يبدو أن التوترات بين تركيا وروسيا بشأن سوريا قد فتحت الباب أمام إمكانية رأب الصدع في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وظهر ذلك مؤخراً في طلب تركيا من الولايات المتحدة تزويدها بنظام الدفاع الصاروخي "باتريوت"، إضافة إلى مؤشرات أخرى في ملفات متعددة.
موقع ريسبونسبل ستيتكرافت الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "التوترات التركية الروسية في سوريا قد تساعد في رأب الصدع بين أنقرة وواشنطن"، تناول تطورات الأوضاع في مسار العلاقات بين الجانبين التركي والأمريكي وآفاقها المستقبلية.
أزمة اللاجئين السوريين
منذ بداية الحرب الأهلية السورية في 2011، أصبح مصير ما يقرب من 7 ملايين لاجئ سوري مُعلَّقاً بصراع القوى المتزايد في المنطقة، ولم تلقَ معاناتهم اهتماماً من الساسة في العواصم الأوروبية إلا بعدما أثارت تدفقات اللاجئين إليها ردود فعل عنيفة من الشعبويين، والتي بدورها هدَّدت الحكومات المنتخبة. وفي عام ،2016 توصل الاتحاد الأوروبي وتركيا إلى اتفاق يهدف إلى إنهاء هذا الوضع، أو على الأقل تقويضه.
ونجح قادة أوروبا في تأمين وقف تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى دولهم، لكن في المقابل أصبحت روسيا وإيران هما المتحكمتين الرئيستين في مصير سوريا السياسي، وقَبِلَت إدارة أوباما الاتفاق التركي الأوروبي على أنه أمر واقع؛ رغبةً منها في التركيز على الوصول لاتفاق نووي مع إيران وتجنب التورط في الصراع السوري، ثم جاء الرئيس دونالد ترامب ودفع بسياسة باراك أوباما إزاء سوريا إلى نهايتها المنطقية بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من سوريا، بعدما زعم تحقيق الانتصار الكامل على ما يُسمى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؛ بل روَّج لذلك، وعلى الرغم من علاقة ترامب المضطربة مع قادة أوروبا، راهن هو وحلفاؤه الغربيون في 2019 على أنَّ المذابح داخل سوريا، بقدر ما هي مأساوية، لم تعد تشكل تهديداً أمنياً أو سياسياً أو اجتماعياً خطيراً على أوروبا.
ومع ذلك، تبيَّن أنَّ هذه المراهنة حلم بعيد المنال، إذ وجد قادة تركيا أنفسهم مضطرين إلى التعامل مع أكثر من 3.5 مليون سوري مُعدَم لجأوا إلى دولتهم، وأُلقِي هذا العبء على عاتقهم في منطقة أصبحت روسيا هي التي تؤدي دور الوسيط في نزاعاتها. وصاغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، البارع في التكيف السياسي، تسوية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. لكن هذا التحول "صوب الشرق" وبعيداً عن الغرب، لم يكن إلا مناورة تكتيكية يتوقف نجاحها على قدرة روسيا وتركيا واستعدادهما لإدارة الحقيقة المزعجة بأنهما ما زالا على خلاف فيما يتعلق بالمستقبل السياسي والجيواستراتيجي النهائي لسوريا.
ولم تتضح ضريبة التسوية التكتيكية بين تركيا وروسيا بصورة أفضل مما اتضحت عليه في الغارة الجوية التي شُنَّت في 28 فبراير/شباط وأسفرت عن مقتل 33 جندياً تركيّاً على طول حدود محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، وجاءت هذه الغارة عقب إنشاء أنقرة عدة نقاط عسكرية جديدة على الجانب السوري من الحدود، وعلى الرغم من أنَّ هذه الخطوة استهدفت بوضوحٍ ردع دمشق من الاستمرار في حملتها لسحق آخر معاقل المعارضة السورية، فإنها في الحقيقة شجعت روسيا على توجيه رسالة إلى أردوغان بشأن حدود القوة التركية، وعلى الرغم من أنَّ بوتين وأردوغان التقيا في 5 مارس/آذار، وتوصلا إلى اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب -وهو الثالث في غضون عامين- لا ينبغي افتراض أنَّ اتفاقهما سيصمد لأطول من بضعة أسابيع أو شهور.
وفي هذه الأثناء، يبحث نحو مليون سوري نازح عن مأوى عبر الحدود التركية السورية، وهذا العدد يفوق قدرة تركيا على استيعابه، ومن هنا، سمحت أنقرة للمهاجرين السوريين بشق طريقهم نحو اليونان؛ في محاولة واضحة لإجبار الاتحاد الأوروبي، وربما حلف شمال الأطلسي (الناتو) أيضاً، على تقديم إغاثة إنسانية واسعة النطاق. وتوضح مثل هذه الأحداث القاتمة عدم جدوى محاولة بناء جدار حماية بين الصراع السوري وأوروبا الغربية، ومع ذلك، أكد الانتشار السريع لوباء فيروس كورونا المستجد عالمياً، أنَّ أوروبا لن تتدخل مع الأسف لمساعدة تركيا أو أهالي إدلب المُرَوَّعين، وربما لا تستطيع ذلك حتى لو أرادت. وبينما تكافح إدارة ترامب للتصدي لأزمة صحية تتفاقم داخلياً، فهي ليست لديها الوسائل ولا الإرادة لمساعدة الحكومة التركية، التي يبدو أنها تذكرت فجأة، وعلى نحو غير مناسب، أنَّ دولتها عضوة في الناتو.
أهداف متضاربة بشأن سوريا
تسلط التطورات الأخيرة في شمال غربي سوريا الضوء على التساؤلات حول ماهية أهداف تركيا في سوريا. وفي الواقع، تتغير سياسة أنقرة في سوريا باستمرار، استجابةً للديناميات الإقليمية بشكل عام، وتطور السياسة الروسية بشكل خاص؛ ومن ثم غالباً ما تحجب المناورات التكتيكية حسابات تركيا الاستراتيجية الكبرى أو تُقوِّضها، وفي أعقاب الثورات العربية عام 2011، دعمت أنقرة المعارضة السورية المنقسمة على نفسها، والتي ازدادت هيمنة الحركات الجهادية عليها.
لكن التصعيد الكارثي للصراع السوري في عام 2015 -الذي يُعزَى بدرجة كبيرة إلى قرار موسكو المصيري إنقاذ نظام الرئيس السوري بشار الأسد- دفع أنقرة إلى إيجاد أرضية مشتركة تكتيكية مع موسكو وطهران. وبالفعل، انضمت تركيا إلى عملية أستانا، وهي جهود تقودها روسيا لتوفير حماية دبلوماسية لنظام الأسد. وعلى ما يبدو، راهنت تركيا على أنه يمكن أن تدعم (أو تقبل) الدبلوماسية الروسية، وفي الوقت نفسه تضمن الوصول لتسوية نهائية في سوريا مقبولة لها ولدمشق وموسكو وطهران. وكما اتضح، كانت هذه التوقعات غير واقعية؛ وهو ما جعل السؤال حول هدف تركيا في سوريا أبرز.
وفي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/أيلول 2019، قدَّم أردوغان إجابة واحدة محتملة. إذ خططت تركيا لإنشاء منطقة آمنة بطول 300 ميل (482 كيلومتراً) تمتد لمسافة 20 ميلاً (32 كيلومتراً) داخل الأراضي السورية، وأَمِلَت أن تحظى بدعم المجتمع الدولي لتحقيق ذلك. وأوضح أردوغان، الذي رفع خريطة صفراء زاهية أمام الجمعية العامة، أنَّ تركيا لا تخطط فحسب لتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى هذا الجيب المحمي؛ بل تعتزم أيضاً بناء نحو 200 ألف منزل إلى جانب مستشفيات ومدارس ومساجد.
ومثلما أشار أحد المحللين الأتراك المخضرمين، كانت خطة أردوغان تهدف إلى معالجة عديد من المشاكل ذات الصلة بضربة واحدة. أولاً، من المفترض أن تُحَل أزمة اللاجئين السوريين عن طريق إعادة ملايين السوريين؛ وبهذه الطريقة، تغرق أنقرة أعداءها الأكراد في بحر من المسلمين السُنَّة السوريين. ومع ذلك، اصطدمت الخطة بحقائق صعبة، من بينها إحجام اللاجئين السوريين عن العودة إلى منطقة يخشون ألا يجدوا فيها أماناً حقيقياً أبداً، وهي مخاوف مبررة. أما موسكو، التي عَلِمَت -بلا شك- أنَّ اقتراح أردوغان لن يتقدم خطوة، فلم تُبدِ أية معارضة أو دعم. وبدلاً من ذلك، استغلت روسيا الوقت وهي تدرك أنه أياً كانت التحركات التي نفذتها تركيا في محافظة إدلب، فإنَّ قوات الأسد -بدعم من الطائرات الروسية- ستستعيد في نهاية المطاف هذا المعقل الأخير للمعارضة السورية المسلحة.
تداعي الوضع
وهذا بالتأكيد ما حدث بالضبط، ففي منتصف فبراير/شباط 2020، هدَّد أردوغان بشن هجوم عسكري ما لم تسحب سوريا قواتها من خطوط وقف إطلاق النار التي كانت روسيا وتركيا قد اتفقتا عليها في سبتمبر/أيلول 2018. وحذَّر: "هؤلاء الناس هم إخواننا، ولن نتركهم تحت رحمة واضطهاد الطغاة". وفي الواقع، ادعى أردوغان أنهم "مستعدون للموت في سبيل ذلك إذا لزم الأمر"، بلهجة صارت مُؤرِّقة بدرجة غريبة. وعند تلك المرحلة، كان 8 جنود أتراك قد لقوا مصرعهم بالفعل في قصف جوي شنَّته القوات السورية، وردَّ أردوغان بإصدار الأمر بتنفيذ ضربات انتقامية وإرسال تعزيزات إلى إدلب.
ودفعت هذه الخطوة موسكو إلى وضع خط أحمر صارم. ففي 28 فبراير/شباط، قتلت قنابل سورية ما لا يقل عن 33 جندياً تركيّاً وأصابت آخرين كُثراً. وعلى الرغم من أنَّ أنقرة لم يكن لديها شك في أنَّ الطائرات التي شنت هذا الهجوم كانت بقيادة روسية، شعر أردوغان بأنه ليس لديه خيار سوى الانتقام، حتى لو كان ذلك سيخاطر باندلاع مواجهة كبيرة مع موسكو.
ومن ثم، أطلقت تركيا، في 1 مارس/آذار، عملية "درع الربيع". ووفقاً لمسؤولين أتراك، أدى تدخُّل أنقرة المسلح إلى تحييد نحو 1700 جندي سوري وتدمير عشرات الدبابات والمركبات العسكرية ومدافع الهاوتزر وأصول عسكرية أخرى. والأكثر خطورة من ذلك هو أنَّ تركيا أسقطت في ذلك اليوم قاذفتين روسيتين من طراز "سو-24".
وأكد وزير الدفاع التركي أنَّ بلاده ليست لديها مصلحة في الاشتباك مع روسيا، لكن هدفها كان وقف "مذابح" النظام السوري والتطرف والهجرة. ومع ذلك، كان تصرُّف أنقرة هو ما أثار مخاطر حقيقية لحدوث مثل هذا الاشتباك بالضبط. وأعاد اتفاق 5 مارس/آذار بين أردوغان وبوتين، الذي يتضمن إعادة إنشاء الدوريات الروسية التركية المشتركة، بعض الهدوء. لكن بالنظر إلى الاختلافات الاستراتيجية المستمرة بين البلدين، يتوقع قليلون أنَّ تستمر الاتفاقية فترة طويلة.
ما الخطوة التالية؟
قبل أيام قلائل من قصف القوات التركية في 28 فبراير/شباط، طلبت أنقرة من الولايات المتحدة نشر بطاريتين من نظام الدفاع الصاروخي "باتريوت" على طول حدود إدلب، ومن السهل التكهن بما إذا كان من الأفضل لأنقرة استخدام نظام الدفاع الصاروخي "إس-400" الذي اشترته من روسيا ونشرته في أواخر يوليو/أيار 2019. لكن نظراً إلى أنه لم يعمل بعد (وأنَّ تركيا لن تجرؤ على استخدام المنظومة الصاروخية ضد الطائرات الروسية أو السورية)، كان على أنقرة أن تلجأ إلى الولايات المتحدة والناتو.
وليس من المستغرب أنه في الوقت الذي أيَّد فيه بعض مسؤولي البيت الأبيض تلبية طلب أنقرة، عارض البنتاغون ذلك، وهو موقف مشترك بين أعضاء من مختلف الأحزاب في الكونغرس الأمريكي. ومن المؤكد أنَّ هناك مشروعات قوانين مطروحة حالياً أمام مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، تطالب بفرض عقوبات على تركيا، بسبب شرائها منظومة صواريخ "إس-400" الروسية.
قد توفر الأحداث الأخيرة في سوريا حافزاً لكل من الولايات المتحدة وتركيا للابتعاد عن حافة الهاوية وإعادة اكتشاف مصالحهما المشتركة والدائمة، لكن قائمة الشكاوى من كلا الجانبين كبيرة. إذ لا تزال أنقرة منزعجة بقوة من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني وفرض حرب اقتصادية على طهران، التي يبدو أنَّ الهدف منها إسقاط النظام في إيران، على الرغم من نفي واشنطن ذلك.
ولم تتسبب تحركات البيت الأبيض في زيادة مخاطر الانتشار النووي بالمنطقة؛ بل ألحقت كذلك ضرراً دائماً بمصداقية الولايات المتحدة. لكن يبدو أنَّ تركيا تأمل أن أياً كان الرئيس الأمريكي القادم الذي سيأتي في يناير/كانون الثاني 2021، فسيستجمع الشجاعة للضغط من أجل توقيع صفقة نووية جديدة أو نسخة مُنقَّحة عن اتفاقية 2015، ورئيس قد يعالج أيضاً التحدي المتمثل في أنظمة الصواريخ الباليستية.
ويُحتمل أن أية جهود للعودة إلى نسخة مُعدلَّة للاتفاق النووي الأصلي ستساعد في تسيير التعاون الأمريكي التركي. ومع ذلك، فإنَّ مثل هذه الخطوة تفترض أيضاً أنَّ واشنطن ستتحرك لأبعد من مجرد شن حملة "الضغط الأقصى" على إيران، ولكي يحدث ذلك، يجب على إدارة ترامب توضيح استراتيجيتها طويلة المدى تجاه جمهورية إيران الإسلامية.
يفرض شراء تركيا مفاعلاً نووياً روسيّاً -ستتولى شركة Rosatom المملوكة للدولة بناءه وتشغيله- تحديات هائلة، خاصة بالنظر إلى الاكتشاف المقلق لتصدعات في الأساس الخرساني للمصنع الجديد في مايو/أيار 2019. وعلى الرغم من أنَّ أنقرة لا تخطط للتراجع عن هذا المشروع، يُقِرّ كل من المسؤولين الأتراك والأمريكيين بأنَّ الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى يمكن أن تضطلع بدور مفيد في المشروع من خلال المساعدة في دعم وكالات التنظيم والسلامة النووية التركية التي ستدير محطة نووية ستبنيها وتُشغِّلها شركة حكومية روسية؛ بل ستمتلك حصة كبيرة فيها. إضافة إلى ذلك، اقترح بعض المسؤولين الأتراك والأمريكيين أنه بمجرد دخول المحطة طور التشغيل، فستتحول إلى ورقة ضغط قوية في يد موسكو على تركيا.
السعي لإصلاح العلاقات المستقبلية
على الرغم من هذه الاحتمالات المختلفة، من الواضح أنَّ أردوغان لا يمكن إثناؤه عن تطوير سياسة خارجية تحافظ على عضوية تركيا بالناتو وفي الوقت نفسه تصون علاقاتها مع روسيا التي، برغم الصعوبات التي مرت بها، تمنح بلاده وسيلة ضغط خاصة على قادة الغرب. وسواء أوُصِفَت بأنها شراكة أم تحالف، ستظل العلاقات بين الولايات المتحدة والناتو وتركيا تواجه اختبار التحديات المشتركة. وفي هذا الصدد، لا يمكن تجاهل الوضع المتقلب بسوريا. وفي حين جادل أحد خبراء السياسة الأمريكية بأنَّ تركيا بإمكانها التعامل مع الوضع في سوريا بمفردها، أشخاص قلائل فقط اقترحوا أنَّ الناتو أو الولايات المتحدة يمكنهما تجاهل الكارثة الإنسانية والأمنية التي تتكشَّف في سوريا.
ومن هنا، تُشكِّل القيادة التركية وتلك الأمريكية مسألة حاسمة، ويمكن القول إنَّ الانتخابات الأمريكية قد تفسح المجال أمام جهود جديدة لرأب الصدع بين الولايات المتحدة وتركيا. لكن مرة أخرى، سيبقى بعض القادة في السلطة في حين يرحل آخرون؛ وينطبق هذا بشكل خاص على القادة الحاليين في روسيا وتركيا؛ وهو ما يفرض ضرورة مُلحَّة على إقامة حوار صريح بين الولايات المتحدة وتركيا. ومع ذلك، قد يتعين على مثل هذا الاحتمال انتظار جهود المجتمع العالمي للتصدي لوباء فيروس كورونا المستجد، الذي لا يزال نطاقه غير مرئي أو مفهوم تماماً حتى الآن.