عندما دخل مرزا حسين حيدري بسيارته الأجرة طراز تويوتا إلى نقطة تفتيش للشرطة، تسمَّرت عيون ضابط مذهول على ناقل الحركة، الملفوف بشريط أزرق ومربوط بجهاز معدني تخرج منه أسلاك وكابلات.
سأله الضابط: "ما هذا؟"، وبدا عليه الاشتباه بوضوح في أنها قنبلة بدائية. فشرح له حيدري: "لقد أُصبت في الحرب، وتلك هي الطريقة التي أقود بها السيارة".
بين الإعجاب والشفقة
تروي صحيفة The New York Times الأمريكية قصة حيدري، البالغ من العمر 25 عاماً، حيث فقد ساقيه بسبب انفجار لغم قبل خمس سنوات حينما كان ملتحقاً بالجيش الأفغاني. وهو الآن يكسب دخله من سيارة أجرة زودها بآلية صنعها بيده تمكّنه من القيادة بيديه، أو بالأحرى بما تبقى منهما.
فقد أخذ اللغم أربع أصابع من يد حيدري اليسرى، تاركاً له الإبهام فقط. أما يده اليمنى فهي سليمة لكن الأذى طالها. صار آلاف من المحاربين القدامى المصابين مثل حيدري من العناصر الثابتة في المجتمع الأفغاني. بات البعض محلاً للإعجاب في حين بات البعض الآخر محل شفقة.
وفي شوارع البلاد، تجدهم يعرجون بأرجل اصطناعية أو على عكازات. وفي المستشفيات أو مراكز إعادة التأهيل، يتعلمون كيف يمشون أو يرتدون ملابسهم بأنفسهم من جديد. بعضهم تعتني بهم عائلات، والبعض الآخر يعيشون على المعاشات التقاعدية للعسكريين، في حين يتسول بعضهم في الشوارع، أو يبيعون الحُلي أو بطاقات الهاتف.
"الأمر يشبه العذاب مدى الحياة"
اختار حيدري، البالغ من العمر 25 عاماً، وهو رجل هادئ الطبع ذو سلوك وقور، استئناف حياته بطريقة شائعة للغاية. إذ يعد من أشهر أبناء مقاطعة باميان في وسط أفغانستان، فيُرى عادةً إما وهو ينقل الركاب في سيارته التويوتا التي عدَّلها، وإما وهو متَّجه إلى منزله غير القانوني المصنوع من الطوب في التلال.
أحياناً يسخر الناس من حيدري أو ينفرون من مظهره، وذلك حسبما قال؛ بل يقفز بعض الركاب فجأة من سيارة الأجرة بعد أن يدركوا أنهم كانوا على وشك الركوب مع سائق بلا أرجل.
قال حيدري، وهو جالس على وسادة بمنزله في حين يستعد ليوم آخر مع قيادة السيارة: "أحياناً يسخر الناس مني، فأتمنى لو كنت لقيت حتفي في القنبلة، الأمر يشبه العذاب مدى الحياة".
وأضاف أنه قد شعر بحزن عميق عندما لم يتصل به أحد من الجيش للاطمئنان على حالته بعد إصابته. ومنذ ذلك الحين، يحصل حيدري على راتب بسيط من الحكومة ساعده قبل عام في تغطية تكاليف بناء منزله الذي يمكن الوصول إليه بكرسيه المتحرك، لكنه لا يزال يشعر بالإهمال.
فقد أوضح قائلاً: "لقد خدمت الجيش الأفغاني وبلدي، لكنني الآن لا أمثل لهم شيئاً، لأنني عاجز عن تقديم أي شيء لهم. إنهم لا يكترثون لفقدان ساقي بسبب الحرب".
الحاجة تصنع المعجزات
رغم كل ذلك، يبدو الرجل عازماً على المثابرة. فعندما رأى محارباً قديماً بلا أرجل في العاصمة الأفغانية كابل يستخدم يديه لقيادة سيارة معدلة، ألهمه ذلك لتصميم جهاز مماثل.
وقال إنه أخذ مخططه المرسوم بيديه إلى ميكانيكي في مسقط رأسه باميان، لكن الرجل رفض مساعدته، معللاً ذلك بأن المهمة مستحيلة. لكن حيدري أرهقه ليقتنع، فتراجع عن قراره.
جهّز الرجلان جهازاً غريباً يمكِّن حيدري من توجيه عجلة القيادة بيده اليمنى السليمة والدواسة بإبهامه الأيسر، الذي يتحكم في مقبض. ويستخدم الإبهام أيضاً للضغط على الفرامل، عن طريق دفع مقبض ملفوف بشريط أزرق. كلفته التعديلات 5500 أفغاني، أو نحو 70 دولاراً.
أمضى حيدري 3 سنوات يصارع مع الحكومة قبل أن تمنحه الكرسي المتحرك الآلي. ويحصل كذلك على جزء من راتبه العسكري. وقال إنه الآن يكسب رزقه، لكنه يأسف لأن شقيقه البالغ من العمر 11 عاماً، يعمل في مخبز بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، لأن الأسرة تحتاج الدخل. ويعيش حيدري مع أخيه وأخته وأمه. وقال: "حينما أمسيت معاقاً، دفعت عائلتي الثمن، قنبلة واحدة دمرت حياتي وحياة عائلتي".
بداية جديدة
ولكن بدعم عائلته وأصدقائه، وجد حيدري قدراً من السعادة والرضا في حياته بعد الحرب. إذ وجد العزاء خلف عجلة سيارة الأجرة. وهو يلعب في دوري كرة السلة للكراسي المتحركة ويتدرب في نادي كمال أجسام، ليحافظ على لياقته البدنية.
تابع حيدري: "من الناحية الجسدية، أنا معاق، لكن من الناحية العقلية أنا على ما يرام. لقد فقدت قدميَّ، لكني لم أفقد عقلي".
يذرع حيدري طرق باميان الوعرة جيئة وذهاباً في الثلج، ويتجول بحثاً عن الركاب، ويشاهد التعبيرات على وجوه الأشخاص الذين يلوحون له. هل يقبلون الركوب معه أم أنهم يتحولون عنه؟
وفي نهاية كل يوم، يقود سيارة الأجرة على طريق مرصوف، ثم مسار ترابي، متجهاً إلى منزله الواقع على منحدر تل أجدب.
وعندما يصل هناك يفتح باب السيارة ويدور بجسمه. وفي حركة انسيابية واحدة، يخرج من السيارة ويجلس على كرسيه المتحرك الذي ينتظره. ثم يوجه الكرسي أعلى منحدر خرساني إلى الباب الأمامي، وبهذا يكون وصل إلى المنزل والعائلة.
ولكن حتى بعد 5 سنوات، تظل ذكريات هذا الصباح تلاحقه، عندما قاد فريقه في دورية بمقاطعة هلمند شمال أفغانستان، حيث كان ينتظره اللغم. واختتم حديثه: "فقدت كل شيء، وبرغم كل شيء لست نادماً على التحاقي بالجيش. فقد خدمت أفغانستان بلدي الأم". وسكت هنيهة تاركاً الذكريات تجتاحه، وقال في النهاية: "لا ينتابني أبداً الشعور بالندم، ولكن أحياناً أتمنى لو نالت القنبلة من حياتي".