قيادة العالم لها شروط، أبرزها أن تكون الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً، لكن الأهم هو الاستراتيجية بعيدة النظر التي تتخطى المصالح الذاتية المؤقتة؛ فهل ما زال هذا التعريف ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية؟ تفشي وباء كورونا ربما يحمل المؤشرات على ميلاد نظام عالمي جديد تفقد فيه واشنطن قيادتها.
البؤرة الثالثة للفيروس
مع ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس في الولايات المتحدة، الأربعاء 25 مارس/آذار، إلى نحو 55 ألفاً والوفيات إلى 784، أصبحت القوة العظمى الأولى عالمياً في المركز الثالث بعد الصين وإيطاليا، مع توقعات بأن تتحول إلى البؤرة الثالثة للتفشي بعد الصين وأوروبا، كما حذرت منظمة الصحة العالمية، الثلاثاء.
الوضع داخل الولايات المتحدة فيما يخص النظام الصحي والاستعداد لمواجهة التفشي يطرحان تساؤلات كثيرة حول واقع الدولة الأقوى عالمياً عسكرياً واقتصادياً، ومدى واقعية هذا التوصيف الذي يتعرض للتشكيك منذ عقود، فهل يكون فيروس كورونا هو المسمار الأخير في نعش قيادة أمريكا للعالم؟
هل هي قيادة وهمية؟
خبير الشؤون السياسية والأمنية الأمريكي آلان بيم نشر مقالاً قبل عدة أشهر، بعنوان: "تراجع منحنى القيادة الأمريكية للعالم.. قوة من دون سلطة"، توقف عند السرعة المذهلة التي تتسبب فيها رئاسة دونالد ترامب غير المسؤولة في تقويض وضع أمريكا كقوة أولى على المسرح العالمي.
تأسست القيادة الأمريكية للعالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، على عدة محاور أدت إلى تكريس الزعامة باعتراف غالبية دول العالم، بدلاً من فرضها بالقوة العسكرية فقط؛ من تأسيس الأمم المتحدة بهيئاتها المختلفة إلى إنشاء البنك الدولي للمساهمة في تقديم مساعدات مالية للدول التي تحتاجها، وقبل ذلك مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا المدمرة كلياً بفعل الحرب، وإنشاء الهيئة الأمريكية للمساعدات الدولية، كما أسست حلف الناتو ليمثل ذراعاً عسكرية، ضم الحلفاء في أوروبا والكتلة الغربية.
تلك المبادرات الأمريكية كانت نابعة من استراتيجية واضحة وهي أن تأسيس نظام عالمي يقوم على قواعد مشتركة تقوده أمريكا القوية، يوفر لها السلطة المطلوبة لقيادة العالم، وهذا ما جعل أستراليا مثلاً تنضم لذلك التحالف وتدعم المبادرات الأمريكية.
من المهم هنا التفريق بين القوة الغاشمة التي تفرض قيادة إجبارية على التابعين -كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو على سبيل المثال- والسلطة القيادية التي تمتعت بها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولو أخذنا مثالاً على السلطة الأمريكية في المجال السياسي، لوجدنا أن الرئيس جيمي كارتر نجح في توظيفها في توقيع اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، انسحبت بموجبها الأخيرة من الأراضي المصرية المحتلة في شبه جزيرة سيناء، على الرغم من أن الاتفاقية شهدت معارضة شرسة في كل من مصر وإسرائيل.
لكن تحت إدارة ترامب، فشلت وساطة الولايات المتحدة في إقناع إثيوبيا بالتوقيع على مشروع اتفاق مع مصر بشأن سد النهضة، بل صدرت تصريحات إثيوبية تتهم واشنطن بممارسة ضغوط على أديس أبابا، في تذكير صارخ بما فقدته الولايات المتحدة من "سلطة" ضرورية لأي قائد عالمي.
السياسة الخارجية الترامبية
على الرغم من أنَّ تراجع التأثير الأمريكي عالمياً ربما يكون قد بدأ مع مطلع القرن الحالي، بحسب بعض المحللين، فإن هذا التراجع أو بمعنى أكثر وضوحاً انكشاف "أكذوبة" الهيمنة الأمريكية، أصبح أكثر وضوحاً وفي المجالات كافة منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض تحت شعاره الانتخابي "أمريكا أولاً".
وكما يقول بيم، نجحت أمريكا في الحفاظ على وضعها العالمي على مدى نحو 7 عقود، رغم إخفاقات وسوء تقدير في أزمات سياسية ومغامرات عسكرية مثل الإطاحة بحكومة مصدق في إيران عام 1953 وحرب فيتنام وفضيحة خليج الخنازير وغزو العراق، وذلك بسبب استراتيجية ارتباط القوة بالسلطة التي اكتسبتها الولايات المتحدة من خلال نظام عالمي ليس مثالياً لكنه كان فاعلاً.
ولكن خلال ثلاث سنوات فقط تحت إدارة ترامب، بدأ استخدام القوة فقط بطريقة فرَّغت السلطة من مضمونها، لتنكشف شرعية الهيمنة الأمريكية، في وقت شهد المسرح العالمي صعود لاعب آخَر أكثر قوة وشراسة وهو الصين، وبروز لاعب قديم استفاد من التراجع الأمريكي وهو روسيا، وهو ما عجَّل بانكشاف هشاشة القوة الأمريكية أمام الأزمات المتلاحقة التي أشعلت إدارة ترامب كثيراً منها دون حساب للعواقب.
واللافت هنا هو سرعة هذا التدهور في وضع الولايات المتحدة وسمعتها على المسرح الدولي، والذي يرجع إلى القرارات العشوائية التي يتخذها ترامب بناء على حسابات لحظية ضيقة، عكس ما يُفترض بدولة تقود العالم أن تتصرف به. ومن المهم هنا الإشارة إلى التراجع الكبير في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أن أصبحت كل الملفات يديرها ترامب ومستشاره الأقرب صهره غاريد كوشنر، ويمكن هنا الرجوع لشهادة وزير الخارجية السابق ريكس تليرسون أمام الكونغرس والتي كشف فيها كيف يتم اتخاذ القرارات بشأن السياسة الخارجية في عهد ترامب.
ضرب الحائط بالقانون الدولي
قدَّم ترامب نفسه للأمريكيين بصفته "رجل الصفقات"، ومنذ اللحظة الأولى لتسلمه منصب "زعيم العالم الحر" -كما يحب الأمريكيون وصف رئيسهم- تصرَّف في الواقع كرجل أعمال يضع نصب عينه المكسب المباشر من أي صفقة، وليس كسياسي يقود القوة الأعظم عالمياً، وهنا نسرد أبرز "صفقات" الرجل.
فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، بشَّر ترامب العالم أجمع بأنه سيكون الرئيس الذي يحسم هذا الصراع للأبد من خلال ما وصفها بصفقة القرن، ولكن الواقع كشف عن أكذوبة القرن، إن جاز التعبير؛ فالرجل قرر نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس (قرار أحجم عنه من سبقوه منذ تأسيس إسرائيل عام 1948)، ضارباً عرض الحائط بكل القرارات الدولية الخاصة بالصراع، ثم قرر اعتبار الجولان السورية المحتلة جزءاً من إسرائيل، وأعلن أخيراً عن ضم المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية والقدس إلى إسرائيل. باختصار، أصبحت أمريكا دولة مارقة لا تعترف بالهيئات الدولية ولا بالقانون الدولي الذي كانت هي نفسها حجر الزاوية في تأسيسه قبل أكثر من 75 عاماً.
في الملف النووي الإيراني، قرر ترامب الانسحاب منفرداً من الاتفاق الذي وقَّعه سلفه باراك أوباما مع الشركاء بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إضافة إلى روسيا والصين؛ لضمان خضوع البرنامج النووي الإيراني للرقابة الدولية الصارمة، وهذا الانسحاب الأمريكي تحديداً تسبب في كشف الغطاء عن التفوق الأمريكي في المجال العسكري، فإيران أقدمت على تحدي زعيم العالم الحر بصورة وصلت إلى حد إسقاط طائرة استطلاع أمريكية دون أن تردَّ واشنطن عسكرياً، فتجرأت إيران أكثر ووجهت ضربة قاصمة إلى منشآت أرامكو النفطية في السعودية (طهران نفت رسمياً، وتبنَّت الهجوم جماعةُ الحوثي اليمنية المدعومة إيرانياً، والاتهام جاء من جانب الجميع: أوروبياً وأمريكياً وسعودياً وحتى أممياً)، وأيضاً لم تردَّ واشنطن عسكرياً.
حشر الحلفاء في الزاوية
القرارات الترامبية المنفردة بالانسحاب من الاتفاقيات والترتيبات والتفاهمات الدولية، ومحاولة إعادة التفاوض بشأن ما يمثل أساس النظام العالمي القائم والذي ضمِن للولايات المتحدة مكانة القائد من الأساس، وضع الحلفاء والشركاء في موقف صعب، حيث يسود الخوف من أن تحل "التنافسية القومية" محل "التعاون الدولي"، وهو ما جعل هؤلاء الحلفاء يشعرون بالخيانة من جانب واشنطن، وتركيا هنا خير مثال لكنها ليست الوحيدة، فالأوروبيون أيضاً بدأوا بالفعل في البحث عن تحالفات جديدة بعيداً عن واشنطن، فالبديل هو الانصياع التام لإرادة ترامب المتقلبة.
وجاءت جائحة كورونا لتؤكد تلك السياسة الترامبية التي لا تحسب حساباً للحلفاء، فقد أبدى قادة الاتحاد الأوروبي قبل أيام، عدم موافقتهم على قرار الرئيس ترامب حظر السفر من أوروبا إلى الولايات المتحدة وسط الوباء، وقال رئيسا المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية، شارل ميشيل وأورسولا فون دير لين، في بيان، إن التفشي "أزمة عالمية، لا تقتصر على أي قارة، وتتطلب التعاون بدلاً من العمل الانفرادي".
وكشف البيان أن ترامب اتخذ قراره دون التشاور أو حتى إبلاغ الاتحاد الأوروبي، "إن الاتحاد الأوروبي لا يوافق على حقيقة أن قرار الولايات المتحدة فرض حظر على السفر اتُّخذ من جانب واحد ودون استشارة".
وهذا ما عبَّر عنه إريك مامر، المتحدث باسم المفوضية الأوروبية:
"هل تلقينا أي إخطار من الولايات المتحدة؟ قبل الإعلان بالتأكيد لا، وهذا هو السبب في أننا نأسف ونختلف مع طريقة اتخاذ هذا القرار. هل كان هناك أي اتصال منذ ذلك الحين؟ لا أعرف".
ماذا عن السلطة الأخلاقية؟
المقصود بالسلطة الأخلاقية هي مساندة القيم الدولية لحقوق الإنسان بصفة عامة، وفي هذا الشأن تفاخرت الإدارات والشعب الأمريكي، على مدار عقود التفوق والقيادة، بأن أمريكا هي أرض الحرية والفرص المتساوية للجميع، وشعار "مدينة على التل" ونموذج يحتذى عالمياً كان يتردد دائماً في خطابات الرؤساء الذين سبقوا ترامب.
وتكمن أهمية تلك السلطة في تعزيز صورة الدولة الرائدة عالمياً، فمن دونها تصبح القوة فقط غير كافية لانتزاع القيادة عالمياً، وهو ما نجحت فيه الولايات المتحدة بصورة أو بأخرى على مدى عقود، لكن هذه الصورة اختلفت تماماً مع وصول ترامب للبيت الأبيض.
فلو توقفنا عند ملفات حقوق الإنسان عالمياً، لوجدنا أن ترامب يشيد بالرئيس الصيني شي جينغ بينغ والروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهند ناريندرا مودي، فضلاً عن علاقته الوثيقة مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي وصفه ترامب بـ"ديكتاتوري المفضل"، وولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد وغيرهم من الزعماء الذين يرأسون نظماً ديكتاتورية لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان، أو -كما في حالة الهند- يرتكبون الجرائم بحق أقليات لديهم مثل المسلمين في الهند.
وفي هذا السياق، يوجد مثال صارخ يتمثل في جريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي على أيدي مسئولين سعوديين بقنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018. وعلى الرغم من استحالة تنفيذ تلك الجريمة دون أوامر مباشرة أو على الأقل دراية ولي العهد، نجد أن ترامب دافع عنه وواصل علاقته الوثيقة مع الأمير والمملكة، مفضلاً المكاسب الاقتصادية على القيام بما توجبه السلطة الأخلاقية والقانونية لزعيم العالم الحر.
واللافت أن ملف حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة نفسها أصبح في حالة يرثى لها بعد وصول ترامب، الذي صرح أكثر من مرة، بأن الإسلام والمسلمين أعداء ويكرهون الأمريكيين، كما استخدم ألفاظاً عنصرية لوصف الأفارقة وغيرهم من الأقليات داخل المجتمع الأمريكي ذاته، وهو ما انعكس على ارتفاع جرائم الكراهية والعنصرية داخل الولايات المتحدة بصورة لم تشهدها البلاد منذ 16 عاماً، بحسب تقرير عن حالة حقوق الإنسان داخل وخارج الولايات المتحدة.
كورونا أسقط ورقة التوت
ومع انتشار فيروس كورونا الذي أصاب العالم بحالة من الشلل تقريباً وأجبر نحو 3 مليارات شخص على البقاء بمنازلهم، والارتفاع الجنوني في أعداد المصابين حول العالم، (وصلت الأربعاء 25 مارس/آذار إلى نحو 437 ألف إصابة وقرابة عشرين ألف حالة وفاة)، من الطبيعي أن نتساءل عن دور الدولة القائدة عالمياً في جهود مكافحة الفيروس عالمياً.
لكن الولايات المتحدة لم تقدم أي نوع من المساعدات لأي دولة حول العالم، ليس هذا وحسب؛ بل تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين -باستثناء ترامب- إلى أن النظام الصحي هناك معرَّض للانهيار، وقد يكون غير قادر على مواجهة التفشي في الداخل الأمريكي.
اللافت أنَّ عرض المساعدة الوحيد وجَّهته إدارة ترامب لإيران، وجاء الرد الإيراني ساخراً، في إشارة أخرى إلى فقدان الولايات المتحدة ليس فقط لمضمون القيادة، ولكن أيضاً للقيادة من حيث الشكل على الأقل.
الرئيس الإيراني، حسن روحاني، وصف إدارة ترامب بالكذب، الإثنين 23 مارس/آذار، قائلاً إنهم لو أرادوا المساعدة حقاً "فما عليهم سوى رفع العقوبات… عندها سنتمكن من التعامل مع تفشي فيروس كورونا".
كانت واشنطن قد عرضت تقديم مساعدات إنسانية لإيران لمواجهة تفشي الفيروس، لكن المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، رفض العرض، واصفاً الولايات المتحدة بأنها "بحاجة لمن يساعدها".
واللافت هنا أن قادة البنتاغون صرحوا، الثلاثاء، بأنَّ تفشي الفيروس (كوفيد-19) في الولايات المتحدة قد يستمر عدة أشهر، في حين عبَّر عمدة مدينة نيويورك عن قلقه من أن تزداد الأوضاع صعوبة في أبريل/نيسان، أكثر مما هي عليه في مارس/آذار بالمدينة التي باتت مركزاً للوباء في الولايات المتحدة، حيث تجاوزت أعداد الإصابات في الولاية 23 ألف إصابة، أي ما يقرب من نصف إصابات الولايات المتحدة بأكملها والتي تجاوزت 50 ألف إصابة، وهو ما جعل أطباء في الولاية يصفون الفيروس بأنه "تشيرنوبيل نيويورك".
لكن فيم يفكر زعيم العالم الحر؟ ترامب الذي حشره فيروس كورونا في زاوية ضيقة؛ هل يتخذ الإجراءات الحتمية لإنقاذ الأرواح، أم يقلص تلك الإجراءات لينقذ ورقته الرابحة في عام الانتخابات وهو الاقتصاد؟ ويبدو أنه اتخذ قراره بالفعل، فقد غرد يوم الأحد 22 مارس/آذار، قائلاً: "لا يمكننا أن نسمح بأن يكون العلاج أسوأ من المشكلة نفسها. في نهاية فترة الـ15 يوماً، سنتخذ قراراً بشأن أي طريق نريد أن نسلكه!".
وتبع ذلك، الإثنين 23 مارس/آذار، بتصريح يشير إلى أنه "قد اتخذ القرار بالفعل"، حيث قال إنه يدرس كيفية إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي بعد انتهاء فترة الإغلاق 15 يوماً في الأسبوع المقبل، مضيفاً في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض: "أمريكا ستفتح مرة أخرى وبسرعة أمام النشاط التجاري".
رئيس الدولة القائدة في العالم إذن يضع نصب عينيه الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني قبل أي شيء آخر، ولو تمثَّل ذلك في وباء يهدد حياة البشر حول الكوكب، وتطلب مواجهته إجراءات حاسمة، أهمها التباعد الاجتماعي؛ لاحتوائه حتى يتمكن العلماء من التوصل إلى القاح للفيروس، وهو ما قد يستغرق عاماً أو عاماً ونصف عام.
هل يكون عالم ما بعد كورونا بقيادة أخرى؟
وكما يقول سايمون رايتش البروفيسور في قسم الشؤون العالمية وقسم العلوم السياسية بجامعة روتجرز في نيوآرك بمقال له بعنوان: "نهاية قيادة أمريكا للعالم"، بناء أي قوة لوضعها كقائد عالمي يستغرق وقتاً وجهداً، ويتطلب استراتيجية طويلة الأمد تلتزمها للنهاية، لكن وضع القيادة هذا يمكن فقدانه بطريقتين: الأولى تكون درامية من خلال تكاليف ثقيلة لحرب تُنهي اقتصاد البلد حتى لو انتصرت تلك القوة في الحرب (بريطانيا العظمى خرجت منتصرة مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لكن تكلفة الحرب أزاحتها عن قيادة العالم لصالح الولايات المتحدة).
أما الطريقة الثانية فتكون تدريجية وتحدث من الداخل، وتشمل تحولاً ثابتاً عن الاستراتيجية طويلة الأمد نحو التركيز على المصالح قصيرة الأمد والبلطجة بدلاً من التعاون مع الدول الأخرى، وأبرز انعكاس لذلك التحول فرض عوائق تجارية وقائية من جانب الدولة القائدة تجاه الدول الأخرى، وهنا يبدو المقصود هو الرسوم والتعريفة التي يفرضها ترامب على البضائع الصينية واستخدمها ضد تركيا والمكسيك، ويهدد باستخدامها ضد أوروبا واليابان والهند وبقية دول العالم.
وعلى سبيل المثال، بَنَت بريطانيا العظمى زعامتها للعالم على التجارة الحرة، ولكنها اتخذت أول إجراءاتها الوقائية في السنوات الأولى من القرن العشرين، لتأتي الولايات المتحدة وتزيحها من على عرش قيادة العالم بعد نحو أربعة عقود، وربما يكون من قبيل المصادفة في هذا الشأن أن أول إجراءات اقتصادية وقائية أمريكية اتخذها رونالد ريجان ضد اليابان قبل أربعة عقود أيضاً!