صراع التحالفات.. الشرق الأوسط مُقدِم على استقطابات أكثر من أي وقت مضى، والبداية من ليبيا

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/22 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/22 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
قوات أمريكية تستعد للانتشار في الشرق الأوسط، نورث كارولاينا/ رويترز

بعد عقود من الاضطراب وعدم الاستقرار، تشهد منطقة الشرق الأوسط، والبلاد العربية منها خصوصاً، بداية مرحلة أكثر خطورة وأكثر حساسية لجهة ولادة محاور إقليمية، تستند إلى دول كبرى لها مصالح حيوية وأطماع اقتصادية في المنطقة، في ظل غياب العقل الاستراتيجي، وانسداد الفعل السياسي الديمقراطي، وتفشي حالة الفساد، واستمرار هيمنة العسكر وتغوّلهم، ودخول الدولة الوطنية مرحلة الإفلاس والتآكل، مع عجز واضح في العالم العربي عن إنتاج بدائل وطنية مقبولة.

كل ما سبق شكّل أسباباً كافية لعودة التظاهرات التي اندلعت في عدد من الدول العربية منذ عام 2011، وتشهدها الآن دول جديدة مثل العراق ولبنان والجزائر، بحضور ملحوظ لفئات الشباب الذين يبحثون عن مستقبل أفضل في أوطانهم، ويدفعون من أجل ذلك ثمناً غالياً.

جميع المؤشرات تدل على أن الشرق الأوسط ما زال بعيداً عن الاستقرار السياسي والاقتصادي، وأن حالة الفوضى والاضطراب المتزايدة ربما تنذر بصراعات أكثر دموية وأشد قسوة، وتُبقي أبواب المنطقة مُشرَعة أمام تدخلات أكثر حدة، على صعيد الحالتين السورية والليبية.

الحالة السورية

الاستقطاب الدولي والإقليمي، والدعم المباشر وغير المباشر لنظام الأسد لمنع انهياره، أدى إلى غياب الحل السياسي في سوريا.

قوى كبرى مثل أمريكا وروسيا، وقوى إقليمية ذهبت لجهة إدارة مصالحها في سوريا عبر تفاهمات بينية دون التفات لمصالح السوريين، الذين تلخص حراكهم في الكرامة والعيش الحر، والمواطنة الكريمة، والعدالة.

عودة سوريا للجامعة العربية النظام السوري

وعكس الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون من أجل تحقيق أهداف ثورتهم، قساوة دول الهيمنة والنفوذ التي جعلت مصالحها مقدمة على حقوق الشعوب، ولم تتورع عن استخدامها وقوداً لصراعاتها. ويشكل النموذجان الإيراني والروسي المثال الأبرز لذلك، حيث تدخلا في سوريا باستخدام الميليشيا والقوة المفرطة بدعم من النظام، وانتهيا إلى تغوّل وتغلغل في مفاصل الدولة.

ومن أجل تثبيت نفوذهما، سعت كل من روسيا وإيران إلى إبرام عقود واتفاقات اقتصادية وعسكرية طويلة المدى مع النظام، بهدف الاستحواذ والسيطرة على موانئ وقطاعات اقتصادية حيوية وقواعد عسكرية، من خلال اتفاقات تصل مدتها 49 عاماً، قابلة للتجديد.

وإذا كان النزاع العسكري في سوريا تمت إدارته وفق صراع أمريكي ـ روسي استراتيجي الأبعاد، شاركت فيه قوى إقليمية مؤثرة، فإن الحل والمخرج السياسي منوط بتفاهمات تلك الأطراف، وهو ما لم تتولد ظروفه وتتضح معالمه بعد. وهو مرتبط بشكل أساسي بانتقال قوى الهيمنة والنفوذ للاشتباك في ساحات أخرى بالمنطقة العربية، على صلة بتطورات المنطقة ورسم مستقبلها.

الحالة الليبية

مرت الأزمة الليبية بمساقات مشابهة لأختها السورية، من ناحية استعصاء الحل السياسي بفعل التدخل، وتعزيز الانقسام الداخلي بدعم إقليمي ورضا خارجي، ولعبت الأمم المتحدة دور شاهد زور لجهة إدارة الأزمة وليس حلها، وإيجاد توازن بين أطراف النزاع المحلية يحولُ دون قدرتها على التفاهم.

وساهمت دول الجوار ودول أوروبية في منع نشوء نظام وطني في ليبيا، وعملت على تعزيز الانقسامات المناطقية والقبلية، والإبقاء على الحالة الميليشياوية بهدف إجهاض مفهوم الدولة المركزية المستقرة، فيما شكل النفط الوفير عنصر استقطاب للتدخلات المتعددة، وعندما أخفقت تلك الأطراف في حسم النزاع لمصلحتها، استدعت التدخل الدولي المباشر، كما حصل في تطور الأشهر الماضية، بدخول واشنطن وموسكو بشكل علني وصريح على خط الأزمة الليبية.

ويمثل دمج ليبيا في صراع المحاور، ومحاولات التحالف الذي تقوده مصر لإسقاط حكومة طرابلس، المعترف بها دولياً، عبر دعم التمرد العسكري للواء المتقاعد خليفة حفتر، مرحلة جديدة ستدفع ليبيا نحو مزيد من التوتر، وتبقي التسوية السياسية رهن انتظار التفاهمات الدولية غير الناجزة، وتزيد من مستوى السخونة والاضطراب في المنطقة العربية.

كما كان متوقعاً، لم تنجح قمة برلين في إطلاق حوار جدي ودائم بين طرفي النزاع الليبي، حيث اكتفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بالحديث عن "خطوة صغيرة إلى الأمام"، وسط الإقرار بأنه لا يزال هناك عمل كثير ينبغي إنجازه قبل التوصل إلى السلام.

حالات أخرى

تشكل أوضاع كل من العراق ولبنان والجزائر وتونس والسودان واليمن، والنزاع الخليجي البيني، عناصر مربكة للوضع العربي والشرق الأوسطي عموماً.

في العراق، دخلت البلاد مرحلة جديدة من التفكك الداخلي، مع اندلاع انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، والتي قادها المجتمع المدني متحدياً القوى السياسية المدعومة من إيران، والمتنفذة منذ سيطرتها على مفاصل الدولة، وأظهرت التطورات عجز إيران عن إيجاد حل مقبول في العراق، مع تنامي حالة السخط الشعبي على سياساتها والقوى الخاضعة لها، ولجوئها إلى القوة المفرطة، في استنساخ واضح للحالة السورية، ما يبقي الأزمة في طور التفاعل ويستدعي تدخلاً دولياً، في ظل الفراغ الحكومي، وتلكؤ مجلس النواب في إقرار نظام انتخابي يحقق المطالب الشعبية، وتردد الرئيس في لعب دور فاعل يحد من تطور الأزمة سلبياً.

في لبنان، ورغم أنه محدود من ناحية المساحة والثروة والتأثير، فإنه استخدم في كثير من الصراعات، كإحدى أدوات التغيير في المنظومات الإقليمية بالنظر إلى موقعه الجغرافي الحساس، وإطلالته المهمة على حوض المتوسط، وجواره للدولة العبرية، وصلته بالقضية الفلسطينية.

ويعكس إخفاق النخبة الحاكمة في إدارة الدولة دون استناد إلى قوى خارجية، وندرة الموارد في ظل تفشي الفساد، ونزيف الكفاءات الذي يعانيه لبنان باستمرار، مؤشراً على أنه سيبقى أسير أطماع وصراعات قوى النفوذ.

ما شكل الإجراءات العقابية التي تحذر بها أمريكا الحزب إذا ما استغل نفوذه في الحكومة اللبنانية؟

وتظهر حالة الانقسام صعوبة التوصل إلى بنية متماسكة للدولة اللبنانية، مع بقاء منظومة المحاصصة الراهنة بين الطوائف والقوى السياسية الممثلة لها، ما يجعل لبنان ساحة صراع مرتقبة، رغم الحراك الشعبي الضاغط باتجاه إعادة بناء المنظومة السياسية التي تجذرت مع اتفاق الطائف.

في الجزائر، وبينما أُنجز الاستحقاق الانتخابي الرئاسي وسط جدل داخلي كبير، فإن شعور عدم الرضا ما زال سائداً وسط الفئات الشابة، التي تشعر أن السلطة لم تستجب بعد لمطالبها، وأنها تحاول الالتفاف عليها من خلال إعادة إنتـاج ذاتها بأشكال مختلفة، ولذا يتوقع أن يستمر المشهد الجزائري بالتفاعل، مع استمرار الاحتجاجات المطلبية، وإصرار المتظاهرين على تغييرات ملموسة في النظام السياسي، ما يجعل فترة الرئيس المنتخب عبدالمجيد تبون، أقرب إلى المرحلة الانتقالية، ومشوبة بالمصاعب والتحديات.

في تونس، ما زالت القوى السياسية تعيش جدالات بشأن ولادة الحكومة الجديدة، ويغلفها الوضع الاقتصادي الحرج، الذي يمثل أهم تحدّ أمام التركيبة السياسية غير المتجانسة، ويبدو أن إيجاد خطوط تفاهم وتنسيق بين ثلاثي السلطة، الرئيس ورئيس الحكومة المكلف ورئيس البرلمان، سيشكل نوعاً من الضمان لحماية التجربة الديمقراطية من الانزلاق نحو نزاعات بينية، أو ترك الباب مشرعاً أمام تدخلات خارجية آخذة في التزايد بمنطقة المغرب العربي.

في اليمن، يتأرجح الوضع بين صراع محتدم بعيد عن الحسم، وإرادة سياسية غير متوافرة للحل، ما يعني أن إنهاء النزاع منوط بتفاهمات إقليمية، أو بانحسار الدور الإيراني نتيجة المتاعب التي يواجهها في الإمساك بنفوذه خارج حدود إيران، وهو ما يجعل عام 2020 مهماً لجهة التطورات التي قد يشهدها على أكثر من صعيد.

في السودان، يتواصل تلمُّس طريق الخروج من العزلة في ظل وعود أمريكية بالدعم، فيما بدأت التفاعلات الداخلية تزداد مع إجراءات الحكومة بحل النقابات بزعم صلتها بالنظام السابق، ورفع الدعم الذي قد يدفع بفئات متضررة من الشعب إلى الشارع مرة أخرى، وهو ما قد يعطي الجيش، الشريك الحالي في السلطة، الفرصة للانقضاض مرة أخرى على دفة الحكم، بسبب عجز النخبة السياسية عن تقديم الحلول، وخاصة الاقتصادية والمعيشية منها.

محاور جديدة في الشرق الأوسط

يبدو الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بضمنه، متجهاً نحو تشكل محورين أساسيين، ما يعني أن المنطقة مقبلة على استقطاب أكثر حدية في 2020، وقد يتطور إلى نزاعات مسلحة تشارك فيها الأدوات والأطراف المساعدة، وتمولها دول إقليمية رئيسية، تديرها أو تستفيد منها دول كبرى.

المحور الأول: تنخرط فيه، حتى الآن، دول رئيسية مثل مصر والسعودية والإمارات، ويحوز رضا ودعم دول أخرى، ويحاول التمدد في الإقليم باستخدام الدعم العسكري والاقتصادي، وإغراء قيادات عسكرية وقوى سياسية، في محاولة للإمساك بأدوات النفوذ في دولها، وهو ما تم بالسودان في جزء منه، وما يجري في ليبيا، حيث يقدر ما قدمته دول المحور لحفتر بنحو 10 مليارات دولار، يتم اقتطاعها من وديعة تعود لنظام معمر القذافي، تبلغ 60 مليار دولار، تم الاحتفاظ بها في دولة خليجية.

وقد وسع المحور تحركه بتشكيل منتدى غاز شرق المتوسط، وانضمام كل من اليونان وقبرص الرومية وإسرائيل إليه، ويسعى أيضاً إلى تأدية دور مختلف في سوريا، من خلال أطراف في النظام، واللعب على الملف الكردي.

ويواجه المحور المذكور تحديات كبيرة، من بينها عدم التجانس، ومحدودية القدرات العسكرية القادرة على الانخراط في النزاعات، حيث لا يبدو الجيش المصري متحفزاً للعب هذا الدور، وعدم الرضا الأمريكي عما يقوم به في مناطق مثل ليبيا، ما يدفعه أحياناً للاستعاضة بدور روسي له مصالحه وأطماعه.

والأهم من ذلك، عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية لقرارات التدخل والانتشار، ما يجعل التحركات الراهنة عرضة للانتكاس والتغيّر وفق معطيات المحاور الأخرى والمصالح المتعارضة، والتداعيات التي تشهدها مسارح العمليات.

أما المحور الثاني فهو عبارة عن تحالف تتزعمه تركيا، التي تجد نفسها أكثر فأكثر في مواجهة إقليمية حادة مع دول وأطراف قلقة من الطموحات المتصاعدة للقيادة التركية، وتشارك في التحالف دول مثل قطر، فيما يحتفظ بعلاقات وثيقة مع المحيط الإسلامي ممثلاً في ماليزيا وباكستان وإندونيسيا، وبدأ التمدد في المغرب العربي عبر الاتفاق التركي ـ الليبي، والانفتاح على تونس، والعلاقات التي تم بناؤها سابقاً مع المملكة المغربية.

ولدى التحالف أيضاً تمدد في إفريقيا وعلاقات اقتصادية مهمة، من بينها الصومال.

ويتوقع أن تنضم دول وقوى مؤثرة إلى التحالف مع مرور الوقت، إذا نجح في إثبات ذاته لاعباً أساسياً في خضم التحركات الدولية الرامية إلى إعادة بناء خريطة النفوذ في الشرق الأوسط.

الخلاصة

في خضم تشكّل المحاور بالمنطقة، وانخراط مزيد من الأطراف فيها، يبدو السؤال المهم عن دور الأطراف الدولية، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا، والتي يتوقع أن تلعب دوراً مهماً لجهة الانحياز إلى أي من المحورين، مع وجود أطماع واضحة للأطراف الدولية في منطقة الشرق الأوسط، ذات الثروات الطبيعية الكبيرة، والموقع الاستراتيجي الحساس.

ومن اللافت أن أغلب تلك الأطراف تحتفظ بعلاقات حيوية مع الدول الإقليمية المتصارعة، وتستفيد من نزاعاتها، وتسعى إلى التمدد على حسابها، ما يجعل الشرق الأوسط عرضة لصراعات أكثر حدة في المستقبل القريب، مرفقة بتداخلات دولية هدفها التحكم والسيطرة، غير آبهة بالحل أو التسوية.

وقد يعرض ذلك دول المنطقة لمزيد من الانهيارات والأزمات الاقتصادية، ويدفع بكتل سكانية كبيرة للهجرة، دون أفق واضح للاستقرار في منطقة أنهكتها الحروب والنزاعات عقوداً طويلة.

علامات: