يفخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يحظى بعلاقات جيدة مع الحكومات والفاعلين الآخرين حتى وإن كان جميعهم على خلاف قوي مع بعضهم البعض. وحتى وقت قريب، فعل ذلك بنجاح على امتداد أبعاد متعددة في سوريا وحدها.
وبالرغم من العداوة المريرة بين إسرائيل وإيران، استطاعت موسكو العمل عن قرب مع كلتا الحكومتين. وبالمثل، تمكنت موسكو من الحفاظ على التوازن بين أكراد سوريا من ناحية وتركيا من ناحية أخرى. واستطاع بوتين أيضاً الموازنة بين تركيا ونظام الأسد اللذين يواجهان بعضهما في إدلب ومناطق أخرى من شمال غربي سوريا. لكن عملية الموازنة الأخيرة تحطمت تحطُّماً صادماً مع تصاعد النزاع بين النظام السوري وتركيا في إدلب، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي المتخصص بالتحليلات الاستراتيجية.
نهج بوتين نجح لبعض الوقت فقط
يرغب بوتين بشدة في الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبشار الأسد، فقد أعلن الأسد مراراً عزمه "استعادة كل شبر" من سوريا من خصومه، بمن فيهم المدعومون من تركيا الذين تجمعوا في إدلب؛ لأنهم فقدوا الأراضي التي سيطروا عليها في أماكن أخرى. لكن بالنسبة لأردوغان، ستؤدي خسارة إدلب لصالح الأسد إلى تدفق موجة هائلة أخرى من اللاجئين السوريين الذين يفرون شمالاً إلى تركيا، التي تواجه بالفعل صعوبة في استيعاب أولئك الذين فروا سابقاً إلى هناك.
ويعتمد نجاح بوتين في الموازنة بين الأطراف المتصارعة في نفس الوقت على عدم استعداد الأطراف المعنية لمتابعة صراع شامل مع بعضها البعض، أو عدم قدرتها على ذلك. إنَّ تقديم موسكو "بحكمة" المساعدة لكلا الجانبين يهدف إلى تعزيز هذا التصور، وكذلك إلى كسب المال للخزانة الروسية عن طريق بيع الأسلحة، والحصول على امتيازات اقتصادية أخرى من كلا الجانبين. وبطبيعة الحال، لا يرضى كل طرف عن دعم موسكو للطرف الآخر المعارض. لكن منطقية الوضع، كما ترى موسكو، هو أنَّ أياً منهما لن يتحمل تكلفة قطع العلاقات مع موسكو أو تقليصها خشية أن تعزز روسيا من مساعدة الخصم. وبدلاً من ذلك، تأمل موسكو في أن يشجع استعدادها لدعم الأطراف المتعارضة التنافس لصالح موسكو من خلال تقديم كل جانب مميزات وتنازلات. وفي معظم الأوقات، نجح نهج بوتين، كما يقول الموقع الأمريكي.
مَن بحاجة إلى مَن؟
من وجهة نظر روسيا، ينبغي أن ينجح هذا النهج هذه المرة أيضاً. فمن ناحية، يدين الأسد في بقائه في السلطة لتدخل الجيش الروسي في سوريا منذ 2015. وكان نظام الأسد يواجه تهديداً كبيراً حتى هذا التدخل، بالرغم من المساعدات الهائلة التي تلقاها من إيران، وحزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية. واستناداً لهذا المنطق، لا ينبغي للأسد أن يفعل أي شيء قد يخاطر بفقدان موسكو صبرها.
وبالمثل، ينبغي أن يؤدي عداء أردوغان وندّيته المتزايدة ضد الغرب (وهو العداء الذي شجعه بوتين) إلى جعل تركيا أكثر اعتماداً على روسيا، وجعل روسيا أكثر احتياجاً لتركيا.
لكن لسوء حظ بوتين، لا يبدو أنَّ الأسد ولا أردوغان يتقبلان منطقه حول كيفية التصرف في سوريا. فحقيقة أنَّ التدخل الروسي أنقذ نظام الأسد وأعاد فرض حُكمه على معظم سوريا وضع الأسد في موقف أقوى بكثير لمحاولة استعادة إدلب مما أمكن أن يكون عليه.
وعلى نفس المنوال، بدلاً من الاعتقاد أنَّ تركيا بحاجة لروسيا أكثر من احتياج هذه الأخيرة لها (مثلما يظن بوتين)، يرى أردوغان أنَّ موسكو بحاجة لأنقرة أكثر مما بلاده بحاجة إليها. وتشير زيارة أردوغان الأخيرة إلى أوكرانيا وإعرابه عن دعمه لها وتجديد حماسه مؤخراً لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى أنَّ الرئيس التركي يعتقد أنَّ بوتين لديه ما يخسره إذا أثار استياءه في سوريا، إذ إن تركيا تعتبر الدولة الوحيدة في الناتو تقريباً التي تحظى بعلاقات قوية على مختلف الأصعدة مع روسيا، في ظل العقوبات الأمريكية والغربية على موسكو.
هل أصبحت روسيا في مأزق؟
علاوة على ذلك، يعتقد أردوغان والأسد أنَّ لكلٍّ منهما مصالح حيوية على المحك في إدلب، لذا لا يرغب أيٌّ منهما في التراجع. ومن ثم، بدلاً من الحفاظ على علاقات جيدة مع الطرفين المتعارضين مثلما فعلت في الماضي، تواجه موسكو الآن احتمال فقدان نفوذها لدى أحد الخصمين، أو حتى لدى كليهما؛ إذ تشير التقارير إلى أنَّ تركيا غاضبة مما تعتبره دعماً جوياً روسياً للهجمات السورية ضد القوات التركية، وفي الوقت نفسه تشعر سوريا بالغضب بسبب ما تعتبره دعماً روسياً غير كافٍ.
والحقيقة أنَّ موسكو لن تستطيع حقاً تحمُّل ضريبة السماح لتركيا بهزيمة النظام السوري في شمال سوريا؛ لأن هذا ينطوي على تنشيط المعارضة في مناطق أخرى في سوريا. لكن مساعدة نظام الأسد في محاربة القوات التركية في شمال غربي سوريا قد تورط روسيا في صراع أكبر وأطول مما يريد بوتين. وحتى لو نجح النظام السوري في تحقيق ما يريد في إدلب، فإنَّ الضرر الذي سيلحق بالعلاقات الروسية-التركية قد يكون هذه المرة غير قابل للإصلاح. وربما لن يعود توازن بوتين بين أردوغان والأسد قابلاً للاستدامة.
في النهاية، ستكون قمة أردوغان-بوتين في موسكو الخميس والجمعة 5 و6 مارس/ آذار 2020، الفرصة الأخيرة لإنقاذ هذه العلاقة، كما أنها ستكون صعبة للغاية كما وصف الكرملين ذلك، مضيفاً أن الجانبين سيعملان، بالرغم من ذلك، على مقاربة وجهات نظرهما بشأن كيفية تنفيذ اتفاقيات سوتشي، و"التعهدات التي يجب على كل طرف الوفاء بها" حول ذلك.