كان الجنرال الليبي خليفة حفتر يتوقع أن يستقبله الرئيس الروسي فلاديمير في الكرملين، لكنَّه ظلَّ حبيساً في مبنى استقبال تابع لوزارة الخارجية الروسية في انتظار الرئيس الروسي. وفي النهاية فقد القائد العسكري الليبي صبره وخرج من المبنى، وبعد ذلك بساعات غادر موسكو في طائرة من طراز داسو فالكون، متّجهاً إلى العاصمة الأردنية عَمَّان، كما تقول وكالة Bloomberg الأمريكية.
تجاهل واضح
وبحسب بلومبيرغ، يبدو أنَّ بوتين، حين دعا القائدين الليبيين السراج وحفتر للتوقيع على هدنة يوم الإثنين الماضي، 13 يناير/كانون الثاني، لم يكن يضع في حسبانه العناد الشديد الذي يتسم به حفتر، البالغ من العمر 76 عاماً. والأدهى من ذلك أنَّ شعور حفتر بالجرأة على تجاهل لقاء بوتين يوضِّح أنَّ الحرب الأهلية في ليبيا صارت غير قابلة للتنبؤ إلى حدٍّ كبير.
غير أنَّ هذا الرحيل الغاضب لحفتر ليس أوَّل تطور مثير للارتباك قبل مؤتمر السلام الليبي المزمع عقده في برلين يوم الأحد المقبل، 19 يناير/كانون الثاني. ففي الأسبوع الماضي، انتهت محاولة إيطاليا -التي كانت تستعمر ليبيا في الماضي- للتوسط من أجل إقامة لقاء بين حفتر وفايز السراج، رئيس الحكومة الليبية المُعترف بها من الأمم المتحدة، بتراجُع السراج في اللحظة الأخيرة عن حضور اللقاء، والعودة إلى الوطن، لذا لا يسير شيء كما هو مُخطَّط له، أو أنَّ الأشياء ليست كما تبدو.
يُذكَر أنَّ حفتر، المتمركز في شرق ليبيا، بدأ في أبريل/نيسان الماضي، الجولة الأحدث في الحرب الدائرة بهجومٍ على العاصمة الليبية طرابلس للإطاحة بحكومة السراج المعترف بها دولياً. وقد أصبح الآن الطرف الذي يعيق المراكب السائرة بعدما وقَّع منافسوه -تحت ضغطٍ من تركيا التي ترعاهم- على اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو. وقد قال حفتر إنَّه سيُفكِّر في التوقيع على الاتفاق، ولكن قبل أن يتضح تجاهله التام لبوتين كان قد رحل بالفعل.
بوتين لن ينسى ما فعله حفتر
في هذا الصدد، قال كيريل سيميونوف، الخبير المتخصص في دراسة الوضع الليبي في مجلس الشؤون الدولية الروسي الذي أسَّسه الكرملين: "لن ينسى بوتين ذلك. لقد فرَّ حفتر حين كان من المتوقع أن يوقع الوثيقة، وهذا التصرُّف أظهر عدم احترام تجاه مستضيفه، ويمثل صفعةً لسمعة روسيا".
ويُمكن القول إنَّ خلفية هذا الوضع برمته تتمثَّل في وجود قوات روسية وأخرى تركية داخل سوريا منذ عدة سنوات، حيث تشهد كل من روسيا وتركيا صعوداً هائلاً في نفوذها في المنطقة. ومع تراجع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية أصبحت أنقرة وموسكو طرفين فاعلين رئيسيين في لعبة الشطرنج الجيوسياسي التي تشهد صداقاتٍ وعداوات متناوبة بينهما.
ويمكن كذلك لمنافع إبرام اتفاق سلام في ليبيا، أن تتضمَّن إحياء عقود مشروعاتٍ بمليارات الدولارات، تم التخلِّي عنها في الفوضى التي عمَّت البلاد بعد إطاحة العقيد الراحل معمر القذافي في عام 2011.
انتكاسة للكرملين
غير أنَّ مساعي الكرملين لإحلال السلام تعرَّضت لانتكاسة انسحاب حفتر من المفاوضات، بعد أقل من أسبوعٍ واحد من تحرُّك بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتكون لهما اليد العليا في إنهاء النزاع. فيما يقول مسؤولون روس إنَّهم ما زالوا متفائلين تفاؤلاً حذراً، بشأن عودة حفتر إلى طاولة المفاوضات في المستقبل.
ومع ذلك، وجدت تركيا وروسيا نفسهما أمام عقبة تضارب المصالح الهائل في ليبيا، تماماً مثل إيطاليا وفرنسا والدول الأخرى التي تحاول إحلال السلام هناك.
لا عَجَب من تصرف حفتر
قال بعض الدبلوماسيين الغربيين والعرب الذين عملوا على حل القضية الليبية طوال سنوات، إنَّهم لم يُفاجأوا بتصرُّف حفتر. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حفتر شنَّ هجومه على طرابلس خلال زيارة أجراها الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، وقبل إحدى جولات محادثات السلام المُقرَّرة. والسؤال هو: هل بوتين وأردوغان سيسمحان له بالإفلات بفعلته.
يُذكَر أنَّ حفتر بدأ هجومه على طرابلس بدعمٍ من مصر والإمارات العربية المتحدة، اللتين رأتاه حليفاً مزعجاً، لكنَّه أفضل رهان على قائدٍ قوي في الدولة المضطربة الغنية بالنفط في شمال إفريقيا المضطربة. ثم تحوَّل الهجوم إلى حربٍ بالوكالة، إذ أرسلت روسيا مرتزقة روسيين للقتال في صفوف حفتر، بينما أرسلت تركيا دعماً عسكرياً لحكومة السراج في طرابلس.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ أحد المسؤولين الروس قال لوكالة Bloomberg الأمريكية، في وقتٍ سابق من العام الجاري 2020، إنَّها مجرد مسألة وقت قبل أن نشهد إبرام اتفاقٍ بين بوتين وأردوغان لتأمين مصالحهما -مثلما فعلا في سوريا- ثم إجبار الأطراف التي يدعمونها على توقيع هدنة.
وبالفعل جاءت تلك اللحظة في 8 يناير/كانون الثاني الجاري. فبعد 72 ساعة من تهديد تركيا بتكثيف دعمها لحكومة طرابلس بإرسال عددٍ كبير من القوات التركية، التقى بوتين وأردوغان في إسطنبول وطالبا بوقف إطلاق النار.
مصر والإمارات رفضتا اتفاق موسكو
لم يُكلِّف أيٌّ من الجانبين نفسَه عناء التشاور سلفاً مع الليبيين أو مصر أو الأمم المتحدة، التي تعمل على وقف إطلاق النار منذ أبريل/نيسان، حسبما ذكر مسؤولون مطلعون على المحادثات لوكالة Bloomberg.
وقال مسؤولان إنَّ أحد المسؤولين البارزين في حكومة طرابلس استقل طائرةً في عُجالة وسافر إلى إسطنبول، لمحاولة فهم ما حدث للتو. ثم اتصل بوتين بقائدي مصر والإمارات، التي تدعم حفتر بقواتها الجوية، هاتفياً. وأشار مسؤولٌ إلى أنَّ مصر والإمارات لم تكونا موافقتين على الاتفاق، الذي تعتقدان أنَّه يُقِّدم لتركيا تنازلاتٍ أكثر من اللازم.
وقال مسؤول تركي مُطَّلع على اجتماع موسكو، إنَّ وقف إطلاق النار يمكن أن يسمح لتركيا وروسيا بالتعاون في استكشاف النفط والغاز، وسيحمي اتفاقيةً بحرية أبرمتها تركيا مع حكومة طرابلس مقابل تقديم الدعم العسكري. وتجدر الإشارة إلى أنَّ اليونان ودولاً أوروبية أخرى عارضت هذه الاتفاقية، خوفاً من أن تسمح لتركيا وروسيا بانتهاك حقوق الأطراف الأخرى في مياه البحر المتوسط.