أرسلت فرنسا قواتها عام 2013 إلى مالي بعد سيطرة الجماعات الإرهابية على مدن كبرى هناك، ومنذ ذلك الحين تغرق باريس أكثر وأكثر في الرمال المتحركة في منطقة الساحل الإفريقي، فما قصة تلك المهمة التي كان يفترض أن تنتهي سريعاً؟ وماذا يوجد في تلك المنطقة البعيدة عن الأضواء؟
معركة كبرى بعيداً عن الأضواء
أربعة آلاف قتيل سقطوا في عام 2019 فقط، بمواجهة تنظيمات إرهابية بينها "داعش"، ليس في العراق ولا في ليبيا، بل بمنطقة نائية في قلب الصحراء الكبرى، اصطلح على تسميتها "الحدود الثلاثة"، لوقوعها في تقاطع الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بحسب تحليل نشرته وكالة الأناضول.
ويكشف هذا العدد الكبير من القتلى، سواء في صفوف جيوش البلدان الثلاثة أو بين عناصر الجماعات الإرهابية، أن معركة كبرى تجري رحاها في منطقة الساحل.
والأخطر من ذلك أن "داعش" بدأ ينقل ثقله من ليبيا إلى دول الساحل الفقيرة والهشة أمنياً وعسكرياً، بعدما تم القضاء على إمارته في مدينة سرت الليبية في 2016، وانهيار معاقله في العراق بعد سقوط إمارته في مدينة الموصل في يوليو/تموز 2017، ومقتل زعيمه أبوبكر البغدادي بسوريا في 2019، بعد القضاء على ما تبقى من إمارته في المشرق.
كما أن تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب، الذي انهزم في الجزائر واستقر في شمال مالي، يسعى هو الآخر لإقامة إمارة له في منطقة الساحل مستغلاً الفراغ الأمني في الصحراء الكبرى، وضعف جيوش المنطقة، وتحالفه مع جماعات مسلحة قبلية مثل طوارق "أنصار الدين"، أو مسلحي قبيلة الفلاني الإفريقية (جماعة ماسينا)؛ مما جعل نفوذه يمتد إلى ما وراء نهر النيجر، الفاصل الطبيعي بين مناطق قبائل الطوارق والأزواد وبين إفريقيا السمراء جنوب الصحراء.
القاعدة وداعش وتنظيمات أخرى
لكن الفارق بين وضع "داعش" في المشرق العربي مختلف تماماً عن وضعه في الساحل الإفريقي؛ إذ إن تنظيم "القاعدة" في هذه المنطقة مازال الأكثر نشاطاً، وتمكن من ربط تحالفات مع جماعة "أنصار الدين" و "جبهة تحرير ماسينا"، إضافة إلى كتيبة المرابطين، التي انقسمت إلى شقين؛ الأول بقيادة مختار بلمختار، وانضم إلى التحالف الذي شكلته "القاعدة" في بلاد المغرب (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، والثاني بقيادة أبوالوليد صحراوي (قائد حركة التوحيد والجهاد)، وأعلن ولاءه لداعش.
إلا أن هذا الانقسام بين "داعش" و "القاعدة" لم يؤدِّ إلى صدام بين الطرفين في منطقة الساحل، على عكس ما حدث في مدينة درنة شرقي ليبيا، وقد يعود ذلك إلى كون الساحل منطقة شاسعة مقارنة بمدينة صغيرة، وكثرة الأطراف التي تحاول القضاء عليهما معاً، لكن هذا لا يمنع وقوع صدام بين الطرفين عندما تتضارب المصالح.
متى بدأ التورط الفرنسي؟
في 2013، عندما تدخلت القوات الفرنسية بمالي؛ حيث يُنظر محلياً بتوجس إلى أطماعها في ثروات المنطقة، لم تتوقع أن تستغرق مهمتها سنوات طويلة، رغم أنها تمكنت بدعم من قوات إفريقية من طرد التنظيمات الإرهابية التي سيطرت على شمالي البلد الإفريقي في فترة قصيرة نسبياً.
ففي 2012، تمكن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وكتيبة المرابطين، وأنصار الدين، وحركة التوحيد والجهاد، من السيطرة على المدن الثلاث الرئيسية في شمالي مالي (تمبكتو، وكيدال، وغاو)، بعد أن تحالفت مع حركات انفصالية من الطوارق والأزواد ضد الجيش المالي، قبل أن تنقلب عليهم في مرحلة لاحقة.
وتجد فرنسا تحديات حقيقية في السيطرة على الوضع في شمالي مالي الذي انفلت بشكل متزايد، وامتد إلى غاية مدينة موبتي (وسط) الاستراتيجية، على الضفة الجنوبية الشرقية لنهر النيجر، معقل جماعة جبهة تحرير ماسينا، ومنها إلى دول أخرى مثل النيجر وبوركينا فاسو، بشكل أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الناس.
السعي لتشكيل تحالف دولي
وأمام عدم قدرة باريس على إقناع واشنطن بالانخراط أكثر في الحرب على الإرهاب بالساحل، وتقاسم معها أعباء الحرب المالية واللوجستية والعسكرية أيضاً، توجهت شطر حلفائها الأوروبيين، لدعمها مالياً وحتى عسكرياً.
حيث أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، من مالي في يناير/كانون الثاني الماضي، عن مساعيها لتشكيل قوة أوروبية تحت اسم "تاكوبا"، بمشاركة قوات خاصة من 10 دول أوروبية، لملاحقة الجماعات الإرهابية في الساحل، وأبدت التشيك استعدادها لإرسال 60 من جنودها للمشاركة في قوة "تاكوبا" بعد موافقة برلمانها، كما تسعى فرنسا لتشكيل "التحالف من أجل الساحل"، بمشاركة ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبريطانيا ولوكسمبورغ، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، ومصرف التنمية الإفريقي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، بهدف تمويل الحرب.
ما سر الاستياء الشعبي؟
ليس فقط تحالف الجماعات الإرهابية ما يقلق فرنسا في الساحل الإفريقي؛ فتنامي مشاعر العداء وسط السكان المحليين تجاه جنودها في الساحل يزعجها، خاصة عندما يتم استحضار ماضيها الاستعماري بكل ما يحمله من جرائم، واستغلال ثروات المنطقة من اليورانيوم وغيرها، ومحاولات لمسخ الهوية الدينية واللغوية لسكانها.
ولم يقتصر هذا الأمر على السكان المحليين، بل إن السفير المالي في باريس، توماني دجيمه ديالو، ندد أمام لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي (الغرفة الثانية للبرلمان) بـ "تجاوزات" الجنود الفرنسيين في بلاده؛ مما أثار غضب باريس من أحد حلفائها، وقال ديالو: "في بعض الأحيان، في شوارع باماكو.. ستجدونهم، أجسادهم مغطاة بالوشوم ويقدمون صورة لا نعرفها عن الجيش (الفرنسي). إنه أمر مثير، ويثير الحيرة".
وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2019، إلى دعوة قادة دول مجموعة الساحل الخمس (موريتانيا، مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد)، لتوضيح موقفهم من قوات بلادهم المتمركزة في الساحل، ولقي ماكرون ما طلبه خلال قمة مجموعة الساحل في العاصمة الموريتانية نواكشوط، المجتمعة في 25 فبراير/شباط المنصرم، بترحيب زعماء الدول الخمس بالتواجد الفرنسي على أراضي بلدانهم.
أفغانستان فرنسا
لكن ليس سكان بلدان الساحل الممتعضين فقط من التواجد الفرنسي في المنطقة، بل جزء من الفرنسيين أنفسهم يبدون قلقاً من تورط بلادهم أكثر في الرمال المتحركة لمنطقة "الحدود الثلاثة"؛ مما قد يستنزف موارد البلاد لسنوات طويلة، كما استُنزفت الولايات المتحدة في أفغانستان طيلة الـ19 سنة قبل أن تتوصل إلى اتفاق سلام مع حركة طالبان، من شأنه أن ينهي تواجدها هناك.
لكن أسوأ من ذلك الخسائر البشرية التي تكبدتها القوات الفرنسية في الساحل؛ حيث فقدت 41 من عساكرها منذ 2013، أفدحها مقتل 13 في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في تصادم مروحيتين خلال عملية عسكرية بمالي.
وتحاول باريس حشد أكبر قدر من الدعم سواء من دول مجموعة الخمسة، أو من الدول الأوروبية والمنظمات المالية، ولم تيأس من محاولة إقناع واشنطن بالانسحاب من "مستنقع" الساحل، والضغط على السعودية للالتزام بتعهداتها بالمساهمة بـ100 مليون دولار.
وهي بذلك تسعى لاستنساخ التجربة الأمريكية في حربها على الإرهاب (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، خاصة في شقها الاقتصادي المرافق للجانب الأمني، على أساس أن الجماعات الإرهابية تنتعش في الأوساط التي تعاني التهميش والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
بينما يسعى تحالف "داعش" و القاعدة" في الساحل إلى إعادة السيطرة على شمال مالي، ومنها على كامل المنطقة الممتدة من موريتانيا غرباً إلى إقليم دارفور السوداني شرقاً، بالنظر إلى ضعف جيوش دول الساحل (النيجر، وتشاد، وبوركينافاسو، ومالي وموريتانيا وغرب السودان)، وشساعة المنطقة ومعاناة سكانها من الفقر وانتشار التهريب والجريمة المنظمة بشكل كثيف في الصحراء الكبرى.
وتعتبر الجزائر ونيجيريا ضمن هذا المخطط، ليس للسيطرة عليهما لقوتهما العسكرية والاقتصادية، وإنما لإضعافهما وإشغالهما بقضاياهما الداخلية، وتجنب تدخلهما في المنطقة.
لكن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي أطلقته الولايات المتحدة في 2003، كواجهة سياسية واقتصادية وثقافية للحرب على الإرهاب، التي انطلقت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لم يحقق الأهداف المرجوة منه إلى اليوم، وليس واضحاً مدى نجاح باريس فيما فشلت فيه واشنطن.