حول وباء كورونا منظمة الصحة العالمية ومديرها العام تيدروس إلى الأكثر شهرة وتردداً في وسائل الإعلام حول العالم، فما قصة تلك المنظمة الأممية وما دورها المنصوص عليه في دستورها وهل تقوم به فعلياً على الأرض؟ والأهم ما حقيقة الاتهامات بالتواطؤ مع الصين؟
متى تأسست ومن أعضاؤها وكيف يتم تمويلها؟
تأسست منظمة الصحة العالمية في 7 إبريل/نيسان 1948 بعضوية 51 دولة (جميع أعضاء الأمم المتحدة وقتها)، واليوم تضم في عضويتها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويتم اختيار المدير العام للمنظمة من خلال جمعيتها العامة التي تضم 34 عضواً فقط، لكن المدير العام الحالي الإثيوبي تيدروس أدانوم غيبريسيوس تم اختياره من خلال تصويت جميع الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية وذلك للمرة الأولى منذ تأسيسها.
أما عن تمويل المنظمة، فقد كانت حتى مطلع القرن الحالي تعتمد بشكل أساسي على مساهمات الدول الأعضاء فيها، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية (ولا تزال) هي أكثر الدول تمويلاً للمنظمة، وبحسب أرقام موازنة عام 2012-2013 ساهمت واشنطن بـ110 مليون دولار واليابان 58 مليون ثم ألمانيا 37 مليون والمملكة المتحدة وفرنسا 31 مليون لكل منهما.
لكن الميزانية الإجمالية لمنظمة الصحة العالمية في نفس العام المالي كانت تقريباً 4 مليار دولار، يأتي معظمها في صورة مساهمات من متبرعين خارجين (دول أو منظمات)، لكن تلك الأموال تكون دائماً مخصصة لبرامج أو مشاريع صحية محددة وفي مناطق معينة.
في السنوات الأخيرة، وقعت المنظمة اتفاقات شراكة مع 473 منظمة ومؤسسة غير حكومية، منها 189 شراكة رسمية مع مؤسسات كبيرة مثل مؤسسة بيل وميليندا غيتس ومؤسسة روكفيلر، وفرت للمنظمة تمويلاً لبرامجها الصحية حول العالم.
المقر الرئيسي للمنظمة يوجد في جنيف سويسرا ولها مقرات إقليمية في منطقة الأمريكتين (واشنطن) وجنوب شرق آسيا (مانيلا- الفلبين) وغرب المحيط الهادي (نيودلهي- الهند) وشرق المتوسط (القاهرة- مصر) وإفريقيا (برازافيل- الكونغو الديمقراطية) وأوروبا (كوبنهاغن- الدانمارك)، كما أن لها مكاتب في كل الدول الأعضاء تقريباً.
ما دور المنظمة في مجال الصحة العالمية؟
إجابة هذا السؤال تحديداً يمكن اعتبارها "مربط الفرس"، حيث إن الدستور التأسيسي للمنظمة ولائحتها التنفيذية تضعها على رأس السلطات الصحية حول العالم في مجال الصحة، فهي الجهة المسؤولة عن "تنمية الوعي الصحي والحفاظ على سلامة العالم وخدمة القطاعات الأكثر ضعفاً"، وهدفها "ضمان حصول أكثر من مليار شخص من الفقراء حول العالم على مظلة صحية وحماية مليار آخرين في حالات الطوارئ الصحية وتوفير تأمين صحي أفضل لمليار ثالث".
وهناك أيضاً مجموعة من الأهداف المحددة يفترض أن دور المنظمة هو تحقيقها عالمياً، أبرزها "التركيز على الرعاية الصحية الأساسية بغرض تحسين فرص توفيرها بشكل عادل للجميع، وتحسين مراقبة البيانات والمعلومات".
لكن على أرض الواقع، تظل تلك الأهداف دائماً رهينة التجاذبات السياسية بين الدول الكبرى، شأنها في ذلك شأن جميع مؤسسات الأمم المتحدة، حيث إن القرار الفعلي يظل في يد كل دولة على حدة، حتى في القضايا الصحية مثل الأوبئة والفيروسات سريعة الانتشار، ولنا في فيروس كورونا المثال الأخطر.
المنظمة والصين و "سارس"
قبل نحو 17 عاماً، واجه العالم وضعاً مشابهاً إلى حد كبير لما يواجهه الآن؛ فيروس غامض ينتشر بسرعة أصاب الآلاف حول العالم وقتل المئات وعلى الأرجح نتذكره جميعاً وهو "سارس" وكان منشؤه الصين أيضاً تماماً مثل فيروس كورونا (الرعب الذي نعيشه جميعاً هذه الأيام)، وبالطبع كانت منظمة الصحة العالمية أيضاً اسماً يتردد طوال الوقت كما هو الحال الآن.
لكن الفارق شاسع بين تعامل المنظمة مع وباء سارس وعلاقتها مع الصين وبين تعاملها الآن مع وباء كورونا وعلاقتها أيضاً مع الصين. كان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية وقت سارس هي النرويجية جرو هارلم بورتلانت وقد كانت العلاقة بين المنظمة والصين متوترة للغاية بعد أن اتهمت المنظمة بكين "بالتستر على الفيروس وإخفاء الحقائق حتى خرج عن السيطرة وتحول لوباء عالمي".
على الرغم من أن فيروس سارس انتشر في الصين منذ بدايات عام 2002، إلا أن السلطات هناك أخفت الأمر تماماً على مدى شهور طويلة، ولم تكن لدى منظمة الصحة العالمية فكرة عن وجود فيروس غامض يصيب الجهاز التنفسي للإنسان وربما يسبب الوفاة وينتشر بين البشر، وظل الأمر على ذلك النحو حتى بدأت حالات إصابة تظهر خارج الصين وتحديداً في هونغ كونغ وكندا.
وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، بدأت منظمة الصحة العالمية في توجيه الاتهامات للصين بالتستر على حقيقة الفيروس وإخفاء المعلومات الأساسية عنه عن العاملين بها، وبعد أن زادت وتيرة انتشار الفيروس وظهرت حالات في أكثر من 20 دولة حول العالم، أعلنت المنظمة حالة الطوارئ واعتبرت سارس وباء وظلت الصين تواجه انتقادات عنيفة من المنظمة بسبب السرية وعدم التعاون.
وشهد أبريل/نيسان 2003، ذروة الوباء عالمياً وتخطت حالات الإصابة الآلاف والوفيات المئات حول العالم، لكن بحلول يوليو/تموز، أعلنت منظمة الصحة العالمية انتهاء الوباء، وكانت الحصيلة المعلنة 8000 مصاب و800 حالة وفاة، لكن يظل الرقم محل شك في ضوء تعتيم الصين على الحقيقة على أراضيها خصوصاً في مقاطعة غواندونغ الجنوبية.
كيف استفادت الصين من وباء سارس؟
على مدار الأعوام الماضية تغير الكثير في موازين القوى العالمية وانعكس ذلك بالطبع على منظمة الصحة العالمية، ليتم اختيار المدير العام للمنظمة عن طريق التصويت المباشر للأعضاء -عكس ما كان متبعا من خلال اختياره عبر أعضاء الجمعية العامة للمنظمة وممثليها في المكاتب الإقليمية وعددهم 34 عضواً- وتم اختيار المدير الحالي الإثيوبي تيدروس في يوليو/تموز 2017 ليصبح أول إفريقي يتولى المنصب.
من المتغيرات الجديرة بالذكر هنا أيضاً هو أن الصين -بعد ما تعرضت له من انتقادات حادة في وباء سارس- بدأت تزيد من مساهمتها المالية في ميزانية منظمة الصحة العالمية حتى أصبحت ثاني أكثر الأعضاء مساهمة بعد الولايات المتحدة، وذلك في العام الماضي 2019.
نقطة أخرى نذكرها هنا وتتعلق بالأشهر التي سبقت انتخاب تيدروس مديراً عاماً للمنظمة وهي سيل التقارير الصحفية -في أغلبها كانت في صحف أمريكية كبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست- تتعلق بالسيرة الذاتية لتيدروس، مع التركيز على ما قام به كوزير للصحة في إثيوبيا من التغطية على تفشي الملاريا متسبباً في مئات الوفيات التي كان يمكن إنقاذها.
تيدروس -الذي شغل منصب وزير الخارجية في إثيوبيا أثناء ترشيحه لمنصب مدير عام منظمة الصحة العالمية- نفى تلك الاتهامات واعتبرها محاولة لإضعاف فرصته في الانتخابات مستشهداً بتوقيت نشرها قبل الانتخابات بأسابيع قليلة، وكانت الصين داعماً رئيسياً لتيدروس في تلك الانتخابات، وهو ما ساعده في نهاية المطاف على الفوز بالمنصب.
كيف انعكست التغيرات على مواجهة كورونا؟
ما يهمنا هنا هو إذا ما كانت الصين قد تعلمت الدرس من وباء سارس وتعاملت بشكل أكثر شفافية في قضية صحية تهم البشرية جميعاً كوباء كورونا؟ وهل قامت منظمة الصحة العالمية بدورها كاملاً ووضعت "أهدافها" الأساسية موضع التنفيذ بالفعل؟
نعرف الآن أن فيروس كورونا ظهر في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي الصينية، وبالتحديد في السوق الشعبي للحيوانات البحرية والبرية، لكن متى ظهرت أول حالة هناك على وجه الدقة يظل أمراً غير معلوم، فالطبيب الصيني الذي يقال إنه أول من اكتشف وجود فيروس غامض وقاتل وهو طبيب العيون لي وين ليانغ توفي في مستشفى ووهان المركزي بسبب الفيروس الذي أصبح معروفاً بكورونا المستجد يوم 7 فبراير/شباط الماضي.
وهنا نعود لمنظمة الصحة العالمية نفسها فنجد بياناً منشورا على موقعها عبر المكتب الإقليمي لمنطقة غرب المحيط الهادي كتبه مدير المكتب الإقليمي الدكتور تاكيشي كاساي بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني، يقول فيه أنه "مطلع يناير/كانون الثاني الجاري أبلغتنا الصين أن 41 شخصاً من مواطنيها يعالجون في مستشفيات مدينة ووهان من أعراض حادة في الجهاز التنفسي بسبب فيروس غامض تشير التحقيقات المبدئية أنه انتقل لهم من خلال سوق محلي للحيوانات".
وأشاد البيان بسرعة الصين في إبلاغ منظمة الصحة العالمية، على عكس ما حدث في وباء سارس، وأضاف أن المنظمة وضعت مكتبها في الصين والمكتب الإقليمي ومقرها الرئيسي في حالة تأهب لمتابعة الموقف ومنعه من الخروج عن السيطرة.
تيدروس يشيد بالصين
الفترة الزمنية بين البيان الأول لمنظمة الصحة العالمية (15 يناير/كانون الثاني) واليوم الثلاثاء 17 مارس/آذار تبلغ شهرين تقريباً، وصلت خلالها أعداد الإصابة بالفيروس إلى أكثر من 188 ألف إصابة ونحو 7500 وفاة حول العالم (يمكن متابعة الأرقام من خلال وورلد ميترز)، وحالات الشفاء تخطت 81 ألفاً. معلومة أخرى هامة هنا هي إعلان الرئيس الصيني شي جينغ بينغ أعلن من بؤرة انتشار الفيروس (ووهان) الانتصار على الفيروس قبل أسبوع (الثلاثاء الماضي 10 مارس/آذار) في مشهد أثار بعض الارتياح عالمياً، لكن ذلك سرعان ما تبدد.
والسبب بالطبع هو التفشي المخيف للفيروس حول العالم، بعد تراجعه تماماً في الصين، وإيقاف الحركة بشكل شبه كامل في غالبية دول العالم التي تبدو شبه عاجزة عن محاصرة الفيروس في مشهد يطرح عشرات التساؤلات، ربما أهمها على الإطلاق هو هل أخفت الصين الحقيقة مرة أخرى لفترة من الزمن قد تكون أياماً أو أسابيع قبل أن تخرج حقيقة الفيروس للنور؟
ومن الضروري هنا رصد عدة حقائق أهمها النمو الهائل للاقتصاد الصيني منذ 2003 (كارثة سارس) وحتى الآن، وتحولها لمركز عالمي لتوريد البضائع وحركة السفر، مما أدى لأن ينتقل الفيروس إلى القارات الست قبل أن يتم اكتشافه رسمياً، وربما هذا ما يفسر تحول دولة مثل إيران إلى بؤرة رئيسية خارج الصين (ومنها انتقلت العدوى إلى بلدان الشرق الأوسط)، ثم إيطاليا التي تم اكتشاف الحالة الأولى فيها يوم 19 فبراير/شباط لمواطن كان في الصين وعاد ولم تظهر عليه الأعراض إلا بعد نحو أسبوعين.
اللافت هنا هو إشادة المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس بالصين وقدرتها على مواجهة الفيروس بصورة زادت من حدة الانتقادات الموجهة له وللمنظمة بل ووصلت إلى الاتهام المباشر بالتواطؤ ومجاملة الصين، وهو ما تسبب في الكارثة التي يواجهها العالم حالياً (تفاصيل الاتهامات الموجهة لتيدروس من هذا الرابط).
هل قامت المنظمة بدورها بالفعل؟
في ضوء المتوفر لدينا من معلومات حتى الآن، نجد أن الدور الذي تقوم به منظمة الصحة العالمية يحتاج لإعادة نظر شاملة، شأنها في ذلك شأن الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة، لكن البداية بالمنظمة المختصة بالصحة أمر حيوي يثبته ما يتعرض له العالم الآن بسبب تفشي فيروس كورونا وتحوله لوباء عالمي سيغير العالم حتماً إلى ما قبل كورونا وما بعدها.
كان واضحاً أن الصين تسعى جاهدة لإخفاء حقيقة ما يجري على الأرض في ووهان، وساهمت منصات التواصل الاجتماعي (هذا عامل رئيسي لم يكن موجوداً وقت سارس) في فشل الصين في إحكام قبضتها على الموقف بالصورة التي فعلتها مع سارس، ورغم ذلك ظلت منظمة الصحة العالمية ومديرها يصدرون بيانات إشادة بالصين وإجراءاتها في مواجهة الفيروس، وتأخرت المنظمة كثيراً في إعلان الفيروس وباءً عالمياً حتى أعلنت الصين انتصارها عليه، وجاء الإعلان في اليوم التالي مباشرة.
وعلى الرغم مما وصل إليه الحال من تفش مخيف حول العالم، تظل مسألة التوصل للقاح أو علاج للفيروس أو حتى معلومات دقيقة حول طبيعته وطرق العدوى منه ضبابية رغم التطور التكنولوجي الذي وصلت إليه البشرية ويظل أيضاً دور منظمة الصحة العالمية محل تشكيك من جانب الكثيرين، فهل يمكن اعتبار المنظمة البطل الذي يتصدى لهذا الوباء، أم أنها المتهم الأول في تفشيه خارج حدود الصين بمشاركتها في إخفاء حقيقته مما ساعد على انتشاره حول العالم؟