بدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس صريحاً أكثر مما ينبغي في جلسته المطولة مع وزراء الخارجية العرب التي عقدت قبل أيام لبحث صفقة القرن والتي أنهت فعلياً نحو 30 عاماً من جهوده السياسية الشخصية التي أطلقت مسار أوسلو للتفاوض.
وكشف الرجل خلال الجلسة أنه رفض تلقي اتصالات من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى لا ينقل عنه أنه وافق بأي شكل من الأشكال على صفقة القرن.
انتقد أبومازن الأمريكيين ورأى أنهم السبب الدائم في عرقلة مفاوضات السلام، كاشفاً عن أن صفقة مفاوضات أوسلو الشهيرة مع الإسرائيليين التي كان عرابها بدأت عام 1991 في النرويج واستمرت لمدة 8 أشهر دون معرفة الأمريكيين قبل أن يتم الاتفاق عام 1993، معتبراً أنه لو وصل الأمر لإدارة كلينتون في ذلك الوقت لفشل مسار أوسلو.
أبرز علاقته الوثيقة مع المخابرات الأمريكية
أبومازن اتخذ موقفاً صارماً من خطة ترامب المعروفة بصفقة القرن، وأكد أن هناك مَن يؤيد الموقف الفلسطيني داخل الكونغرس وحتى الكونغرس.
لكن الأهم أن الرئيس أبرز علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية (سي آي إيه) الراضية عن أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مكافحة الإرهاب، كما ألمح إلى أنها غير راضية عن توجهات ترامب.
والحقيقة أن الأجهزة الأمريكية غير راضية عن سياسة ترامب في العديد من الملفات، لكن في النهاية فإن أمريكا بلد نظامه رئاسي والأجهزة مهما كان رأيها تنفذ توجيهات الرئيس حتى في ملفات أكثر حساسية وخطورة بالنسبة لواشنطن من القضية الفلسطينية وحتى لو كانت الأوامر الرئاسية أكثر غرابة من صفقة القرن.
تعاطفك وحده لا يكفي
الأمور لم تكن أفضل كثيراً بالنسبة للفلسطينيين حتى عندما كان يتبوأ السلطة في واشنطن شخصيات متفهمة للحقوق الفلسطينية مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري الذي كشف عباس عن أنهما من أعّدا سراً القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في أيام أوباما الأخيرة قبل تولي ترامب، فيما وصف بطلقة أوباما الأخيرة ضد نتنياهو.
فحتى خلال فترة أوباما لم يحصل الفلسطينيون على شيء، ولم تضغط الإدارة الديمقراطية على إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين وقدمت هذه الإدارة مساعدات عسكرية ضخمة لتل أبيب.
فالمجتمع الدبلوماسي الدولي بما فيه شطر من الدبلوماسية الأمريكية وحتى الإسرائيلية أصبح متفهماً للحقوق الفلسطينية وأحياناً متعاطفاً معها.
ولكن الحقوق لا تأخذ بالتعاطف، بل إن هذا التعاطف الذي لا يترجم إلى ضغوط على الإسرائيليين بات بمثابة مخدر طويل الأمد للسلطة الفلسطينية.
الدافع وراء مسار أوسلو الذي يتجاهله الرئيس عباس
ويتناسى أبومازن أن مسار أوسلو انطلق استجابة للانتفاضة التي أحيت القضية الفلسطينية التي أصيبت بنكسة بعد خروج منظمة التحرير من لبنان.
وأن إسرائيل انسحبت من جنوب لبنان وقطاع غزة نتيجة المقاومة بأشكالها وليس المفاوضات، وأنه تقريبا لا يوجد بلد على وجه الأرض نال استقلاله بدون مقاومة بدءاً من الولايات المتحدة نفسها وصولاً للجزائر بلد المليون شهيد.
ولكن الرئيس الفلسطيني لا يرى بديلاً إلا التفاوض رغم ما يراه من الشريك والوسيط على السواء من نكران الاتفاقات وقرارات الشرعية الدولية المتراكمة.
قال له العرب اذهب أنت وشعبك ففاوضا
اللافت أن الرئيس الفلسطيني كان متواضعاً في طلباته من الوزاري العربي التي اقتصرت على طلب التأييد لتحرك دبلوماسي فلسطيني جديد. ويبدو أنه رأى أن يحصل على الحد الأدنى في ضوء التأييد الكبير من عدد من الدول العربية لصفقة ترامب الذي ظهر في الجلسة الافتتاحية للاجتماع وحتى قبل ذلك، فإن بعضه تأييد فجّ كالإمارات وسلطنة عُمان والمغرب والبحرين، وبعضه ضمني وإن اختفى تحت رداء تأييد الثوابت الفلسطينية مثل السعودية ومصر.
فالموقف العربي من صفقة القرن التي يُعتقد أن بعض الزعماء العرب هم عرابوها أدنى من مواقف التكتلات الأخرى مثل الأوروبيين والأتراك والإيرانيين والعديد من الدول الأخرى.
ولذا فإن الفلسطينيين يسعون لدعم من منظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الانحياز ويخططون لدعوة مجلس الأمن للانعقاد.
نعم قد يستصدر الفلسطينيون قراراً دولياً جديداً، ولكن ماذا بعد؟
وفي مواجهة الفيتو الأمريكي المشهر في وجوههم بمجلس الأمن، قد يلجأ الفلسطينيون للساحة الأممية التي يتمتعون فيها بميزة نسبية وهي الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي قد يخرج عنها قرار يدين الخطة الأمريكية للسلام أو يجدد الدعم لقرارات الشرعية مع احتمال أن نرى دولاً عربية تصوّت ضد الموقف الفلسطيني.
ستواصل السلطة الفلسطينية تحت قيادة أبومازن مراكمة قرارات الشرعية الدولية لصالح القضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته سوف تواصل إسرائيل تحت قيادة نتنياهو مراكمة المستوطنات وضم الأراضي الفلسطينية متسلحة بالشرعية الترامبية الجديدة والأهم شرعية القوة التي لا يؤمن بها أبومازن.
يواصل أبومازن الضغط على النظام الدولي الذي يكنّ له كل تقدير، ولكن التقدير وحده لا يكفي.
التقدير لم يمنع من انهيار مسار مفاوضات أوسلو الذي بدأ قبل أكثر من ربع قرن على يد الرئيس عباس نفسه وبموافقة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
خيارات أبومازن المريرة التي لن يتخذها
أما الخيارات التي يمكن أن تكون أكثر فاعلية والتي هددت السلطة باستخدام بعضها فإنها تبدو صعبة بسبب طبيعة السلطة نفسها.
فقد ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن السلطة الفلسطينية أبلغت إسرائيل بأنها لن توقف التنسيق الأمني معها، لكنها ستقلّصه، إلى جانب عدم منع المتظاهرين الفلسطينيين من الوصول إلى نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي، كما كانت تفعل في السابق.
وبحسب وسائل الإعلام، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أرسل رسالة بخط يده إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هدد فيها بوقف التنسيق الأمني، وتغيير قواعد وأسس التعامل مع إسرائيل بشكل كامل إذا أقدم على تنفيذ مخطط ضم الأغوار والمستوطنات إلى سيادة إسرائيل.
ولكن يبدو أن الأمر لا يتعدى مرحلة التهديد.
لأن إسرائيل لديها ما ترد به بشكل أكثر قسوة على إذا ما أوقف التنسيق الأمني الذي بات جزءاً من تركيبة السلطة ووظيفة أساسية لها تارة لإرضاء إسرائيل وتارة أخرى لتقليم نفوذ منافسيها من حركات المقاومة.
أما التهديد الأقوى بحل السلطة الفلسطينية وتحميل إسرائيل كسلطة احتلال مسؤولية إعاشة الشعب الفلسطيني، فيعترضه حقيقة أن المتضرر الأول هو موظفي السلطة نفسها الذين نسبة كبيرة منهم ينتمون لحركة فتح أو من مؤيديها.
فهذه فلسفة أوسلو بالنسبة لإسرائيل، فقد حوّلت حركة فتح من حركة تحرر وطني إلى حزب حاكم وإن كان حاكماً بسلطات محافظة أو ولاية أو أقل وليس بصلاحيات حكم ذاتي حتى.
فاتفاقات أوسلو التي كان أبومازن عرّابها خلقت عبر موظفي السلطة جماعة ضغط لاستمرار السلطة التي أصبح لها أولوية على التحرر الوطني.
وحتى لو استجاب أبومازن لاقتراح الشاعر تميم البرغوثي بأن يرحل للخارج ويقود النضال الفلسطيني من المنفى بعيداً عن ضغوط الاحتلال فماذا يفعل مع مئات الآلاف من موظفي السلطة وأسرهم.
أظهرت صفقة القرن أن أبومازن وسلطته والقضية الفلسطينية برمتها ضحية لمسار أوسلو الذي ضحى بالانتفاضة من أجل كانتونات محاصرة، أما خيار المقاومة بأنواعها فليس مطروحاً على أجندة أبومازن. .