عقب فترة وجيزة من انهيار محادثات منظمة الدول المُصدِّرة للنفط "أوبك" وروسيا في الأسبوع الماضي، بسبب فشل الطرفين في الاتفاق على خفض إنتاج النفط لدعم الأسعار المنخفضة، قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان إنَّ "العالم سيقف مرتقباً لخطوة المملكة التالية".
لكن الأسواق العالمية لم تضطر للترقب طويلاً، ففي غضون 24 ساعة، اتخذت الرياض القرار المثير بإشعال حرب أسعار عنيفة دفعت بأسعار خام النفط لأدنى معدلاتها خلال 4 سنوات وزلزلت أسواق البورصة عالمياً، كما تقول صحيفة The Financial Times البريطانية.
"الخيار الأكثر تطرفاً"
ويرى ممثلو الدول أعضاء "أوبك" القرار السعودي على أنه لعبة فرض سيطرة وسياسة مراهنة تمارسها أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، التي تتزعم منذ 3 سنوات جهود التنسيق بين منظمة أوبك وروسيا لتنظيم الإنتاج للحفاظ على أسعار النفط الخام عند مستويات معقولة. لكن بمجرد رفض موسكو طلب الرياض بزيادة خفض النفط، يوم الجمعة 6 مارس/آذار، تبنت المملكة الخيار الأكثر تطرفاً وهددت بإغراق الأسواق بنفط إضافي بأسعار مخفضة جداً.
مع تصاعد المخاوف من حدوث ركود عالمي نتيجة تفشِّي فيروس كورونا المستجد، والتوقعات القاتمة بشأن أسعار النفط، يبدو أنَّ ما تخطط له الرياض هو أنه إذا لم تعد موسكو تتعاون معها، فستعمل هي على زيادة حجم إنتاج المملكة وحصتها في السوق. لكنها مقامرة عالية المخاطر ستضر بالاقتصاد السعودي الذي يعتمد على النفط، في الوقت الذي يأمل فيه المسؤولون أن يمثل النمو غير النفطي الذي شهدته المملكة في العام الماضي دليلاً على أنَّ حملة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتحديث المملكة بدأت تؤتي ثمارها.
ويعد البترودولار -أو قيمة النفط المُشترَى بالدولار الأمريكي- المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي في المملكة، ومع وصول أسعار النفط الآن إلى نحو 36 دولاراً للبرميل، يتوقع الاقتصاديون أن تضطر الرياض إلى خفض الإنفاق وتأجيل تنفيذ بعض المشروعات وزيادة الاقتراض والاستعداد لتسجيل عجز في خانة العشرات.
"ستكبّد السعودية ثمناً باهظاً"
يقول محلل في السعودية لفايننشيال تايمز: "يقول البعض: كان علينا استعراض بعض القوى أمام روسيا، نحن الطرف الأقوى في الغرفة. أعتقد أنه نوع من سياسة المراهنة، لكنها ستُكبِّد السعودية وغيرها من منتجي النفط ثمناً باهظاً. لم يكن بالإمكان اختيار توقيت أسوأ من هذا لتبني مثل هذا القرار".
أعرب المستثمرون السعوديون بالفعل عن قلقهم؛ إذ فقد مؤشر السوق السعودية الرئيسي (تداول) أكثر من 15% من قيمته خلال اليومين الماضيين. وعلَّقت "أرامكو السعودية" تداول أسهمها، الإثنين 9 مارس/آذار، بعد تراجع أسهمها بنسبة 10%، وصولاً إلى أدنى مستوياته. وهبطت أسهم شركة النفط الحكومية إلى ما دون سعر الطرح العام الأولي لأول مرة يوم الأحد، 8 مارس/آذار، بعد ثلاثة أشهر من إشادة المسؤولين السعوديين بإدراجها في البورصة باعتبار ذلك نجاحاً تاريخياً للأمير محمد بن سلمان.
المملكة بدأت خفض الإنفاق
تقول الصحيفة الأمريكية إن حالة عدم اليقين تفاقمت في السعودية بسبب حملة قمع واسعة تزامناً مع اجتماع النفط، التي استهدفت كبار أفراد العائلة الملكية، في إطار ما يعتبره كثيرون جزءاً من محاولة ولي العهد البالغ من العمر 34 عاماً تحييد المنافسين المحتملين.
وقال مسؤول تنفيذي في المملكة لفايننشيال تايمز: "الأمير محمد يشعر بالضغط من جميع الجبهات".
وصدرت توجيهات بالفعل للدوائر الحكومية بخفض الإنفاق، حسبما كشف مصدران مطلعان على المسألة. واستطلع مستشارو الحكومة، الإثنين، 9 مارس/آذار، آراء المصرفيين خلال مناقشة السياسات المتاحة.
وبالنسبة للكثير من السعوديين، سيحيي ذلك الذكريات المؤلمة لآخر هبوط للنفط في عام 2014. وقد اتبع وزير النفط آنذاك، علي النعيمي، استراتيجية مماثلة لزيادة الإنتاج على أمل أن يُعوِّض الحجم المعروض من انخفاض الأسعار. لكن هذه السياسة فشلت مع توجه الاقتصاد نحو الركود في نهاية المطاف.
وتحول فائض الموازنة في السعودية إلى عجز بلغ 98 مليار دولار في عام 2015. وأُوقِفَت مئات المشاريع ولم تُدفَع عشرات المليارات من الدولارات المستحقة للمقاولين الحكوميين، وهو إرث لا يزال يثقل كاهل الأعمال في المملكة إلى اليوم. ثم أبرمت الرياض اتفاقها مع روسيا في عام 2016 لدعم أسعار النفط الخام عن طريق خفض الإنتاج في ما أصبح يُعرَف باسم تحالف (أوبك +).
"خطط أكثر عدوانية"
من جانبه، اتبع الأمير عبدالعزيز، الذي جاء وزيراً للنفط خلفاً لخالد الفالح في العام الماضي، نهجاً أكثر عدوانية في علاقة المملكة بروسيا من سابقه؛ إذ يعتقد الأمير عبدالعزيز، الأخ غير الشقيق لولي العهد، أنَّ موسكو لم تفِ بجانبها من الصفقة من خلال إجراء تخفيضات كبيرة بما يكفي في الإنتاج، ويريد إعادة التشديد على نفوذ الرياض على (أوبك +).
ومع ذلك، قال شخص مطلع على سياسة الطاقة السعودية إنَّ المملكة سعت إلى توافق في الآراء بين المنتجين، على الرغم من أنَّ بعض مندوبي أوبك قالوا إنَّ الأمير عبدالعزيز همّش روسيا. وأضاف المصدر: "الحقيقة هي أنَّ السعودية وحدها لا تستطيع أن تفعل ذلك. أوبك وحدها لا تستطيع أن تفعل ذلك. نحن بحاجة إلى المنتجين الآخرين".
وحين سُئِل عن تحرك المملكة بخط أسعار تصدير النفط انخفاضاً كبيراً، أجاب: "ما الحل البديل؟".
استخدام المدخرات
تمتلك السعودية هوامش أمان مالية على المدى القصير، مع احتياطيات أجنبية قدرها 502 مليار دولار. لكن المحللين يقولون إنه إذا بقيت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية فستضطر السعودية إلى استخدام تلك المدخرات.
وفي هذا السياق، قالت مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، إنَّ المملكة قد تواجه زيادة في متطلبات التمويل هذا العام قدرها 60 مليار دولار، إلى جانب خطر تضاعف العجز إلى 100 مليار دولار، إذا ظل سعر النفط عند المستويات الحالية واستمرت الحكومة في نفس معدلات الإنفاق.
وأضافت: "إذا استمرت حرب الأسعار، فسيتعين على السعودية خفض الإنفاق للحد من العجز المالي، وهو ما سيكون مؤلماً للاقتصاد غير النفطي. وهذا يأتي في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى النمو وخلق فرص عمل".
وتقف الديون السعودية عند مستوى منخفض نسبياً، بما يعادل نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن من المتوقع أن تزداد تكاليف الاقتراض بسبب انخفاض أسعار النفط.
استنزاف الاحتياطات
وقال مصرفي بارز، في إشارة إلى خطط الأمير محمد لتطوير مشروعات ضخمة وصناعات جديدة لتقليل اعتماد الاقتصاد على النفط: "سيكون ذلك مؤلماً، وستتحمل المملكة تكلفة اختيار الفرصة البديلة الناجمة عن استراتيجية تنويع الاقتصاد".
إذا استمر سعر النفط المنخفض، ستضطر الرياض إلى استنزاف احتياطياتها إلى درجة ستصل بها إلى أقل من 300 مليار دولار، وقد تتزايد الضغوط على تبعية الريال للدولار.
وقال ستيفن هيرتوغ، خبير في الشأن الخليجي في كلية لندن للاقتصاد: "إذا كانت صدمة سعرية سريعة، فسيحدث انتعاش… إذا انتهت صدمة فيروس كورونا المستجد بحلول نهاية العام، فسينجون منها من دون حدوث أزمة طاحنة. لا أعتقد أنهم سيخسرون أكثر من 100 مليار دولار من الاحتياطيات في عام واحد. لكن إذا استمر الوضع لأطول من ذلك، لمدة عامين أو ثلاثة أعوام، فسيقعون في مأزق كبير للغاية وفي مرحلة ما سينزلقون إلى أزمة في العملة".
لعبة رهانات ضخمة
يقول محللون إنَّ الرياض ربما ما زالت تأمل أن تعيد موسكو النظر في موقفها. لكن روسيا لديها احتياطيات أكبر، وعملة يتحدد سعر صرفها وفق التعويم الحر، واقتصاد أكثر تنوعاً.
ويشير المحللون إلى أنَّ المسؤولين السعوديين كانوا مدركين أنَّ موسكو تعارض مواصلة خفض إنتاج النفط في الوقت الذي تحافظ فيها الولايات المتحدة على إمداداتها قوية؛ مما يعني أنَّ الرياض تدرس خيار زيادة الإنتاج منذ بعض الوقت.
وفي هذا الصدد، قالت أمريتا سين، من معهد أبحاث Energy Aspects في بريطانيا: "أقدمت السعودية على لعبة رهانات ضخمة بدرجة مروعة. وربما تهدف استراتيجيتها إلى إجبار روسيا على العودة إلى طاولة المفاوضات. لكن إذا لم ينجح ذلك -ونحن لا نعتقد أنه سينجح فعلاً- فعندئذ يمكن أن يكون لهذا التحول عواقب وخيمة وتطال تداعياته منتجي النفط على مستوى العالم".
أضف إلى ذلك أنَّ هناك احتمالاً بتفكك "أوبك+" مما سيكون له تداعيات سلبية عديدة. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، فإنَّ الانخفاض الحالي في أسعار النفط، الذي قد يؤدي إلى مزيد من تراجع الأسعار في الربعين الثاني والثالث من العام المالي، يمكن أن يسدد ضربة هائلة للاقتصاد السعودي. فوفقاً لصندوق النقد الدولي، يبلغ سعر نقطة التعادل للنفط الخام السعودي نحو 80 دولاراً للبرميل.
وفي الوقت نفسه، يفرض العجز الكبير في سعر النفط ضغوطاً هائلة على المملكة. وقد يعرض مصدر القلق هذا موقف محمد بن سلمان لمزيد من الخطر، الذي يعاني بالفعل من هشاشته. ومن شأن أي تباطؤ اقتصادي محتمل أو حتى أزمة اقتصادية أن يدعم القوى الحالية المناهضة لمحمد بن سلمان، ويعزز الفصائل المحافظة داخل البلاد. وفي الواقع، يشير الاعتقال الأخير لاثنين من كبار العائلة الملكية، الذي أمر به محمد بن سلمان، إلى أنَّ الاضطرابات قد بدأت بالفعل.
ويجب أن يراقب المحللون أيضاً انخفاض سعر سهم "أرامكو السعودية". فلو كانت أرامكو شركة نفط "عادية" مدرجة في البورصة، فلم يكن ذلك ليمثل تهديداً على الحكومة. لكن في الوقت الحالي، يمثل انخفاض سعر سهم "أرامكو" مشكلة رئيسية لمحمد بن سلمان إذا لم تتحسن أسعار النفط؛ إذ إنَّ تأثير إدراج أرامكو في البورصة هائل بالفعل، مع تحوّل معظم مؤشرات البورصة إلى اللون الأحمر بعد أن فقدت أرامكو 10% من قيمتها يوم الإثنين. ويعد هذا التحول الحاد في توجه الأسهم تهديداً كبيراً، إذ لم يكتفِ المواطنون السعوديون باستثمار أموالهم الخاصة لشراء أسهم أرامكو، لكنهم اقترضوا أيضاً أموالاً من البنوك. ومن ثم، قد يمثل الانهيار التام أو الركود الكبير في أسعار الأسهم ضربة رأس أخرى للعائلة الملكية السعودية.