رغم أن ما يُعرف باسم "صفقة القرن" للسلام في الشرق الأوسط ماتت قبل أن تولد بنظر الكثيرين، يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يخطط لإعلان تفاصيلها خلال أسابيع، والأمر لا يتعلق بموقف ترامب الصعب داخلياً بقدر ما هو محاولة لإنقاذ حليفه في تل أبيب، فما هي القصة؟
موقع المونيتور الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "من سيكون الطرف الرابح إذا أعلن ترامب تفاصيل خطته لإرساء السلام قبل الانتخابات الإسرائيلية؟"، ألقى فيه الضوء على الخطوة التي يراها خصوم نتنياهو تدخلاً أمريكياً في الانتخابات.
ماذا حدث؟
بينما استنتج الكثيرون منذ فترةٍ طويلة أن "صفقة القرن" التي وضعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ماتت، عادت إلى الحياة في 13 يناير/كانون الثاني الجاري حين ظهرت تلميحات في واشنطن إلى إمكانية إعلانها عشية انتخابات الكنيست الإسرائيلي الثالثة والعشرين المقرر إقامتها في 2 مارس/آذار المقبل. ونظراً إلى صمت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حيال تلك التكهُّنات، على عكس موقف بيني غانتس -رئيس حزب أزرق وأبيض- الذي اشتكى من أن إعلان الخطة في هذا التوقيت سيُمثِّل تدخلاً في الشؤون الداخلية لإسرائيل، يعتقد البعض أن ذلك جرى بالتنسيق بين نتنياهو وترامب.
أو ربما سيكون هناك ضوءٌ أخضر أمريكي لإسرائيل كي تضم وادي الأردن، وربما ضوء أخضر لضم جميع أراضي المستوطنات في الضفة الغربية، على أي حال، هناك شيءٌ من الممكن أن يُظهِر أن إسرائيل لن تستطيع الحصول على تلك الهدايا من الإدارة الأمريكية إلا تحت قيادة نتنياهو.
ما خلفية تلك التصريحات؟
ونظراً إلى أن تلميحات الإدارة الأمريكية بشأن "الإعلان الوشيك" للخطة أصبحت حدثاً روتينياً تقريباً، يمكننا أن نفترض أن الإدارة ستؤجِّل الكشف عن خطتها هذه المرة أيضاً (هذا إن كانت هناك خطةٌ كهذه بالفعل)، لا سيما أن الانتخابات الإسرائيلية ستجري بعد أسابيع فقط، ولكن حتى لو قرر الرئيس الأمريكي مفاجأتنا هذه المرة، فهناك شكوكٌ حول أن هذه الخطوة ستكون العصا السحرية التي ستمنح نتنياهو الأغلبية التي لم يفز بها في أول جولتين من الانتخابات في العام الماضي 2019.
وتبدو الخطوط العريضة للخطة واضحة: إذ سيطرح ترامب خطةً لا تتضمَّن إقامة دولة فلسطينية، ولا تقسيم القدس الشرقية، ولا إخلاء المستوطنات، ولا استيعاب أيِّ لاجئ فلسطيني، ولا عودة إلى حدود 1967. ثم ستأتي خطواتٌ أخرى أوضح بعد طرح الخطة: فالرئيس الفلسطيني محمود عباس سيستشيط غضباً، ويرفضها رفضاً قاطعاً باشمئزاز، بينما سيتفحصها نتنياهو بعمق ويصفها بأنها أساسٌ صالح لمفاوضاتٍ حقيقية، ثم يشكره ترامب على استعداده لتقديم تنازلات، وفي ضوء تصميم الفلسطينيين على عدم استغلال الفرصة، فسيسمح لنتنياهو بضمِّ كل ما يريده. ومن ثَمَّ، سينبهر الشعب الإسرائيلي بسحر نتنياهو وسيتوجه إلى صناديق الاقتراع من أجل منحه أربع سنوات أخرى في منصب رئيس الوزراء، بالرغم من اتهامه بالرشوة والاحتيال وخيانة الثقة في لائحة اتهاماتٍ موجودة على طاولة رئيس الكنيست يولي إدلشتاين.
هل يمكن فعلاً أن ينجو نتنياهو؟
وإذا كان ما سيفعله ترامب في الواقع هو "قص ولصق" برنامج الليكود الانتخابي (الذي لم يُعلَن كذلك حتى الآن)، يمكن لنتنياهو أن يحظى بدعم قاعدته على حساب الأحزاب اليمينية بعدما تمكَّن من توحيدها. إذ اتحدت جميع الأحزاب اليمينية في برنامجٍ انتخابي واحد باستثناء حزب عوتسما يهوديت.
ومع ذلك، من الصعب افتراض أن هذا هو ما سيفعله ترامب. فمن المُرجَّح جداً أنه إذا فعل هذا الشيء المستبعد وأعلن خطته في آخر لحظةٍ من الحملة الانتخابية، فسيشمل ذلك نوعاً من التنازل عن بعض الأراضي. وحينئذٍ، ستنتقد الأحزاب اليمينية المتطرفة ترامب، وتزعم أنه ضلَّل نتنياهو، وتظاهر كذباً بأنه صديق إسرائيل ثم يريد الآن من إسرائيل أن تُقسِّم الأرض. وهذا الصراع -الذي من شأنه أن يُظهِر نتنياهو على أنه تابعٌ خائب تعرَّض للخيانة من سيده- يمكن أن يعزز حظوظ اليمين المتطرف على حساب الليكود، ويزيد توسيع الفجوة بين حزب أزرق وأبيض، الذي يتصدر استطلاعات الرأي، وحزب نتنياهو. وحينئذٍ، سيجد نتنياهو صعوبة في الموافقة علانيةً على "صفقة القرن"، وهذا قد يضعه في موقفٍ لا يريده على الإطلاق: صراعٌ مع ترامب.
غانتس أيضاً يرتكب الأخطاء
وصحيحٌ أن موقف غانتس ضد احتمالية إعلان الخطة الآن مُبرَّر، ولكن ليس من الواضح أنه حكيم. فبدلاً من الاكتفاء برفض الخطة في التوقيت الحالي، كان بإمكان غانتس أن يوضح أنه لا يخشى خطة سلام، لا سيما إذا كانت أمريكية. وإذا خلُص إلى أنها تتفق مع المصلحة الوطنية الإسرائيلية، كما يراها، فكان بإمكانه أن يُرحِّب بها بالفعل ويعتبرها منصةً صالحة للتفاوض مع القيادة الفلسطينية. أما إذا كان يعتقد أن الخطة تتضمَّن فِخاخاً لإسرائيل، فبإمكانه معارضتها سواءٌ وافق عليها نتنياهو أم لا. ومن الناحية النظرية، وربما ليس من الناحية النظرية فقط، يمكن أن نشهد موقفاً يجد فيه نتنياهو نفسه غير موافق على الخطة بينما يشيد بها غانتس، وبذلك، سيجد ترامب نفسه يشيد بمُنافِس نتنياهو، مع أنه كان يعتزم عرقلته.
غير أنَّ هذه ليست لعبة سياسية بين حزبي أزرق وأبيض والليكود فقط، بل شارك فيها الرئيس الأمريكي كذلك حين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وأصر على أنَّ المستوطنات لا تخالف القانون وليست عقبة أمام السلام. ولكن في مكانٍ ما في رام الله، هناك جانبٌ فلسطيني كذلك يجب على إسرائيل أن تتصالح معه؛ فهي في النهاية لا تتصالح مع أمريكا نفسها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الخطة -التي اتضح أنَّها مجرد أداة قُدِّمت لنتنياهو لإثبات أنَّ إسرائيل ليس لها شريك- تُمثِّل إشكالية كبيرة، ومن ثَمَّ، فحتى إذا قال غانتس إنَّه يقبلها، بغض النظر عن موقف نتنياهو، بينما تمسَّك عباس برفضها، فسيجد غانتس نفسه واقعاً في موقفٍ أشبه بالفخ. وسيشعر كذلك بالحاجة إلى السير على خُطى نتنياهو والقول إنَّ الجانب الفلسطيني ليس شريكاً. لكنَّه لا يستطيع أن يسمح لنفسه بفعل ذلك، لا سيما إذا كان يشعر هو الآخر بأنَّ الخطة ليس بها أساسٌ حقيقي يتعلق به الفلسطينيون.
خلاصة القول إنَّ إعلان خطة دبلوماسية أمريكية قبل بضعة أسابيع من إجراء الانتخابات في إسرائيل هو أمر ينبغي عدم فعله، ويجب على إدارة ترامب أن تفهم هذا وتتراجع عن مثل هذه النية، إذا كانت موجودة بالفعل. ولكن إذا أعلِنَت الخطة رغم ذلك، يجب على غانتس أن يقول إنَّه سعيد بالمبادرة الأمريكية، مع التشديد على أنَّه لن يكون مستعداً لمناقشتها بجدية إلَّا بعد فوزه بانتخابات رئاسة الوزراء، وأنَّ أحد العناصر التي سيراعيها حينئذٍ هو الحاجة إلى إنشاء أساسٍ مشترك للمحادثات مع الجانب الفلسطيني. ونظراً إلى أنَّ تضاؤل احتمالات تسبُّب إعلان الخطة في عودة نتنياهو إلى مكانته ونفوذه السابقين، فينبغي لغانتس ألا يشن معركة مفتوحة ضد إعلانها.