؤرة تفشٍّ في الشرق الأوسط، لو أن زعماء العالم الحر -كما يحبون أن يسمّوا أنفسهم (أوروبا والولايات المتحدة)- قد نحّوا جانباً طموحاتهم السياسية ومعاركهم الانتخابية وركزوا موارد وإمكانات دولهم على غاية واحدة وهي القضاء على التفشي قبل أن يتحول الوباء إلى جائحة.
والسؤال الآن: هل يضع السياسيون ورجال البيزنس طموحاتهم الشخصية ومعاركهم الانتخابية والنظرة القاصرة لتحقيق الربح بأقصر طريق ممكن، جانباً والتعاون بشكل مخلص وجادٍّ لكبح جماح الفيروس، أم يتحول الوباء إلى وحش مخيف يهدد حياة البشر بصورةٍ أكثر خطورة؟