ربما لأول مرة في التاريخ الحديث تركز كل دول العالم على حلِّ قضية واحدة وهي القضاء على جائحة فيروس كورونا، فقد أحدث فيروس كورونا المستجد، سارس-كوف-2، ومرض كوفيد-19 الذي يسببه، انقلاباً في المجتمع العالمي، إذ يسعى القادة والمواطنون إلى الاستجابة لتهديد ذي أبعاد غير معروفة أو مؤكدة بشكل كامل.
ويتسارع أعضاء المجتمع العلمي حول العالم لإيجاد إجابات لأسئلة عديدة تطرحها الجائحة. والخبراء يعملون معاً، داخل المعامل وخارجها، لتوصيل أفضل المعلومات إلى عامة الناس بشكل مباشر، لتنسيق أولويات البحث العلمي، وأغراض أخرى كثيرة. ومن الممكن أن نقول إنه ليس هناك دور أكثر أهمية لمجتمع الخبراء من إيجاد الحلول التي يحتاجها العالم، وتوصيل المعلومات الموثوق بها للجمهور.
ورغم ذلك ثمة سؤال هام مهم يشغل بال الجميع متى سينتهي هذا الكابوس؟ وكيف يمكن السيطرة عليه؟ بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية
خطر مشترك وبحوث مشتركة
كشف العلماء بسرعة ملحوظة خلال الأشهر الثلاثة الماضية معلومات جوهرية عن فيروس كورونا المستجد والتدخلات التي قد تعالج المرض الذي يسببه بشكل أفضل. ففي ديسمبر/كانون الأول، نشرت مجموعة من الباحثين الصينيين التتابع الجيني للفيروس الجديد على شبكة الإنترنت من خلال المبادرة العالمية لتبادل بيانات أنفلونزا الطيور. وقد سمحت تلك البيانات للمجتمع العلمي الدولي بالبدء في تطوير اختبارات تشخيصية واستكشاف الخيارات العلاجية. والموقع الآن يضم التتابع الجيني للفيروس في مئات المرضى عبر ست قارات. وبحلول منتصف يناير/كانون الثاني، نشر باحثون في ألمانيا، في إطار تعاون مع بعض الدول الأوروبية وهونغ كونغ، تفاصيل اختبار تشخيصي للكشف عن فيروس كورونا المستجد. وقد وزعت منظمة الصحة العالمية مجموعات اختبارات مرتكزة على هذه النتائج إلى المعامل حول العالم، وتستضيف البروتوكولات الخاصة بسبع دول على موقعها الإلكتروني. يستضيف الموقعان الإلكترونيان BioRxiv و medRxiv الدراسات غير المنشورة في مجالات العلوم الحيوية والصحية، ويضما حاليّاً أكثر من 420 ورقة بحثية عن فيروس كورونا المستجد. وأعلنت منظمة الصحة العالمية عن أكثر من 390 تجربة سريرية على منصة التسجيل الدولية الخاصة بها، وبدأت أولى التجارب السريرية للقاح في المعاهد القومية للصحة يوم الإثنين 16 مارس/آذار.
احتمالية عودة المرض مرة أخرى!
ومع أن هذا التقدم مثير للإعجاب، فإن العالم في حاجة إلى مزيد، وبسرعة. ما زال هناك أشياء كثيرة لا يفهمها العلماء بشكل تام عن فيروس كورونا المستجد، بما في ذلك ديناميكيات انتقاله، واحتمالية تفشيه مرة أخرى في موجات مثل الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، وسواء كان يتحور، ومن أين أتى، وكيف قد تؤثر العوامل البيئية مثل درجة الحرارة في انتشاره. ما زالت أيضاً هناك أسئلة كثيرة عن المرض، بما في ذلك لماذا قد تختلف استجابة الكثافات السكانية للعدوى، وما إذا كان المصابون بالعدوى قد طوروا مناعة قصيرة الأجل أو طويلة الأجل من الفيروس. الباحثون يتسابقون على تطوير خيارات علاجية واختبارات دقيقة، وحساسة، وسريعة، وقابلة للنشر محليّاً. ويحاول علماء الوبائيات وعلم الاجتماع فهم التدابير التخفيفية الأكثر تأثيراً في السيطرة على نشر الفيروس؛ وما الجدوى الحقيقية للتدابير الصارمة مثل العزل الصحي وحظر السفر، وما نتائج مثل تلك السياسات على الجوانب الأخرى للصحة العامة.
وفي بحث عن إجابات لتلك الأسئلة وغيرها من الأسئلة الملحة، لكل أمة ما تعطيه وما تجنيه. فإن الأمراض المعدية -كما يقال دائماً- لا تعترف بالحدود، وكذلك هي المعرفة التي نحتاجها لمحاربتها. ينشر العلماء حول العالم بشكل روتيني المعلومات ويتعاونون عبر الحدود. جعلت الجائحة الحالية العلماء يعملون معاً على منصات مثل Slack، باستخدام الأدوات الجديدة مثل تعلم الآليات للكشف السريع عن فيروس كورونا المستجد في الاختبارات التي تستخدم كميات كبيرة من البيانات القادمة من مصادر متعددة. أظهرت هذه الجائحة على أرض الواقع كيف يمكن للفهم العلمي أن يكون حقّاً خيراً عالميّاً للجميع.
وفي السنوات الأخيرة، خلقت المنافسة الجغرافية السياسية -بالتحديد بين الصين والولايات المتحدة- مناخاً غير مريح أضر بالطبيعة التعاونية للمؤسسات العلمية. ففي حين تفضي التطورات العلمية إلى منتجات وتقنيات جديدة، فإن البُلدان التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الوطنية أو الاقتصادية تميل إلى النظر إلى العلوم من خلال عدسة تنافسية أكثر من كونها تعاونية. من شأن العقاقير واللقاحات أن تجني أرباحاً هائلة. لكن كفاح دولة واحدة ضد العدوى سريعة الانتشار تتعلق بشكل كبير بكفاح الدول المجاورة لها -سواء كانت دولاً صديقة أو عدوة- وهكذا يحتاج الجميع إلى الانتصار في تلك المعركة. تكون قيمة التعاون المفتوح واضحة في حالة الجوائح العالمية. ويجب أن تكون فائدته في مواجهة الأخطار المشتركة الأخرى -مثل تغير المناخ- واضحة أيضاً.
ليس وقتاً للتراجع
تأتي جائحة كوفيد-19 في وقت ترتفع فيه النزعة القومية حول العالم. ولكن، لا يمكن أن يؤدي الانعزال والخوف من الآخرين إلى حدوث استجابة فعالة لهذه الأزمة العالمية. على العكس، فإن حجم الأزمة الحالية يتطلب تبادل الخبرات، والتعاون بين الدول، والاستجابات المتسقة المستنيرة المرتكزة إلى براهين من الحكومات الوطنية.
لحسن الحظ، تجاوبت كثير من المؤسسات عبر الدول والقطاعات لتلبية الاحتياجات. فقد أهدت مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وذا ويلكم تراست، وماستركارد 125 مليون دولار لمشروع COVID-19 Therapeutics Accelerator، الذي يهدف إلى تحديد العلاجات المحتملة، وتسريع تطويرها، والتجهيز لتصنيع ملايين الجرعات للاستخدام حول العالم. وتعمل منظمة الصحة العالمية على إتمام "بروتوكول أساسي" للتجارب السريرية، الذي من شأنه زيادة حجم التجارب من خلال تجميع مجموعات المرضى حول العالم، وهكذا يصبح من الممكن تحديد الاختلافات في استجاباتهم عبر العالم. وقد التقى زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع يوم الإثنين، 17 مارس/ آذار وناقشوا الالتزامات الخاصة بالتعاون البحثي بين موضوعات مهمة مشتركة أخرى.
ما تزال هناك حاجة لفعل كثير من الأشياء لكي يكون التعاون الدولي فعالاً. على سبيل المثال، في اجتماع عقد مؤخراً برئاسة منظمة الصحة العالمية ومشاريع التعاون الدولي البحثية للأمراض المعدية، أشار 300 خبير إلى الحاجة لمشاركة المواد الخاصة بالفيروس والعينات السريرية بوصفها إجراءً بحثياً عاجلاً. ولم يكن لدعوات تنسيق اللوائح عبر الهيئات القومية والإقليمية معنى أكثر من الآن؛ إذ إن موافقة كل دولة أو إقليم على التشخيص والعلاج بشكل منفصل، يتسبب في أزمة خانقة تكون عواقبها وخيمة كما هو واضح الآن بشكل كبير. وتضرب الولايات المتحدة مثالاً صارخاً: لم تستطع البلاد استخدام الاختبارات التي طورتها جهات أخرى، مثل التي طورتها منظمة الصحة العالمية، لأنها لم تحصل على الموافقة للاستخدام في الولايات المتحدة.
ركائز عالمية
في الماضي، كانت الولايات المتحدة تعطي الأولوية لدورها في القيادة العالمية، بما في ذلك الصحة العامة. على سبيل المثال، في عام 2003، استجاب البيت الأبيض لوباء الإيدز من خلال إطلاق خطة طوارئ وتخصيص أكثر من 80 مليار دولار لتمويل الكفاح العالمي للسيطرة على المرض. وقادت الولايات المتحدة الجهود الدولية لمكافحة تفشي فيروس الإيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، وساعدت في تطوير المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. لكن الأولويات تغيرت. فقد اجتمع مكتب البيت الأبيض لسياسات العلوم والتكنولوجيا مؤخراً مع نظرائه في جميع أنحاء العالم لمناقشة مرض كوفيد-19، وشاركت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في رئاسة أول ورشة عمل تنظيمية عالمية حول تطوير لقاح مضاد لمرض كوفيد-19، ولكن لم تشارك الحكومة الأمريكية بقوة في المنتديات الدولية الأخرى، ولم تقدم نموذجاً يُقدِّر المشاركة العالمية، أو يشمل الحكومة بأكملها.
ويهدد التوتر بين الصين والولايات المتحدة بعرقلة التقدم في البحوث الخاصة بفيروس كورونا المستجد. ففي السنوات الأخيرة، أدت مخاوف الولايات المتحدة بشأن التجسس الصيني ونقل التكنولوجيا إلى إخماد التعاون العلمي بين البلدين، وينعكس هذا في الملاحقة القضائية لكبار الأكاديميين الأمريكيين المزعوم مشاركتهم السرية في برامج لتطوير المؤسسات الصينية العلمية، وطردهم من وظائفهم. تحدُّ تلك التوترات أيضاً من المشاركة رفيعة المستوى، ومن الأدلة على هذا أن مكتب البيت الأبيض لسياسات العلوم والتكنولوجيا لم يشرك مسؤولين صينيين في مناقشاته مع نظرائه في البلدان الأخرى. في الماضي، كانت الولايات المتحدة لتستعين بالقنوات الحكومية للتعامل مع مخاوفها، وكانت لتبحث عن طرق لاستمرار العمل مع العلماء الصينيين في المسائل ذات الأولوية المشتركة. تمتلك الدولتان الخبرة العلمية الطبية الحيوية العظمى في العالم. ولكن، مع أن المؤسسات قد تكون مستمرة في التعاون لمكافحة كوفيد-19 (فمثلاً، تعمل شركة غيليد للأدوية في الولايات المتحدة مع مستشفى الصداقة الصيني-الياباني في بكين، لاختبار عقار مضاد للفيروسات على المرضى في ووهان)، فإن العلاقات الحكومية متوترة، يأتي هذا في وقت يمكن أن تساعد فيه المشاركة على زيادة البيانات وتقاسم العينات اللازمة للتعامل مع هذه الأزمة.
عايشت كوريا الجنوبية تفشي سارس عام 2003، وتعكس استجابتها لجائحة كوفيد-19 استعداداً أفضل مرتكزاً على الدروس المستفادة. فقد نجحت الدولة فعليّاً في "التحكم بمنحنى الإصابات" ليتمكن نظام الرعاية الصحية من استيعاب المرضى. تُظهر تجربة كوريا الجنوبية أهمية مشاركة الدروس المستفادة، وحقيقة أن الركائز التي أرسيت في الأوقات الجيدة هي الأكثر أهمية في الأوقات السيئة.
دخل المجتمع العلمي العالمي هذه الأزمة على ركائز قوية تتمثل في الأهداف المشتركة والتواصل، وهذه الركائز أرساها العلماء وحافظوا عليها من خلال المشروعات المشتركة، والتبادل، والاجتماعات الدولية، والحوار المشترك. تكون هذه الروابط نافعة دائماً، ولكنها ضرورية جدّاً في أوقات الأزمات. وقد أشار أنتوني فوتشي، مدير المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية، إلى أن العلاقة التي أُثقلت مع الباحثين الصينيين عبر السنين قد ساعدته في استكشاف مزيد غير ما يمكن التوصل إليه عبر القنوات الرسمية.
بالتأكيد، ستتغير المؤسسات الوطنية والعالمية اليوم كثيراً على الجانب الآخر من الأزمة التي تعدُّ أيضاً نذيراً لعدوى جديدة قادمة. يؤكد هذا التفشي أهمية سياسة الولايات المتحدة التي تعترف بالترابط البشري، والمسؤولية المشتركة، وكذلك فهم أن الولايات المتحدة تكون الأقوى عندما تختار أن تقود. ويتمثل الأمل الأكبر لحل الأزمة الحالية في التعاون الدولي في مجال العلوم، ويعطي نموذجاً تحتذي به المؤسسات الأخرى من أجل بناء مستقبل مشترك أفضل وأكثر أمناً.