الحجر الصحي يعني عزل الشخص المصاب أو حامل العدوى في مكان خاص حتى يتعافى تماماً، كي لا يتسبب في نقل العدوى لآخرين، لكن فرض الحجر الصحي على مناطق ضخمة يقطن بها ملايين الأشخاص كما في حالة فيروس كورونا ربما لا يكون مجدياً، فلماذا؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "مع تصاعد حدة المخاوف من فيروس كورونا، شكوك حول فعالية الحجر الصحي"، ألقت فيه الضوء على أسباب عدم فعالية الحجر الصحي في هذه الحالة.
تصريحات متشائمة
حذر مسؤول كبير بوزارة الصحة الصينية، الأحد 26 يناير/كانون الثاني، من أن الانتشار السريع لفيروس كورونا الخطير الجديد يزداد تسارعاً، مما يعمق المخاوف العالمية بشأن المرض الذي أصاب ما يزيد على 2,700 شخص حول العالم وقتل ما لا يقل عن 80 شخصاً في الصين.
وجاء التصريح المتشائم في خضم مخاوف من أن الجهود الصينية لاحتواء انتشار المرض، بالرغم من الإقفال والحجر الصحي غير المسبوق المفروض على نطاق 56 مليون شخص تقريباً، قد تكون جاءت بعد فوات الأوان، إلى جانب مخاوف أخرى أسوأ تتعلق بالنقص الحاد في المعدات والإمدادات الطبية.
وبحسب ما شياوي، وزير اللجنة الوطنية المعنية بالصحة في الصين، فإن ما يزيد من خطورة تسارع انتشار المرض عالمياً هو إمكانية نقل العدوى عن طريق الأشخاص الحاملين للفيروس دون أن تظهر عليهم الأعراض بعد، إذ إن انتقال العدوى دون ظهور أعراض بتلك الطريقة يجعل السيطرة على المرض أكثر صعوبة، لأن الأشخاص الذين يبدون أصحاء يسافرون ويختلطون مع الآخرين بشكل اعتيادي.
وقال ما شياوي، خلال مؤتمر صحفي عقده في بكين، الأحد 26 يناير/كانون الثاني: "الوباء يدخل الآن مرحلة خطيرة جداً ومعقدة. يبدو أنه سوف يستمر لبعض الوقت، وقد يزداد عدد الحالات المصابة".
حجر صحي غير مسبوق
ويقول الدكتور ويليام شافنر، خبير الأمراض المعدية في جامعة فاندربيلت، إن محاولات الصين لاحتواء انتشار المرض، التي تنطوي على إغلاق المدن الكبرى في مقاطعة هوبي، بما في ذلك عاصمتها ووهان التي يقطنها 11 مليون نسمة، تعد "تجربة صحية عامة على نطاق لم يُسبق تنفيذه من قبل". وأضاف: "من الناحية اللوجيستية، كان أمراً مذهلاً، ونُفّذ بسرعة كبيرة".
غير أن نجاح الإقفال في وقف انتشار الفيروس لا يزال محل نقاش وخلاف بين خبراء الصحة العامة والأوبئة. قال بعضهم إن الإقفال والحجر الصحي قد يساعد، من الناحية النظرية على الأقل، قال الدكتور توماس فريدن، المدير السابق لمراكز مكافحة الأمراض واتقائها: "أي شيء يزيد من الفصل والتباعد الاجتماعي قد يساعد على الحد من انتشار الفيروس. إذا نُفّذ بشكل صحيح، سوف يكون له تأثير إيجابي بكل تأكيد".
ولكن لم يسبق تجربة تنفيذ هذا العزل على مثل هذا النطاق من قبل في أي مكان بالعالم، ويقول الدكتور هاورد ماركيل، أستاذ تاريخ الطب بجامعة ميشيغان ومؤلف كتاب Quarantine: "وضع حواجز عازلة حول مدن بهذه المساحة وهذا التعداد السكاني أمر غير مسبوق".
فالحفاظ على حالة العزل والإقفال سوف يواجه تحديات هائلة، بدءاً من توفير الطعام والوقود ووصولاً إلى الرعاية الطبية لملايين الأشخاص. قال الدكتور شافنر: "من الصعب للغاية تنفيذ حجر صحي على هذا النطاق بفعالية، ومن الصعب أيضاً تقييم مدى تلك الفعالية".
لماذا قد لا يكون العزل فعالاً؟
شكك خبراء آخرون في أن القيود المفروضة على السفر قد تثبت فعاليتها بسبب تأخر فرضها كثيراً وأن الحواجز ستكون قابلة للاختراق. وذكر عمدة مدينة ووهان، زو شيانوانغ، أن خمسة ملايين شخص غادروا المدينة قبل منع السفر من المدينة. ويعد ذلك إجابة واضحة على الأسئلة والشكوك المتعلقة بالاستجابة المتأخرة للحكومة الصينية.
وقال لورانس غوستين، أستاذ القانون بجامعة جورجتاون ومدير مركز التعاون المعني بقانون الصحة الوطني والعالمي التابع لمنظمة الصحة العالمية: "لا يمكنك حبس أو تقييد جرثومة، سوف تنتشر العدوى الجديدة. دائماً تجد الفيروسات طريقها للانتشار".
وفي الصين، حملت نهاية الأسبوع تحذيرات جديدة بشأن الفيروس الذي يعرف عنه الكثير حتى الآن، وبشأن ارتفاع حصيلة المصابين والوفيات. فقد وصل العدد الرسمي للحالات المؤكد إصابتها بالعدوى في أنحاء الصين إلى 2,744 مصاباً بحلول يوم الإثنين، 27 يناير/كانون الثاني، بعدما كان 1,975 حالة إصابة قبل 24 ساعة فقط.
ومن بين حالات الوفيات الأخيرة المُعلن عنها جراء الإصابة بفيروس كورونا رجل يبلغ من العمر 88 عاماً في شنغهاي، وهي حالة الوفاة الأولى التي يُبلغ عنها في هذه المدينة التجارية الكبيرة، ومن المرجح أن تزيد من مخاوف انتشار المرض بشكل كبير، وظهرت حالات إصابة جديدة في هونغ كونغ، وتايوان، ومقاطعة أورانج في كاليفورنيا. بينما أُبلغ من قبل عن حالات بالفعل في تايلاند وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ومناطق أخرى.
ويُقدّر علماء الأوبئة في كلية لندن الإمبراطورية أن كل حالة مصابة تسببت في عدوى ما بين 1.5 و3.5 أشخاص آخرين في المتوسط في المراحل الأولى من الأزمة، علماً بأن معّدل عدوى الإنفلونزا الموسمية حوالي 1.3 شخص.
ومن الممكن أن ينخفض هذا الرقم إذا اتخذت السلطات تدابير أكثر صرامة لاحتواء انتشار المرض. ولكن إذا تقاعست، سوف تزداد أعداد المصابين بشكل حاد، وفي ووهان، المدينة التي تعد مركز تفشي المرض، كانت الشوارع خاوية بشكل مخيف بسبب أوامر السلطات للسكان بعدم قيادة السيارات، مما أجبر بعضهم على السير إلى المستشفيات. وقال عمدة المدينة إنه من المرجح أن يؤكد مسؤولو الصحة إصابة 1,000 حالة أخرى في المدينة. وقال إن التقديرات تستند إلى فرضية ظهور نصف نتائج فحص الحالات التي يُشتبه إصابتها بفيروس كورونا في المدينة، وهي ما يقرب من 3,000 حالة، بنتائج إيجابية.
ووعد الزعيم الصيني، شي جين بينغ، بإجراءات صارمة لاحتواء الفيروس، وفي إشارة إلى خطورة وعمق الأزمة، وتعطيلها المحتمل للنمو الصيني على المدى القصير، أعلنت الحكومة يوم الإثنين، 27 يناير/كانون الثاني تمديد العطلة السنوية لاحتفالات العام القمري الجديد لأكثر من الأسبوع المعتاد. حتى الآن، سوف يحصل معظم العاملين على ثلاثة أيام إضافية ليعودوا إلى أعمالهم يوم 3 فبراير/شباط.
العدوى انتشرت خارج الصين
حتى قبل قرار الحكومة، أعلنت مدينة سوجو، المدينة الصناعية الكبيرة في شرق الصين، أن المصانع ينبغي ألا تعود إلى العمل قبل 8 فبراير/شباط، وحظرت الحكومة الوطنية الأحد 26 يناير/كانون الثاني، أيضاً تجارة الحيوانات البرية حتى ينتهي الوباء. إذ لفت تفشي المرض انتباهاً جديداً لأسواق الحيوانات في الصين، حيث ارتبط بيع الحيوانات الغريبة بمخاطر انتشار الوباء.
وفي هونغ كونغ، التي تعرضت لتفشّي فيروس سارس في 2003، مما أسفر عن مقتل حوالي 300 شخص، وهو عدد أكثر من أي مدينة أخرى في العالم، فتتزايد مخاوف انتشار عدوى فيروس كورونا. فقد قالت الحكومة أمس الأحد إنها سوف تمنع سكان مقاطعة هوبي والأشخاص الذين وجدوا فيها خلال الـ14 يوماً الماضية من دخول هونغ كونغ حتى إشعار آخر.
وتأكدت إصابة ست حالات جديدة بفيروس كورونا الجديد في هونغ كونغ، التي شهدت قبل شهور مظاهرات كبيرة مناهضة للحكومة، وأشار مسؤولو الصحة في الولايات المتحدة، فيما يمكن أن يعد تطوراً إيجابياً في وقف انتشار المرض، إلى "عدم وجود دليل واضح" على حدوث انتقال للمرض دون ظهور أعراض.
وقالت الدكتورة نانسي ميسونييه، مديرة المركز الوطني للتحصين والأمراض التنفسية في مركز السيطرة على الأمراض واتقائها، في بيان موجز الأحد: "ليس لدينا في مراكز السيطرة على الأمراض واتقائها أي دليل واضح على حدوث عدوى للمصابين قبل ظهور الأعراض، إننا نحقق بمنتهى الجدية في هذه الاحتمال".
التطويق غير المجدي
وقال بعض خبراء الصحة العالمية إن تركيز وموارد الصين لا ينبغي أن تُوجّه فقط لإغلاق المدن، ويعتقد الدكتور مايكل أوسترهولم، مدير مركز أبحاث وسياسات الأمراض المعدية بجامعة مينيسوتا، إن النهج الصيني في التعامل مع الأزمة قد يأتي "بنتائج عكسية" بسهولة، وقارنها بما أُطلق عليه "التطويقات الصحية" التي فرضت لإغلاق مناطق في غرب إفريقيا خلال انتشار وباء الإيبولا 2014-2016. تركت هذه التطويقات السكّان جوعى وأدّت إلى انتفاضات عنيفة. وتمكن الكثيرون من العثور على طرق للتسلل من حولها أو عبر الحدود.
وقال أوسترهولم: "كانت كارثة"، وأعرب الدكتور توم إينغليزبي، أخصائي الأمراض المعدية ومدير مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي، عن مخاوفه.
وقال الدكتور إينغليزبي: "إذا واصلت فرض الحجر الصحي على المزيد من الأماكن في الصين، سوف تبدأ في كسر التفاعل الاجتماعي الطبيعي والحركة الطبيعية للبضائع والأشخاص والإمدادات الطبية والطعام والأدوية. بنظرة إجمالية، قد يكون ضرر ذلك أكثر من فائدته في السيطرة على الأوبئة".
ويرى الدكتور إينغليزبي والدكتور أوسترهولم وغيرهما من خبراء الصحة العامة أن البديل يجب أن يتمثل في تركيز الصين بشكل أكبر على إجراءات الصحة العامة التقليدية التي نجحت في إيقاف تفشي الأمراض الأخرى، مثل تحديد ومراقبة الاحتكاك بين الأشخاص والتأكد من توفر الرعاية الطبية للجميع.
وبالرغم من مستويات التعبئة والاستعداد التي تتخذها الحكومة الصينية لمكافحة المرض التي تعد الأعلى من نوعها، يقع كثير من مهام منع انتشار العدوى على عاتق مسؤولي المحليات، الذين قد لا تكون لديهم الدراية اللازمة حول كيفية الاستجابة لمثل تلك الأزمات ولا يتبعون السياسات بشكل سليم.
على سبيل المثال، فوجئ ضباط الشرطة في مدينة ووهان، الأحد، بالقيود الجديدة المفروضة غير المفهومة على قيادة المركبات داخل حدود المدينة، وفي البداية، قالت سلطات المدينة إن معظم السيارات ينبغي أن تظل بعيدة عن الطريق، مع توفير أسطول من 6,000 سيارة أجرة تحت الطلب لتوصيل الطعام والأدوية. ثم قالت السلطات إن السائقين سوف يُخطرون عن طريق الرسائل النصية إن كان يتوجب عليهم الابتعاد عن الطرق. وبدا أنه لم يتسلم أحد أي رسائل نصية حول هذا الصدد أمس.
وقال أحد ضباط الشرطة: "وفقاً لما فهمته، بإمكانك قيادة سيارتك في محيط حيّك السكني إذا لم تتسلم رسالة نصية تخبرك خلاف ذلك. ولكن من الأفضل أن تتحقق من سلطات النقل أولاً"، وفي النهاية، ابتعد معظم السائقين عن الشوارع. ولكن مع مرور اليوم، غامر البعض بالنزول، وبدا أن الشرطة لم تحرّك ساكناً تجاه ذلك.
ارتأى بعض السكان أنه كان قراراً مستفزاً آخر يوضح التردد الذي يعاني منه مسؤولو مدينة ووهان، الذين يعتقد الكثيرون أنهم يتعاملون بشكل خاطئ مع الأزمة، وقال خبراء الصحة العامة إن قدرة الحكومة على الحفاظ على ثقة الشعب تعد عنصراً أساسياً وجوهرياً في نجاح أي حجر صحي، وإن تحقيق ذلك ليس سهلاً على الإطلاق.
وقال الدكتور إينغليزبي إن جهود الإقفال السابقة والأصغر نطاقاً بكثير، مثل إغلاق مجمع "أموي غاردنز" السكني في هونغ كونغ إبان تفشي فيروس سارس قبل 17 عاماً، أظهرت أن السكان قد يصبحون خائفين جداً ويفقدون ثقتهم في الحكومة.
وأضاف: "تحتاج إلى أشخاص لديهم استعداد لتقديم أنفسهم للفحص والتشخيص. إذا لم يفهموا ما تفعله الحكومة أو شعروا بطريقة ما بفقدان الثقة تجاه الحكومة، فسيكون (إعادة هذه الثقة) مسألة رئيسية أخرى يعيقها الحجر الصحي".
حتى الآن، يبدو أن القيود المفروضة على السكان في ووهان تلقى قبولاً من معظمهم، استناداً إلى ما أظهروه خلال الأيام الماضية من سلوك راقٍ عندما فرضت المدينة حظراً على السفر للخارج على الجميع باستثناء قليلين، ولكن ذلك السلوك قد يتغير إذا ارتفعت أسعار المواد الغذائية على سبيل المثال.
قال لي شياندو، مدير متقاعد لإحدى الشركات: "لا وقت الآن لتبادل الاتهامات. لم تتحل الحكومة المحلية بالصراحة في المعلومات ولم تتخذ إجراءات قوية بما يكفي. ولكننا نحتاج إلى تجاوز هذه الأزمة أولاً، ثم نوجّه اللوم إلى المخطئين".
وبالرغم من تعهّد الحكومة بإنشاء مستشفيين آخرين جديدين على الأقل بسعة أكثر من 1,000 سرير في ووهان خلال أيام قليلة، لا تزال مستشفيات المدينة القائمة تعاني من تكدس وازدحام المرضى، وهو ما لا يبشر بالخير في جهود إيقاف المرض.
فقد قال الدكتور أوسترهولم: "إذا كنت تريد إنشاء وسيلة الاختلاط المثالية لفيروس كورونا، فليس منك إلا أن تنشئ غرف طوارئ في ووهان في اللحظة الآنية".