"سنحرص على حُسن الجوار والتعاون الدولي وعدم التدخل في شؤون الغير"، كانت هذه الكلمات، أبرز ما جاء في خطاب سُلطان عُمان الجديد هيثم بن طارق آل سعيد، بعد تأديته للقسم كتاسع حاكم لعُمان، بعد أن أوصى بذلك سلفه الراحل، السلطان قابوس بن سعيد، الذي توفي عن عمر يناهز 79 عاماً، فجر السبت 11 يناير/كانون الثاني 2020، تاركاً خلفه سلطنته التي أرسى مبادئ خاصة بها، جعلتها استثناءً في منطقة ملتهبة لا تتوقف فيها الصراعات والحروب.
الفلسفة العُمانية الاستثنائية
لعقود طويلة، تمكَّنت عُمان من البقاء في منأى عن الصراعات والأزمات المحيطة بها، إذ تتشارك السلطنة حدودَها مع اليمن، وهو بلد في حالة حرب، فضلاً عن أنَّها تقع جغرافياً بين خَصمين قويَّين: المملكة العربية السعودية، وإيران. أمَّا خليج عُمان فهو جزء من طريق رئيسي لشحن النفط في العالم، والمكان الذي تعرَّضت فيه ناقلات نفط للهجوم العام الماضي.
وعلى النقيض من محيطها، برزت هذه السلطنة الصغيرة، التي يبلغ إجمالي عدد سكّانها 4.6 مليون نسمة، باعتبارها وسيطاً هادئاً للحوار. وبوصفها دولة صديقة للعديد من الأطراف المتخاصمة، احتلَّت سلطنة عُمان موقعها بين الصراعات دون أن تنغمس فيها.
يقول حول ذلك، محمد بن عوض الحسان، المندوب الدائم للسلطنة لدى الأمم المتحدة، في تصريحات صحفية سابقة للإذاعة الوطنية الأمريكية NPR: "إننا لا نتحدّث كثيراً، بل نتحرك كثيراً، أحياناً نضطلع بدور الوسيط عندما نعتقد أن بإمكاننا المساعدة، ولكن بشرط عدم وجود وسائل إعلام، لأن الهدف هو السلام وليس الدعاية".
إمساك العصا من الوسط
بشكل عام، ترفض السلطنة الانحياز إلى أي طرف، وتحاول دائماً أن تمسك العصا من الوسط، باستثناء ما حدث في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، حين اعتزم السلطان قابوس السماح للقوات العراقية بالإقلاع من عُمان لتنفيذ هجمات على قواعد بحريةٍ إيرانية.
وسَعت سلطنة عُمان إلى تهدئة الصراع المستمر في اليمن، وتوسّطت كثيراً بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية، وقادت الكثير من جولات الحوار بين اليمنيين أنفسهم، حتى أطلق عليها كثيرون لقب "جنيف العرب".
وحتى في الصراع الأمريكي الإيراني، سمحت علاقتُها الوثيقة مع الطرفين بأن تستضيف مسقط أول اللقاءات السرية المنعقدة بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين، في مناقشات أدَّت في نهاية المطاف إلى صفقة إيران النووية، التي تُعرف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" في عام 2015.
وحتى بعد انهيار تلك الصفقة، بعد صعود دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، التقى دبلوماسيون عُمانيون مسؤولين إيرانيين في الأسابيع التي تلت إنهاء ترامب للاتفاق النووي مع إيران، والتقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالقائد العُماني، البالغ من العمر 79 عاماً، في يناير/كانون الثاني 2019.
وفيما يتعلق بأزمات جيرانها الخليجيين البينية، وتحديداً أزمة حصار قطر، حاولت السلطنة التوسط لإنهاء الخلافات بين أشقائها، وعلى مدار عام كامل من الأزمة ترأست عُمان أعمال مجلس التعاون الخليجي، داعيةً إلى الوحدة ونبذ الخلافات، كما برزت في مسقط اجتماعات نادرة على مستويات عدة لمسؤولي الدول الخليجية، كان أبرزَها اجتماعا رؤساء الأركان ووزراء الدفاع، العام المنصرم.
وحتى فيما يتعلق بقضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، حافظت عُمان على علاقات جيدة مع الفلسطينيين، كان آخر ملامحها قرارها في يونيو/حزيران 2019، إعادة فتح بعثة دبلوماسية لها في رام الله. كما أنها وبالرغم من الانتقادات الواسعة فإنها صنعت كذلك علاقات مع إسرائيل، كانت ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول 2018، حينما زار بنيامين نتنياهو مسقط، والتقى السلطان الراحل قابوس بن سعيد، في ثاني زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي للسلطنة، منذ 1994، وبحث الجانبان "سبل الدفع بعملية السلام"، حيث أعلن وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي، بُعيد هذه الزيارة المثيرة للجدل، أن بلاده "تساعد على تقارب الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني".
عُمان هادئة خارجياً وداخلياً أيضاً
أرسى سلطان عُمان الراحل فلسفة لشعبه، خلاصتها أن الطريقة المثلى التي تتَّبعها بوصفك مواطناً عُمانياً هي أن تظلَّ ودُوداً مع الجميع. تعتبر سياسة عُمان الخارجية امتداداً لنهجها الداخلي، فعلى النقيض من ضوضاء ووهج العواصم الأخرى في الشرق الأوسط، وسباق ناطحات السحاب الخاطفة للأبصار لدى جيرانها الخليجيين تتسم مسقط بالبساطة والهدوء والسكون.
ويوصف المجتمع العُماني بالمسالم تماماً، بالرغم من تعدد الطوائف والمذاهب فيها، إذ يُنظر إلى أي نزاع أو سلوك عدواني أو خلاف هناك باعتباره أمراً مستهجناً للغاية. بالرغم من أن البلاد تُحكم بنظام ملكيٍّ مطلق، وبالرغم من وجود قيود توصف بالصارمة على حرية التعبير.
ليس لدى عُمان سجلّ قمع عنيف كالموجود لدى جيرانها، مثل المملكة العربية السعودية أو الإمارات، لكن أجهزة الأمن نشطة في البلاد، وتراقب عن كثب نشاط الإنترنت، كما تقول تقارير أجنبية.
فيما تبقى المعارضة تحت السيطرة، نتيجة للهيكل الاجتماعي الصلب في البلاد. يقول أحد العُمانيين -بشرط عدم الكشف عن هويّته- لمراسل الإذاعة الوطنية الأمريكية: "ليس بالضرورة أن يُزجّ بك في السجن، ولكن أمن الدولة أو غيره سيذهب وسيتحدّث إلى والدك أو عائلتك أو قبيلتك. وسوف يستخدمون نقاط الضغط هذه لإرغامك على التأدُّب".
ثقافة وتاريخ عُمان لعبا دوراً في تكوين شخصيتها الاستثنائية في المنطقة
يساعد تاريخ عُمان والمذهب السائد أيضاً في تميُّزها عن البلدان المحيطة بها، حيث يعتنقُ العديدُ من العُمانيين الإباضية، ومن ثمّ لا ينخرط العُمانيون في الصراعات الطائفية في المنطقة. وعلى الرغم من أن عُمان دولة عربية فإنها خضعت لتأثيرات من الهند وشرق إفريقيا، وأجزاء أخرى من العالم، لأنها دولة تجارية تطل على البحر.
يقول زكريا محرمي، الكاتب العُماني في شؤون السياسة والثقافة: "في الواقع، إنه تاريخ عُمان وثقافة عُمان، كل هذه العوامل تشكل الشعب العُماني والتقاليد". ويعزَّز كل هذا عن طريق رؤية السلطان الراحل قابوس للبلاد، باعتباره مكاناً مُسالِماً هادئاً، وسط منطقة تعجُّ بالاضطرابات. وقد أرسى السلطان نمطاً راقياً في عُمان، يقول محرمي إن العُمانيين كبروا وهم يستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، التي يتم تشغيلها في أوقات الذروة على التلفزيون والإذاعة الحكومية.
وتعتزُّ مسقط بدار الأوبرا السلطانية، التي نالت عروضها شهرةً دوليةً. وهو أحد المشروعات المفضّلة لدى السلطان الراحل قابوس، وعندما افتتحت دار الأوبرا في عام 2011، قال السلطان الراحل إن "عُمان طالما اضطلعت بدورٍ بنّاءٍ في خدمة السلام، لذا فقد اعتقد أن مسرحاً معاصراً للفن والموسيقى هو أحد أفضل الطرق للترويج لهذا، ولمواصلة بثِّ هذه الرسالة. إنها طريقة لجمع شمل الناس، لأن الموسيقى تعبيرٌ عن القيمة الإنسانية، والذكريات العاطفية، والحنين إلى الماضي، والحب والعاطفة. سواء كانت موسيقى كلاسيكية أو موسيقانا التقليدية، فهي وسيلة لجمع شمل الناس".
وربما يكون أحد أسباب تفضيل السلطان الراحل في وصيته ابن عمّه هيثم بن طارق لقيادة البلاد، هو الاهتمام الثقافي والفني الذي اتسم به طارق، حيث تولى منصب وزارة التراث والثقافة لنحو 20 عاماً، وهو آخر منصب رسمي له قبل توليه حكم البلاد، كما أنه كان رئيسَ اللجنة الرئيسية للرؤية المستقبلية "عمان 2040".