أيهما في وضع أخطر العراق أم لبنان، وأي منهما معرض أكثر للتدهور، ومن منهما مرشح لحل أقرب، وماهي أوجه الاختلاف بين أزمتي لبنان والعراق؟
تبدو أوجه التشابه بين العراق ولبنان لافتة، كلاهما دولة متنوعة مذهبياً أو دينياً (لبنان)، أو عرقياً (العراق)، تحكمهما نخب طائفية متخاصمة ومتصارعة على كل شيء إلا بقاء نظام النهب الطائفي.
كلاهما به نسبة كبيرة من الشيعة (نحو الثلث في لبنان)، وأكثر من النصف في العراق.
وكلاهما تحظى فيه إيران بنفوذ يصل لمستوى الهيمنة، عبر أحزاب شيعية موالية لها، تتحالف مع أحزاب غير شيعية في حالة لبنان، معززة بسلاح ميليشياتي متمثل في حزب الله والحشد الشعبي الذي ألحق شكلياً بالجيش العراقي، وإلى جانب الميليشيات فإن نفوذ الأحزاب الشيعية يمتد للجيش والمؤسسة الأمنية.
ويتضافر مع ذلك تحالف سياسي للثنائي الشيعي اللبناني (حزب الله وحركة أمل ) مع الرئيس المسيحي العماد ميشال عون، مقابل علاقة أضعف للأحزاب الشيعية مع الرئيس برهم صالح في حالة العراق، ولكن يعوض ذلك محدودية سلطات الرئيس في النظام السياسي العراقي، الأقرب للنظام البرلماني من النموذج اللبناني.
كما يزداد ضعف الرئيس العراقي مقابل سلطة رئيس الحكومة جراء انتمائه لأقلية كردية معزولة في الشمال، تهدف للانفصال أكثر منها التورط في أزمات البلد المنكوب.
تشابه لافت في المشكلات
هناك تشابه ملحوظ في المشكلات في البلدين.
فالعراق البلد الغني بالنفط يعاني من أزمة انقطاع الكهرباء منذ سنوات، وهي أزمة يعاني منها لبنان، البلد الذي يمتلك أفضل نظام تعليم في العالم العربي، ولديه مليارات الدولارات مكدسة في المصارف، التي تمتلك واحداً من أكبر الموجودات بالنسبة للناتج المحلي في العالم.
والبلدان لا ينكر حتى نخبهما الحاكمة أنهما غارقان في الفساد، كما أن يعانيان من بطالة هائلة وضعف الدولة في مواجهة نفوذ إيران والجماعات الموالية لها، إضافة إلى تدخلات خارجية تأتي أبرزها من السعودية والولايات المتحدة.
والحراكان متماثلان في المطالب
التشابه يمتد لطبيعة الحراك، الذي يتَّسم إلى حد كبير بأنه حراك شبابي يفتقد لقيادة معينة، بدأ في الحالتين كحراك مطالبي، دعا في انطلاقته إلى تحسين الخدمات، ثم تحوَّل بسرعة للمطالبة بعزل النخب السياسية برمتها.
وفي الحالتين استقالت الحكومة دون أن تحل أي من الأزمتين مع بقاء النخب السياسية في الحكم.
وفي الحالتين تقول إيران وحلفاؤها إن الحراك تقف وراءه مؤامرة غربية أمريكية، وأحياناً سعودية.
أوجه الاختلاف بين أزمتي لبنان والعراق
لكن رغم أوجه التشابه المتعددة بين البلدين، فإن هناك اختلافات عديدة بينهما، فأيهما في وضع أخطر لبنان أم العراق.
أول الخلافات بين البلدين طبيعة الشعبين، إذ رغم تورط لبنان في حرب أهلية استمرت فترة أطول من أي بلد عربي، حيث استهلكت الحرب الأهلية اللبنانية نحو 15 عاماً من عمر هذا البلد العربي الصغير، فإن سمات العنف قد تكون أكثر وضوحاً في المجتمع العراقي.
ولذا يكتسب الحراك العراقي طابعاً أكثر حدة، وأحياناً عنفاً، كما أنه في المقابل يبدو عنف السلطة أكبر في العراق من لبنان، وكذلك عنف الحشد أشد وأكثر وضوحاً من عنف حزب الله الذي يختبئ عنفه وراء تحرشات ما يعرف بأنصاره بالمتظاهرين.
الأغلبية الشيعية في العراق عيب أم ميزة لإيران
إحدى نقاط الاختلاف الرئيسية بين البلدين نسبة الشيعة في البلدين.
ففي لبنان يمثل الشيعة نحو الثلث (نفس نسبة السُّنة تقريباً)، ولا يهيمن الشيعة على البرلمان والحكومة عددياً، إنما يكتسب حزب الله هيمنته السياسية بالإضافة لسلاحه وسطوته الأمنية والعسكرية من تحالفه مع التيار الوطني الحر (تيار عون)، وهو أكبر قوة مسيحية، وصاحب أكبر كتلة برلمانية.
أما في العراق فالشيعة يمثلون في أغلب التقديرات أكثر من النصف، وبالتالي الشيعة يهمينون على البرلمان والسلطة سواء كانوا مؤيدين لإيران أو أحزاباً إسلامية أو علمانية.
فلو أجريت انتخابات مبكرة فلن تغير الهيمنة الشيعية، حتى لو تراجع وزن الأحزاب الموالية لإيران، أو حتى مجمل الأحزاب الشيعية ذات الطابع الديني.
قد يبدو هذا الوضع الشيعي المهيمن في صالح إيران وحلفائها للوهلة الأولى.
ولكن الواقع هو العكس.
ففي الحالة اللبنانية فإن تشظِّي المجتمع وغياب أغلبية لطائفة بعينها يصعب من مطلب الحراك بإزالة الأحزاب الطائفية.
لأنه يسهل على هذه الأحزاب تصوير أي هزيمة لها أنها هزيمة للطائفة لصالح طائفة أخرى.
كما أن النظام الطائفي اللبناني أكثر تجذراً، وزعماؤه أكثر خبرة وتمرساً بالعمل السياسي مقارنة بالعراق.
إضافة إلى أن حجم الأحزاب الطائفية اللبنانية بالنسبة لعدد السكان في الأغلب أكبر من العراق.
إذ إن لبنان، هذا البلد الصغير، الذي يزيد عدد سكانه قليلاً عن أربعة ملايين نسمة يوجد به نحو 18 طائفة، لكل طائفة عدة أحزاب، مما يعني على الأرجح وجود مئات الآلاف من الأتباع لهذه الأحزاب لديهم قدرة على توزيع المنافع على كل طائفة، والهيمنة عليها في الوقت ذاته.
في الحالة العراقية الوضع مختلف، فالأحزاب الطائفية أحدث وأقل تجذراً، والدليل حدوث تغييرات كبيرة في الوزن النسبي لهذه الأحزاب عبر كل انتخابات، مثل صعود حزب الدعوة، رغم أن اختيار رئيس الحكومة عدة مرات منه جاء بسبب ضعف شعبيته بالأساس.
كما تراجعت شعبية المجلس الإسلامي الأعلى الذي يقوده آل الحكيم بشكل كبير، مقابل تزايُد وزن وشعبية التيار الصدري نسبياً، وظهور قائمة الفتح، ممثلة للحشد الشعبي، كتجمع جديد يعبر عن الكتلة المؤيدة بشكل فجّ للإيرانيين.
على العكس في الحالة اللبنانية لم يكد الوزن النسبي للقوى الشيعية وحتى كافة الأحزاب الطائفية في البلاد يتغير منذ نهاية الحرب الأهلية.
وكان أي تغيير في حصص الأحزاب الطائفية في البرلمان مرتبطاً بطبيعة تحالفاتها، والتغيير في قوانين الانتخابات وتوزيع الدوائر، وليس مرتبطاً في الأغلب بتغير نمط التصويت.
فقد ظل الشيعة اللبنانيون على مدار الأعوام الماضية يعطون أصواتهم لحزب الله وحركة أمل، وأغلب أصوات السُّنة للمستقبل، والدروز لوليد جنبلاط، والمسيحيون لعون وجعجع.
في العراق، الحراك أغلبية أعضائه شيعة، يستهدفون بدورهم نخبة شيعية.
وإذا تم عزل هذه النخبة فسوف تحل محلها نخبة شيعية أخرى، حتى لو كانت غير طائفية، مما يُفقد الأحزاب الشيعية ورقة التخويف من تأثر نفوذ الطائفة جراء الحراك، ويظهر ذلك موقف المرجع الديني علي السيستاني، الذي يؤيد مطالب الحراك أحياناً.
أيهما في وضع أخطر.. العراق أم لبنان؟
يختلف طبيعة الخطر في لبنان عن العراق.
في العراق يزداد خطر الانزلاق لمزيد من العنف، في ظل حدة طبع الشعب العراقي، والقسوة البادية من قبل النخب والأمن والميليشيات، والتدخل الإيراني الفج.
ونظراً لضعف خبرة هذه الأحزاب الطائفية الشيعية، ولأنها لا تستطيع احتكار ورقة الدفاع عن مصالح الطائفة كالحال في لبنان، فإنها أكثر حساسية تجاه مطلب التغيير الذي هو أكثر واقعية من الحالة اللبنانية.
مكمن الخطر في لبنان أكثر حساسية
ولكن مكمن الخطر في لبنان يوجد في الجانب الاقتصادي، على عكس الحال في العراق، الذي هو دولة غنية بالنفط، الذي لن يتوقف إنتاجه في الأغلب مهما ساءت الأحوال.
وحتى لو توقف النفط يمكن استئناف الإنتاج مع تحسن الأوضاع.
ثروة العراق غير قابلة للنفاد أو الكسر الأبدي.
أما ثروة لبنان فهي قابلة أكثر من أي بلد للضياع والكسر للأبد.
فثروة لبنان هي سياحته وبصورة أكبر نظامه المصرفي، الذي موّل عجز الموازنة الحكومي لعقود.
والنظام المصرفي في أي دولة قائم على الثقة سواء الثقة في الدولة ذاتها والأهم في النظام المصرفي الذي سبق أن حافظ في الحالة اللبنانية على ثقة الناس به رغم انهيار الدولة.
ولكن هذه الثقة تبدَّدت بالأزمة الحالية، خاصة مع توقف المصارف اللبنانية عن تزويد موديعها بالأموال، حتى إنها تصرف الرواتب بالتقسيط.
لبنان يبدو كمصرف كبير، أو صراف آلي عملاق يعتمد على ثقة الناس ويمنح أرباحاً ضخمة، فإذا ضاعت هذه الثقة فلن يضع الناس مدخراتهم فيه مرة ثانية، وقد يبادرون بتحطيم الآلة للحصول على أموالهم، وبالطبع لن يجدوها.
وهو أمر يقال إنه حدث حرفياً، إذ وردت شهادات عن اقتحام مودعين للمصارف اللبنانية بالأسلحة لسحب أموالهم.
أزمة لبنان قد تكون أقل عنفاً من العراق، ولكنها أكثر حساسية من الناحية الاقتصادية، حيث تضغط مطالب الحراك ومساومات السياسيين وشروط الخارج على اقتصاد هشّ قائم على الثقة، ثقة قد يطول الزمن حتى تعود.