في حين يبدو الموقف السعودي المؤيد دون تحفُّظ لصفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسمياً، والتي جاءت كما هو متوقع منحازة بشكل سافر لإسرائيل، يبدو الموقف المصري بحاجة للتفسير، خصوصاً أن واشنطن لا تقدم للقاهرة أكثر من التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان.
دعم مصري غير متحفّظ
بعد دقائق من انتهاء عرض ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض لصفقة القرن في أجواء احتفالية مساء الثلاثاء 28 يناير/كانون الثاني، صدر بيان عن الخارجية المصرية مشيداً بالخطة وبالدور الأمريكي في حل الصراع، وداعياً "الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني" للدخول في مفاوضات مباشرة لتنفيذ خطة السلام.
البيان المصري جاء مغايراً تماماً للمواقف الثابتة في السياسة الخارجية المصرية منذ حرب 1967 وحتى بعد أن وقَّعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، ظل موقف مصر داعماً لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وبالتالي أن تدعم القاهرة خطة ترامب التي منحت إسرائيل اعترافاً بالمستوطنات المقامة في الضفة الغربية المحتلة وبالقدس عاصمة غير مقسمة لإسرائيل، فهذه سابقة تستحق التوقف أمامها سعياً لفهم دوافعها.
ما المقابل الذي تنتظره مصر؟
إجابة هذا السؤال تحديداً تبدو محيّرة، على أقل تقدير، فبحسب بنود الصفقة ستحصل مصر على مبلغ 9.1 مليار دولار من الـ50 ملياراً المرصودة، وحصة مصر عبارة عن قروض واستثمارات في صورة مشاريع تنموية وبنية تحتية وسياحية في شبه جزيرة سيناء ومنطقة قناة السويس بالأساس، وهذا المبلغ ليس بالشيء المغري في ضوء السياسة الاقتصادية التي يطبقها النظام المصري برئاسة عبدالفتاح السيسي منذ عام 2014.
يعتمد البرنامج الاقتصادي الذي أقرته حكومات السيسي المتعاقبة بالأساس على الاقتراض -وقد بلغ حجم الدَّيْن الخارجي نحو 110 مليارات دولار بحسب بيانات البنك المركزي بنهاية سبتمبر/أيلول الماضي- وهو ما يعني أن التخلي عن موقف ثابت من القضة الفلسطينية يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي المصري مقابل قروض واستثمارات -لن يتم الحصول عليها مباشرة أو مقدماً- بهذا المبلغ، أمرٌ ليس مفهوماً، على أقل تقدير.
وفي هذا السياق، يقول نيل كويليام، الباحث في مؤسسة تشاتام هاوس البحثية البريطانية لرويترز: "لا توجد حكومة أو حاكم يرغب في أن ينظر إليه على أنه يبيع الفلسطينيين بثمن بخس ويقدم لنتنياهو نصراً كهذا وينتهي به المطاف بدفع الفاتورة"، وأضاف: "في الوقت نفسه، فإن كل الدول ربما باستثناء مصر تعتمد على الولايات المتحدة ولن تخاطر بإغضاب ترامب بالنظر إلى ميله للتصرف مثل طفل عدواني".
هل ترامب داعم لمصر فعلاً؟
إذا كانت السعودية تعتمد بشكل كلي على دعم ترامب في مواجهة عدوها الأول إيران، الواقع يقول إن ترامب لا يقدم لمصر دعماً مالياً ولا حتى سياسياً بالصورة التي تجعل القاهرة تتبنى ذلك الموقف المؤيد لصفقة القرن على طول الخط؛ صحيح أن ترامب تجمعه علاقة خاصة بالرئيس المصري انعكست في الزيارات المتكررة للسيسي إلى البيت الأبيض واللقاءات بين الرجلين في المحافل الدولية (ترامب حتى وصف السيسي ذات مرة بديكتاتوره المفضل)، إلا أن ذلك ليس له مردود حقيقي إلا في تغاضي ساكن البيت الأبيض عن انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في ظل حكم السيسي.
طلب السيسي أكثر من مرة من ترامب أن تشتري مصر طائرات إف-35 الشبح المقاتلة لكن تم رفض الطلب، حيث إن واشنطن لا تبيع أنواعاً معينة من الأسلحة المتقدمة ومنها تلك الطائرات في الشرق الأوسط سوى لإسرائيل، وهو ما دفع السيسي للتوجه إلى روسيا للتفاوض على شراء طائرات سوخوي-35، وذلك بحسب تقارير إعلامية دولية أكدها الإعلام المصري في الربع الأخير من العام الماضي.
روسيا قدمت لمصر قرضاً لبناء محطة نووية في الضبعة بمرسى مطروح، بينما لا يوجد استثمار أمريكي في أي من المشاريع القومية التي ينفذها الرئيس المصري مثل العاصمة الإدارية أو محطات توليد الكهرباء وغيرها، فمسألة تقديم قروض أو استثمارات أمريكية تخضع لموافقة الكونغرس وتكون مرتبطة باعتبارات كثيرة، من بينها سجل الدولة في مجال حقوق الإنسان، وبالتالي بعيداً عن المعونة العسكرية لمصر بموجب اتفاقية السلام مع إسرائيل، لا يوجد ما يمكن تسميته دعماً أمريكياً اقتصادياً لمصر يخشى النظام خسارته حال معارضة صفقة القرن.
في أزمة سد النهضة، تدخلت واشنطن "لرعاية المفاوضات" من خلال وزارة الخزانة وليس وزارة الخارجية بعد إصرار إثيوبيا على رفض الوساطة، ولم تتمكن مصر من تحقيق أي من مطالبها في هذا الملف الذي يمثل مسألة حياة أو موت، كما وصفه الرئيس المصري، ويمكن القول إن ترامب لم يلقِ بثقله كونه رئيس الولايات المتحدة لصالح حليفه المصري، وإلا لكانت الأمور اختلفت كثيراً، أليس كذلك؟
ماذا عن الغضب الشعبي؟
وكما هو متوقع، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بالغضب والرفض لصفقة القرن، لكن ذلك لا يمثل مشكلة لحكومة الرئيس السيسي التي تسيطر على وسائل الإعلام وتشن حملة قمع صارمة بالفعل ضد أي شكل من أشكال المعارضة.
وقالت المدونة البارزة زينب محمد عن خطة ترامب: "أشعر بالغضب والعجز كمصرية وعربية ومسلمة وفوق كل هذا كإنسانة".
وقد صدرت توجيهات لرؤساء تحرير الصحف والبرامج التليفزيونية والمواقع الإلكترونية في مصر بعدم استعمال "صفقة القرن" مطلقاً بل استخدام "خطة السلام" في إشارة لصفقة ترامب، وأيضاً الابتعاد عن ذكر أي تعليقات عن الصفقة تصدر من الأزهر، بحسب تسريبات للرسائل عبر تطبيق واتساب.
مَن هو عدو النظام المصري؟
إذا كانت إيران هي العدو بالنسبة للسعودية، فإن الإسلام السياسي هو العدو بالنسبة للرئيس المصري الذي وصل للرئاسة بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين بعد مظاهرات شعبية ضده، وكان السيسي وقتها وزيراً للدفاع.
وعلى مدى السنوات الست التي تولى فيها السيسي الرئاسة، شنت الأجهزة الأمنية حملة قمع شرسة ضد المعارضين بشكل عام والمنتمين لتيار الإسلام السياسي بشكل خاص، وكانت حركة حماس التي تحكم قطاع غزة هدفاً مباشراً لمسؤولي النظام وأجهزته الإعلامية، وفي المقابل أصبحت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في أفضل مستوياتها منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد قبل أربعين عاماً.
ووصل التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، والأمر نفسه ينطبق على التعاون الاقتصادي الذي تم تتويجه مؤخراً ببدء تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر في صفقة بلغت قيمتها 19.5 مليار دولار وأثارت جدلاً كبيراً، خصوصاً أنها جاءت بعد أكثر من عام على إعلان مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وسط تقارير متناقضة عما إذا كان الغاز الإسرائيلي للاستهلاك المحلي في مصر أم لإعادة تصديره.
في ضوء هذه الصورة العامة، يمكن تفسير القرار المصري بدعم "صفقة القرن" والتخلي عن الفلسطينيين لصالح إسرائيل على أنه يأتي في إطار رؤية الرئيس السيسي لمن يمثل العدو والصديق من وجهة نظره، والحقيقة أن الرئيس المصري يدير البلاد بالطريقة التي يراها هو وليس أي شخص آخر، فالرجل يرى نفسه "طبيب الفلاسفة"، وليس ببعيد ما قام به في سبتمبر/أيلول الماضي عندما نصحته الأجهزة السيادية بعدم الرد على اتهامات المقاول والممثل محمد علي بالفساد وإهدار المال العام في بناء قصور رئاسية، وكادوا أن "يبوسوا إيده – عامية مصرية تعني تقبيل يديه" كي لا يرد، لكنه رد بل وأكد الاتهام بقوله: "نعم أبني وسأبني قصوراً رئاسية".