سادت حالة من الهلع بين المصريين؛ خوفاً على أموالهم، بسبب قرار حكومي يتضمن وضع حد للسحب والإيداع بالبنوك المصرية، بدعوى تخفيف تداعيات فيروس" كوفيد 19″، المعروف بمرض كورونا المستجد.
وقرر البنك المركزي المصري، الأحد، وضع حد أقصى لعمليات الإيداع والسحب النقدي بفروع البنوك يومياً، يبلغ 10 آلاف جنيه للأفراد (نحو 640 دولاراً) و50 ألف جنيه (3180 دولاراً) للشركات.
بينما أصبح الحد اليومي لعمليات الإيداع والسحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي 5 آلاف جنيه، واستُثني من هذه الحدود المسحوبات بغرض صرف مستحقات العاملين والقوات المسلحة وشركاتها، بحسب صحيفة "البورصة" المصرية.
وضع حد للسحب والإيداع بالبنوك المصرية هدفه محاربة كورونا
القرار أربك قطاعاً كبيراً من المصريين المودعين لأموالهم في البنوك المصرية، والشركات العاملة بقطاع التجزئة، والتي تمتلك إيرادات نقدية كبيرة بشكل يومي.
يقول أحمد محمد، مدرس مصري: "كان لديَّ إيداع بنحو 200 ألف جنيه منذ ثلاث سنوات، وبعد تخفيض الفائدة وجدت أن العائد انخفض بشكل كبير، ومع أزمة كورونا قمت بسحب نصف المبلغ، وأودعته في شهادة البنك الأهلي بفائدة 15%، وأبقيت النصف الآخر خشية أي طارئ يحدث مع وباء كورونا".
وأضاف أحمد: "بالفعل شهدت تزاحماً كبيراً على البنوك خلال الأيام الماضية، بسبب توقف النشاط الاقتصادي في البلاد، فمن كان يعمل أصبح لا يعمل فلجأ إلى مدخراته، ومن كان يدخر أموالاً بفائدة عالية قام بسحبها بعد تخفيضها بنسبة 3% مرة واحدة ، والتزاحم على البنوك أصبح أكثر مع كل قرار أو تصريح تقوله الحكومة فيما يخص حياتنا المعيشية".
وعزا البنك المركزي تقييد الإيداعات والمسحوبات البنكية إلى حرص أجهزة الدولة على صحة وسلامة المواطنين، والحد من مخاطر فيروس كورونا المستجد، وما اتخذته من قرارات شهدت استجابة عالية.
وأوضح أن هذا القرار يهدف إلى ضمان الحماية وتجنب التزاحم والتجمعات، خاصة في فترات صرف الرواتب والمعاشات، والتزاماً بتعليمات الصحة والوقاية والمسافات الآمنة، وما أقرته منظمة الصحة العالمية.
الواقع أنه جاء بسبب تدهور حجم السيولة وهروب المستثمرين
ولكن مصدراً مصرفياً قال لـ"عربي بوست"، إن "عمليات السحب والإيداع ليست لها علاقة بفيروس كورونا بقدر ما هي متعلقة بالسياسة النقدية، فخلال الأسبوع الماضي، بالفعل تم سحب 30 مليار جنيه من البنوك، وهذا يمثل خطورة على حجم السيولة النقدية".
وأوضح أنه في ظل الأزمة التي تشهدها بلدان العالم كافة بسبب "كورونا"، لن يستطيع البنك المركزي تغطية السيولة التي ستُفقد بسبب هذا السحب الكبير، لأن هذه السيولة مرتبطة بحجم الاحتياطي من النقد الأجنبي الذي يعتمد غالبيته على القروض والمِنح وعلى المستثمرين الأجانب الذين يشترون سندات دين بالدولار.
وأضاف قائلاً: "إنه في ظل هذه الجائحة العالمية سيهرب هؤلاء المستثمرون من مصر ويأخذون أموالهم معهم وبالفوائد أيضاً، وإذا حدث هذا فقد ينهار الاحتياطي الأجنبي لدينا؛ ومن ثم لا تستطيع الدولة تغطية متطلباتها الأساسية من مرتبات موظفين وفوائد المودعين".
ويتطابق هذا التحليل مع ما صرح به طارق عامر، محافظ البنك المركزي، من أن "قرارات وضع حد يومي لعمليات الإيداع والسحب النقدي بفروع البنوك تستهدف حماية الاقتصاد، في ظل الأزمة التي يشهدها العالم بسبب فيروس كورونا".
وأضاف عامر -خلال مداخلة هاتفية على قناة صدى البلد- أنه "تم فتح الاعتماد للمستوردين بما يحتاجه المجتمع المصري، ليجد المواطن جميع احتياجاته.. الحمد لله، من الناحية الاقتصادية أمورنا كما هي، وإن البنك المركزي خصص 20 مليار جنيه لمساندة البورصة المصرية"، معقباً: "الأجانب خرجوا من البورصة بقيمة 500 مليون دولار، بما يعادل 7 مليارات جنيه، والبنوك عليها التزام كبير تجاه صرف مرتبات العاملين في الدولة وأصحاب المعاشات".
وشدد عامر على ضرورة انضباط المجتمع في تعاملاته المالية، موضحاً: "وجدنا أن الأفراد سحبوا خلال الفترة الماضية، مبالغ ليسوا في احتياج لها.. استخدامات الأفراد تضاعفت خلال الأسابيع الـ3 الماضية، وتم سحب 30 مليار جنيه.. الناس كانت على راحتها زيادة ودلوقتي مضطرين ننظم الأمور.. ونؤكد مفيش مؤسسة هتكون محتاجه نقد إلا وهتاخده".
القرار فعلياً يفاقم الوباء
الخبير الاقتصادي محمد خراجة استبعد أن يكون قرار البنك المركزي المصري وضع حد أقصى للسحب والإيداع من البنوك صدر لأسباب تتعلق بانتشار وباء (كوفيد 19) المعروف باسم (كورونا المستجد)، ورجح أن يكون لأسباب مرتبطة بالسياسات النقدية.
وقال خراجة لـ"عربي بوست"، إن" القول إن القرار يهدف إلى تقليل فرص انتشار العدوى غير منطقي، فوضع حد أقصى للسحب والإيداع قد يضطر العملاء إلى التردد على البنوك عدة مرات لتنفيذ عملية كان من الممكن أن تتم مرة واحدة، والأمر نفسه بالنسبة لماكينات الصراف الآلي، وهو ما يعني زيادة التجمعات وليس العكس".
وأضاف أن "هناك تخبطاً في السياسة النقدية بمصر، فلدى البنوك ودائع تقدَّر بـ300 تريليون جنيه، ولن يضيرها إذا تم سحب 30 مليار جنيه منها".
وتابع أن "مجرد الإعلان عن وضع حد للسحب والإيداع سيضعف ثقة المستثمرين، ويزيد من حالة الهلع بين أصحاب الأموال في البنوك المصرية، ويعطي رسالة سلبية عن وضع السوق المصري ويؤكد أننا في أزمة، علماً أن الوضع ليس كذلك".
وأضاف: "فكما تقول الحكومة إن السلع لدينا متوافرة، والسلع تتطلب أموالاً، فلماذا لا تترك حركة السوق تأخذ مجراها الطبيعي، فهذا القرار يؤكد عدم قدرة الحكومة مالياً على توفير السيولة، وللأسف كما قلت، لدينا في البنوك ما بين 300 و400 تريليون جنيه قيمة الإيداعات البنكية لأفراد وشركات ولا تعرف الحكومة استغلالها جيداً".
وأكد خراجة أن "هناك دولاً راح ضحاياها بالآلاف بسبب كورونا، ولكننا لم نسمع أن محافظ البنك المركزي في أي من تلك البلدان وضع حداً للسحب والإيداع في البنوك!".
وكشف خراجة عن سوء إدارة البنوك في مصر بشكل عام، حسب تعبيره، قائلاً: "إذا أردت أن تجري عملية واحدة في أي بنك كصرف شيك مثلاً، عليك أن تقضي يوماً كاملاً داخل البنك، بالإضافة إلى أن ماكينات الصراف الآلي غير محدَّثة ولا حتى البرامج التي تعمل بها حديثة، ووسط كل هذه التعقيدات تزيدنا سياسة البنك المركزي تعقيداً بقرار وضع حد أقصى للسحب والإيداع".
ولن يؤدي للتحول إلى التعامل الإلكتروني
وعن تفسير الحكومة بأن السبب في قرار وضع الحد الأقصى والأدنى للسحب والإيداع هو وقف التضخم، بسبب الإقبال الكبير على شراء السلع دون سبب يدعو لذلك، يقول خراجة: "التضخم يرتفع عندما يقل الإنتاج وتزيد السيولة، بمعنى لديك أموال كثيرة في جيبك ولكن لا تجد ما تشتريه بهذه الأموال، فإذا كانت الحجة كذلك، فهذا معناه أنه لا توجد سلع تكفي ما في أيدي الناس من أموال بسبب تلك المسحوبات، وهذا أمر خطير في حد ذاته، وإذا كان صحيحاً فالحديث عن توافر السلع إذن أكذوبة".
ولفت خراجة إلى أن حديث محافظ البنك المركزي عن إلغاء التعامل بالكاش (النقدي)، والاعتماد على التعاملات الإلكترونية أحد أسباب قرار وضع حد أقصى للسحب والإيداع- ليس في محله، فرغم مرور 3 سنوات على آلية الشمول المالي، فلا يمكن اعتبار التعاملات الإلكترونية بديلاً عن التعاملات البنكية والنقدية، فحجم التعاملات الإلكترونية بأنواعها لا يشمل سوى 13% من التعاملات النقدية، وهو أمر لا يمكن تغييره فجأة، لأنه يرتبط بثقافة مجتمع وبنية أساسية غير مكتملة حتى الآن".
وهذا هو السبب الحقيقي للقرار
وخلص خراجة إلى أن الهدف الرئيسي من تلك القرارات يتعلق بأسباب نقدية واقتصادية واضحة.
إذ رأى أن البنوك تخشى من نقص السيولة في الوقت الراهن بسبب أزمة كورونا، وتوقف التدفقات النقدية، وهو ما يمكن أن يخلق ضغطاً على السيولة النقدية المتوافرة في البنوك إذا ما استمر السحب.
وأضاف أن "الحكومة تخشى كذلك من ارتفاع التضخم في السلع الاستهلاكية، وهو ما يعكس أزمة تلوح في الأفق تشير إلى حدوث نقص في هذه السلع، لذا جاء قرار وضع حد أقصى للسحب والإيداع ليكون بديلاً أفضل من الاضطرار إلى طبع النقود إذا واجهنا نقصاً في هذه السيولة".
نعم، وضع حد أقصى للسحب مفهوم، ولكن لماذا الإيداع أيضاً؟
وقال رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، لـ"عربي بوست"، إن "حالة الهلع التي أصابت المودعين في مصر من جراء هذا القرار، تنبع من عدم الثقة بالقرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة، بالإضافة إلى عدم الوعي لدى قطاع كبير من الناس بمخاطر وفرة الكاش بشكل مبالَغ فيه على الناس أنفسهم".
وأوضح عبده أنه "في الوضع الطبيعي يجب أن تترك الحرية للمودعين في السحب والإيداع، ولكن نظراً إلى جائحة كورونا وتداعياتها على الاقتصاد، تم اتخاذ قرارات عديدة للحفاظ على الاقتصاد المصري، ومن بينها ما يتعلق بالسياسة النقدية".
وأكد أن الهدف المعلن هو تقليل التعامل بالكاش؛ حفاظاَ على الصحة العامة، لأن كثرة الأوراق النقدية بالفعل قد تنقل العدوى، بالإضافة إلى أن سحب كثير من الأموال تصاحبه قوة شرائية كبيرة؛ ومن ثم يصبح هناك طلب على السلع ويؤدي ذلك إلى ارتفاع في الأسعار من قِبل تجار التجزئة".
وتحفَّظ رشاد عبده على قرار وضع حد أقصى للإيداع، مؤكداً أنه غير منطقي، وتوقَّع أن يتراجع البنك المركزي عن هذا الجزء من القرار خلال الأيام القادمة.
ورأى أن "الهدف من القرارات هو محاولة خفض القوة الشرائية، ومواجهة التضخم، والحفاظ على مخزون البلاد من السلع الأساسية".
ومن جهتها طالبت جمعية رجال الأعمال المصريين البنك المركزي بضرورة استثناء الشركات من قرار حد السحب؛ تجنباً للآثار السلبية التي ستنتج عنه، خاصةً القطاعات الإنتاجية والخدمية والزراعة والإنتاج الزراعي، والغذائية والتصنيع والمقاولات والتصدير وغيرها.
وشددت الجمعية على أن تطبيق ذلك القرار سيؤثر سلباً على عمل تلك الشركات، التي تعتمد في نشاطها على توريدات يومية للعمالة، لاستمرار العملية الإنتاجية، خاصةً تلك التي لا تملك حسابات بالبنوك.
وقال البنك المركزى المصرى، إنه سيتم استثناء بعض الجهات والأفراد والتعاملات من قرار سقف الإيداعات، وتشمل الايداعات الحكومية "الكهرباء والغاز والمياه والبترول، ويتم قبولها من دون حد أقصى، مع ضرورة الالتزام بحد الصرف النقدى اليومى، ويتم قبول إيداعات الشركات (قطاع عام-خاص) من دون حدود قصوى مع الالتزام بحدود الصرف".
وأكد البنك المركزى المصرى قبول الشيكات المقدمة للمقاصة من دون أى حدود قصوى، وفي حال تجاوز أي شيك مقدَّم على الكاونتر مبلغ 10 آلاف جنيه، يتم صرف 10 آلاف جنيه نقداً، والباقي إما أن يُفتح حساب للعميل أو يحوَّل باقي المبلغ لحسابه في بنك آخر من دون عمولة، أو تتم تجزئة صرف الشيك على عدة أيام، ويُسمح للعملاء بسداد مستحقات بطاقات الائتمان من دون حدود قصوى، ويُسمح للعملاء كذلك بسداد أي التزامات عليه "اعتمادات وخطابات ضمان".
وقالت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست"، إن هناك توجهاً لمراجعة هذه القرارات خلال الأيام المقبلة، دون توضيح ما إذا كان سيتم التراجع عنها بالكامل أو تخفيفها أو رفع السقوف.