بينما كان يراقب التلال البنغالية لأول مرة، كان محمد فاروق، وهو شاب من مسلمي الروهينغا، يفكر كيف فقد بسرعة كل شيء قضى سنوات في العمل من أجله.
كان فاروق ينزل من على متن إحدى الحافلات خالي الوفاض، لينضم إلى عائلته في بلدهم الجديد الذي يعيشون فيه الآن لاجئين مقيمين داخل مخيمات مصنوعة من البلاستيك، بدلاً من القرى التي كانت وطنهم ووطن أجدادهم في ميانمار.
كان فاروق (25 سنة) والعشرات من مسلمي الروهينغا الآخرين ينزحون إلى بنغلاديش طوال الماضي عقب إطلاق سراحهم بعد سنوات وشهور قضوها في مراكز الاحتجاز السعودية، بعد أن سعوا وراء حلم الحياة الرغدة في المملكة الخليجية.
"عاجز عن الكلام"
بالنسبة للكثيرين منهم، فرض الترحيل إلى بنغلاديش -البلد الذي لم يعش معظمهم فيه من قبل- عبئاً ثقيلاً على صحتهم النفسية والعاطفية، في ظل محاولتهم التأقلم مع الحياة داخل أكبر مخيم للاجئين في العالم ومنعهم عن العمل والتعليم والسفر بعد الحرية التي تمتعوا بها قليلاً في السعودية.
وقال فاروق لموقع Middle East Eye البريطاني: "في أثناء سفري على متن الحافلة، شعرت كأنني أريد القفز من النافذة إلى الشارع. ماذا سأقول عندما أصل إلى منزلي؟ كيف يمكنني أن أريهم وجهي؟ كان الوصول إلى هنا غريباً بالنسبة لي. لم أتمكن من التحدث مع أحد أربعة أيام. هذا الوضع جعلني عاجزاً عن الكلام -لم أستطع قول أي شيء".
لم ينعم فاروق بالاستقرار منذ ذلك الحين. إذ لم يتمكن من العمل وقضى أيامه مستلقياً في الظلام داخل منزله المصنوع من القماش والخيرزان. عندما وصل فاروق إلى المخيم، كان يمضي أوقاته في استخدام هاتفه والتحدث مع أصدقائه عبر تطبيقات المراسلة، لكن في أغسطس/آب الماضي قطعت بنغلاديش الإنترنت عن الروهينغا.
وما بين شعور التمكين الذي تملكه في السعودية والشعور بالعجز الذي تسرب إليه في مخيم اللاجئين، راودت فاروق أفكار ترك عائلته مرة أخرى للبحث عن فرص أفضل في الخارج، ولتكن في ماليزيا حيث يعيش عشرات الآلاف من الروهينغا. لكن هذه المغامرة تنطوي على رحلة بحرية خطيرة من بنغلاديش، كما أُلقي القبض على الكثيرين ممن حاولوا خوضها.
ورداً على سؤاله عن حاله، يجيب فاروق دائماً قائلاً: "أنا بخير، جسدياً وليس نفسياً".
حلم الحرية الضائع
مثل المئات من مسلمي الروهينغا الآخرين، وخاصةً الشباب، رحل فاروق عن ميانمار متجهاً إلى السعودية بعد الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت بلاده عام 2012 وأجبرت أكثر من 100 ألف من مسلمي الروهينغا على النزوح وتركت آخرين يعيشون تحت وطأة نظام أمني قمعي.
ونظراً لرفض منحهم حق المواطنة في ميانمار منذ عام 1982، كان مسلمو الروهينغا -وهي جماعة عرقية معظمها من المسلمين وتنحدر أصولها إلى غربي ميانمار- يضطرون للسفر إلى بنغلاديش القريبة ورشو مسؤوليها للحصول على جوازات سفر تمكنهم من السفر إلى السعودية، حيث وُعِدوا بالملاذ وفرصة الاستقرار في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.
لفترة من الوقت، عاش فاروق هذا الحلم. إذ كان قادراً على العمل بحرية في المصانع والتدرج في الهيكل الوظيفي، مستغلاً إجادته للغة الإنجليزية التي تعلَّمها بنفسه، ويرسل ما يفيض معه من مال إلى أسرته في ميانمار، والتي بدورها أنفقت هذا المال لانتشال نفسها من الفقر عن طريق شراء الأراضي والماشية.
لكن أسرة فاروق فقدت كل ما تملك في أغسطس/آب 2017، عندما أجبر الجيش البورمي 700 ألف من مسلمي الروهينغا على الفرار إلى بنغلاديش، في حملة وصفتها الأمم المتحدة بالإبادة الجماعية.
وبعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ، احتجزت شرطة الهجرة السعودية فاروق وأرسلته إلى مركز الشميسي للإيواء، الذي كان مكتظاً بمسلمي الروهينغا وغيرهم من المهاجرين الذين كانوا يعملون في المملكة دون تصاريح.
وقال فاروق: "بعدما تولى الملك سلمان الحكم، انتهى عصر الشفقة والإنسانية والرحمة. انتهى كل ذلك بعد عام 2014، بعد موت الملك عبدالله". وزادت الإصلاحات التي أجراها نجل الملك سلمان وولي العهد، محمد بن سلمان، صعوبة حصول الروهينغا على تصاريح الإقامة وتعاقب كل من لم يحصل عليها، على الرغم من الحماية التي سبق وأن حصلت عليها هذه الأقلية بسبب انعدام جنسيتها.
ومثل الكثيرين، يتحسر فاروق على انقلاب الحال. وتابع فاروق قائلاً: "إنها مأساة كبرى بالنسبة للروهينغا فقط، لأن الهنود والباكستانيين والمهاجرين من الدول الأخرى يمكنهم العودة إلى بلادهم، ويأتي مسؤولو سفارات بلادهم لاستقبالهم. لكن بالنسبة للروهينغا، لا يوجد أحد".
"شعرت بالعجز"
مع توغل جيش ميانمار في أغسطس/آب 2017، الذي أسفر عن مقتل الآلاف من الروهينغا وإحراق قراهم، كان هؤلاء النازحون الذين يعملون في أماكن مثل السعودية يتوجسون خيفة تلقي اتصال مثل الذي تلقاه رجل منهم يبلغ من العمر 65 عاماً ويُدعى بشير.
وقال بشير: "عندما علمت أن أبنائي قُتِلوا، بكيت أياماً. شعرت بالعجز هناك وأردت العودة إلى ميانمار للانضمام إليهم".
لم يتناول بشير الطعام أسبوعاً. وكان بشير قد قضى 20 عاماً في السعودية، حيث كان يعمل بحرية في البداية لدرجة أنه أحضر ابنه الشاب للانضمام إليه، إلى أن تغير الوضع بالنسبة للروهينغا في المملكة.
اعتُقِل ابن بشير أولاً، وما لبث أن احتُجِز والده وهو في طريقه إلى العمل عند حاجز تفتيش تابع لشرطة الهجرة السعودية على طريق كان يستخدمه العمال المهاجرون بانتظام. قدم بشير بطاقة إقامة قديمة كان قد حصل عليها في الأيام الخوالي، لكن اكتشف آنذاك أنه لا يستطيع تجديدها، وجرى ترحيله إلى مركز الشميسي.
أمضى الأب والابن شهوراً في مركز الاحتجاز تحت وهج إضاءة المصباح ومُكيِّف الهواء الذي لم يُطفأ قط. كان المحتجزون في هذا المركز ينامون على سررٍ ذات طابقين وحُرِموا من الهواء النقي والضوء الطبيعي.
ونظراً لرفض ميانمار الاعتراف بالروهينغا، لم تكن هناك أي قنصلية تدعمهم، وهو الأمر الذي يرى نشطاء الروهينغا أنه أدى إلى قضاء مئات الأشخاص منهم سنوات في مراكز الاحتجاز السعودية، وكانت الطريقة الوحيدة للخروج من هذه المراكز هي رشو سماسرة لتدبير جوازات سفر بنغالية مزورة.
هكذا فعل بشير من أجل ترحيله، بعد أن أنفق كل مدخراته للحصول على جوازيّ سفر له ولابنه وإطلاق سراحهما. نُقِل بشير إلى المطار مكبل اليدين، واحتُجِز في غرفة مع غيره من الروهينغا حتى كانت رحلتهم إلى بنغلاديش جاهزة للمغادرة. وعند وصوله، تظاهر بشير أمام موظفي الهجرة بأنه مواطن بنغالي، ثم استقل على الفور حافلة متجهة إلى مخيمات اللاجئين.
وقال بشير: "كنت أدرك أن الحياة هناك ستكون صعبة". وعاد بشير إلى أسرته التي ما زالت تحاول التأقلم مع حياتها الجديدة، ليس فقط كلاجئين ولكن من دون الابنين اللذين قتلهما جيش ميانمار.
"حياة عاطلة"
كان على بشير أن يعتاد على الحياة العاطلة، وأن يقتات بحصص بسيطة من الأرز والعدس التي توزعها منظمات الإعانة على مليون لاجئ من الروهينغا يعيشون الآن في بنغلاديش. يُعد العمل ممنوعاً، باستثناء العمل في بعض مشروعات البنية التحتية للمخيمات حيث يحصل المتطوعون على رواتب صغيرة.
ويجني بعض الروهينغا رزقهم من العمل في المصانع المحلية الصغيرة أو مع المزارعين في الأراضي الواقعة حول مخيمات اللاجئين، لكن ذلك أيضاً أصبح صعباً في الشهور الأخيرة بعدما شددت بنغلاديش الحراسة في المنطقة.
كذلك جرى قطع الإنترنت في المناطق المجاورة للمخيم وصادرت الشرطة الهواتف وأجهزة الكمبيوتر؛ مما أدى إلى قطع بعض المشروعات التي كان يعمل عليها الشباب المبتكرون من الروهينغا لسد فجوة المعلومات والتواصل في المخيم.
في هذه الظروف العصيبة، وصل محمد البالغ من العمر 27 عاماً إلى المخيم في سبتمبر/أيلول الماضي بعد ترحيله من السعودية، بعد ست سنوات قضاها في المملكة.
ومثله مثل فاروق، كان محمد يشعر بالنجاح قليلاً خلال سنواته القليلة الأولى في السعودية. إذ كان قادراً على إرسال المال إلى عائلته وعاش براحة أكبر من تلك التي عرفها في ريف ميانمار، وخاصةً بعد أن فرض الجيش حظراً شبه كامل على حركتهم، التي كانت تحت رقابة مشددة بالفعل، منذ احتجاجات عام 2012.
وعلى الرغم من أنه فقد تلك الحرية عندما أُلقي القبض عليه، كان محمد سعيداً في البداية بلم شمل عائلته في بنغلاديش. كان محمد يعتقد أن بإمكانه إنشاء متجر في السوق المؤقتة بالمخيم لبيع الهواتف المحمولة ولوازمه وتقديم مجموعة متنوعة من خدمات الإنترنت التي لم يكن بإمكان معظم اللاجئين الحصول عليها بأنفسهم.
لكن حظر الإنترنت الذي فرضته بنغلاديش قلَّص نشاط محمد إلى تقديم الخدمات الأساسية فحسب لمساعدة غيره من اللاجئين على تقديم طلباتهم للأغراض الرسمية مثل التصاريح الصحية، وتقديم خدمات الطباعة من خلال ناسخة مخبأة في الجزء الخلفي من متجره.
وقال محمد: "لا يوجد أمل لشعب الروهينغا. أينما نذهب نُطرَد". وأضاف: "لا يوجد أمل لي. هناك العديد من الأشخاص المتعلمين مثلي، لكننا نشعر هنا أننا بلا فائدة. ليست لدينا أحلام".