"عدد الإصابات بفيروس كورونا في مصر بالآلاف وربما بالملايين"، عنوان كهذا تنشره أي وسيلة إعلامية يصبح هو التريند الأول في مصر في ظرف دقائق ويتناقله المصريون على أنه حقيقة، على الرغم من أن التصريحات الرسمية تنفيه والإعلام ينفيه، فلماذا يميل المصريون إلى عدم تصديق الحكومة بشأن فيروس كورونا؟
كيف تغيرت الرواية الرسمية؟
قبل السبت الماضي 14 مارس/آذار، أي قبل يومين فقط، كان منخفض السودان الموسمي (عاصفة التنين كما عرفت في مصر دون أن يكون هناك أصل لتلك التسمية) هو التريند والأكثر تداولاً، وأصدرت الحكومة قراراً رسمياً باعتبار الخميس 12 مارس/آذار عطلة رسمية للقطاعين العام والخاص والمدارس والجامعات، وتركزت التغطية الإعلامية على العاصفة والتحذير منها وضرورة بقاء المواطنين في المنازل.
في تلك الفترة (الأسبوع الماضي)، كانت المطالبات بتأجيل الدراسة خوفاً من انتشار فيروس كورونا قد وصلت ذروتها بين المواطنين، وانعكس ذلك بشكل واضح على منصات التواصل الاجتماعي، حيث كان هناك فصيلان رئيسيان؛ الأول قلق من تفشي الفيروس في مصر ومشكك في البيانات الرسمية التي تقول إن عدد حالات الإصابة بالعشرات فقط ومحصورة بين السائحين على متن باخرة سياحية في الأقصر، وإن حالة الوفاة الوحيدة تعود لسائح ألماني، وهذا الفصيل يطالب الحكومة بتأجيل الدراسة، أما الفصيل الثاني فيتمثل في الإعلام الذي تسيطر عليه الحكومة ومعه مسؤولو الصحة والتعليم، وجميعهم يؤكدون أن الوضع تحت السيطرة ولا داعي للقلق.
وزير التربية والتعليم طارق شوقي لم يكتف بنفي فكرة تأجيل الدراسة بسبب فيروس كورونا، بل شن هجوماً لاذعاً على منصات التواصل الاجتماعي، في مداخلة له مع عمرو أديب على قناة MBC MASR مساء الإثنين 9 مارس/آذار، واتهمها – خاصاً بالذكر "جروبات الماميز على الواتساب" – بترويج الشائعات دون أي دليل، مؤكداً أن الدراسة في مصر مستمرة ولن يتم تأجيلها، وأن حالات فيروس كورونا في مصر محدودة للغاية ومحصورة في مكان واحد.
اللافت أن الوزير قال نصاً إن "تأجيل الدراسة ستكون له آثار كارثية على مصر اقتصادياً، لأن ذلك سيؤثر على السياحة والسفر والإنتاج"، وأكد معه عمرو أديب تلك النقطة، وأن مصر لا تعاني من الفيروس، وأن الوضع تحت السيطرة.. إلخ (مداخلة الوزير في الرابط أدناه).
"عاصفة التنين" تتصدر المشهد
استمرت الرواية الرسمية بشأن كورونا وتأجيل الدراسة كما هي حتى الجمعة 13 مارس/آذار، وتصدر المشهد الرسمي والإعلامي في تلك الفترة الطقس السيئ الذي تعرضت له مصر منذ مساء الأربعاء وحتى السبت، وكان ذلك أيضاً منعكساً في التصريحات الرسمية وانعكاسها في الرسالة الإعلامية.
وكان لافتاً أيضاً في تلك الفترة الهجوم الشرس من الإعلاميين المحسوبين على الحكومة ضد من ينادي بتأجيل الدراسة أو يشكك في احتمال كون الحكومة تتستر عمداً على أعداد الإصابة بفيروس كورونا حماية للسياحة والاقتصاد (نص رسالة وزير التربية والتعليم)، وكيل الاتهامات لمن يخالف الرواية الرسمية بأنه إخوان أو خائن أو عميل أو جاهل ومنقاد.
وبالطبع استمرت التغطية للطقس السيئ من الأربعاء وحتى صباح السبت، وتركزت على ضرورة الإشادة بجهود إدارة الأزمة، فالدولة حذرت المواطنين مسبقاً واعتبرت الخميس عطلة رسمية على مستوى الجمهورية، وعلى الرغم من انقطاع الكهرباء والمياه وخدمات الإنترنت عن معظم أنحاء الجمهورية طوال الأيام الثلاثة تقريباً، إلا أن الإعلام برر ذلك بحجم الأمطار التي هطلت على البلاد بكميات غير مسبوقة منذ ما يزيد عن 30 عاماً.
تأجيل الدراسة خطوة عظيمة!
وفجأة دون مقدمات تغير الموقف 180 درجة، وهذه ليست مبالغة، فقد صدر بيان عن رئاسة الجمهورية "وجه فيه الرئيس عبدالفتاح السيسي بتأجيل الدراسة لمدة أسبوعين وقرر رصد 100 مليار جنيه لمواجهة فيروس كورونا"، فعقد رئيس مجلس الوزراء ومعه وزيرا التعليم والصحة مؤتمراً صحفياً (لم يتم فيه توجيه سؤال واحد)، أعلن خلاله رئيس الحكومة تأجيل الدراسة وناشد المواطنين البعد عن التجمعات.
وهنا نتوقف عند عدة حقائق، أولاها عدد الإصابات المعلن عنه رسمياً في مصر حتى السبت (يوم بيان الرئيس)، فنجد أنها كانت 110 حالات (الجمعة كانت 109 فقط)، فهل كانت تلك الحالة الإضافية هي السبب المباشر وراء هذا "الانقلاب" الرسمي في الموقف؟
ونتوقف عند التغطية الإعلامية مساء السبت لنجد مشهداً، عند مقارنته مع نفس المشهد في نفس البرامج وبنفس مقدميها في الليلة السابقة فقط، لن نجد له سوى وصف "شيزوفرانيا أو انفصام في الشخصية"، إذ إنهم وبنفس الحماسة والانفعال أشادوا بالقرار وبحكمة "من وجه باتخاذه"، واختفت جميع الآثار السلبية والكارثية لقرار تأجيل الدراسة وأصبح فيروس كورونا وحشاً مخيفاً على وشك أن يبتلع مصر والمصريين.
وظهر وزير التربية والتعليم مشيداً بحكمة القرار وأهميته للحفاظ على "أبنائنا وبناتنا الطلبة مستقبل مصر" ولم يهاجم منصات التواصل الاجتماعي ولا "جروبات الماميز"، مبرراً القرار بأنه إجراء احترازي ضروري لمنع تفشي الفيروس المخيف، لكنه في الوقت نفسه قال أإ المدرسين والإداريين سيداومون بشكل طبيعي، لأنهم موظفون في الدولة ولا يوجد ما يستدعي عدم حضورهم (المدرس الذي يقوم بالتدريس للطلاب، ماذا سيفعل في وقت الدوام في غياب الطلاب؟!)
المصداقية
هذا المشهد يفسر ميل المصريين لعدم تصديق الروايات الرسمية الحكومية ووسائلها الإعلامية، وخطورة ذلك في وقت مثل الذي يواجهه العالم من انتشار لفيروس غامض ويبدو فتاكاً وغير خاضع للمنطق وتقف دول كبرى مثل إيطاليا والولايات المتحدة عاجزة أمامه، هو أن حالة الهلع قد تمكنت تماماً من غالبية الشعب المصري، وانعكس ذلك أمس الأحد 15 مارس/آذار في الزحام الشديد على شراء مواد التطهير والمواد الغذائية، وكأن البلاد مقبلة على حرب أو مجاعة.
وكما هو متوقع صب إعلام الحكومة اللعنات على سلوكيات الشعب، مع استضافة "خبراء" يشرحون تلك السلوكيات ويسقطون عليها جميع الأزمات التي تواجهها البلاد، دون أي قدر من الاعتبار لدور الحكومة وإعلامها في التسبب – بقدر ليس ضئيلاً في الواقع – في تلك الحالة من الهلع عن طريق إما التأخر في الكشف عن الحالات المصابة واتخاذ إجراءات حقيقية تشعر الناس بالطمأنينة، أو تصدير رسالة "كله تمام" والعيب في منصات التواصل الاجتماعي وجروبات الماميز.
ما يزيد الطين بلة في كارثة فيروس كورونا هو الحالة المتدنية للمستشفيات والمنشآت الصحية العامة في مصر، والتي تخضع لوزارة الصحة التي ترأسها الدكتورة هالة زايد (التي تدلي بتصريحات جدلية طوال الوقت ولا تتمتع بأي قدر من المصداقية لدى قطاع عريض من العاملين في الوزارة، خصوصاً الأطباء وطاقم التمريض، والذين يعملون في ظروف أقل ما توصف به أنها غير إنسانية).
وعلى الرغم من استحالة إخفاء حالة المستشفيات الحكومية في مصر، تتحدث الوزيرة المسؤولة والمتحدث الرسمي باسم الوزارة ومن يتم استضافتهم في القنوات والبرامج التليفزيونية والإعلاميين المحسوبين على الحكومة عن الاستعداد التام لمواجهة فيروس كورونا، وهو الفيروس نفسه الذي يصيب العالم أجمع بحالة من الذعر، فهل من المنطقي أن نلوم المصريين على ميلهم لعدم تصديق الحكومة وتصديق الشائعات التي قد لا يكون لها أساس من الصحة بالفعل؟