اصطدمت جميع التطلعات الأوروبية والصينية بإضعاف هيمنة الدولار الأمريكي باعتباره العملة محل الاختيار على المستوى العالمي بحائط مسدود، إذ أصدرت أحدث الاستطلاعات العالمية أن العملة الخضراء استخدمت في 88% من جميع المعاملات التي تمت بالعملات الأجنبية في جميع أنحاء العالم؛ وهي أعلى نسبة منذ 18 عاماً، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ويمنح صعود الدولار الإدارة الأمريكية قدرة لا ينافسها فيها أحد على فرض إرادتها من خلال فرض عقوبات اقتصادية.
ويرى تقرير جديد أعده ستيفن كيرشنر من مركز دراسات الولايات المتحدة أنّ الدور المهيمن للدولار الأمريكي يعكس عمق أسواق رأس المال الأمريكية وقوة المؤسسات الأمريكية؛ ويرى أن هناك احتمالاً أن يستمر هذا الدور طويلاً.
العقوبات الاقتصادية قد تدمر الدولار
ومع ذلك، تحذر الورقة البحثية من أن الإفراط في استخدام العقوبات الاقتصادية سيدفع الدول المتأثرة بالعقوبات للجوء إلى ابتكار أساليب للالتفاف عليها.
وأظهر الاستطلاع الذي يجرى كل ثلاث سنوات حول حجم التبادل الأجنبي الذي أجراه بنك التسويات الدولية أن حصة الدولار الأمريكي قد انخفضت إلى 84.9% في بداية العقد الجاري، غير أنها اكتسبت أرضية صلبة منذ ذلك الحين على حساب اليورو والين.
وقد جرى استخدام اليورو في 32.3% من معاملات التبادل الأجنبي هذا العام، منخفضاً من 39% في استطلاع 2010، في حين انخفضت حصة الين من 19% إلى 16.8%.
واقتصرت نسبة رنمينبي الصيني على 4.3% من إجمالي صفقات التبادل الأجنبي العالمية، والأهم أن أقل من 6.8% من هذه الصفقات استخدم الدولار الأسترالي.
ويعد سوق التبادل الأجنبي، الذي يدر 6.6 تريليون دولار يومياً، مجرد بُعد واحد فقط من هيمنة الدولار الأمريكي. كما أنه مسؤول 63% من سندات الديون المستحق (مقارنة بـ 20% لليورو) و40% من العمليات المالية عبر الحدود.
ويُستخدم الدولار الأمريكي كعملة لإصدار الفواتير أكثر بثلاثة أضعاف من شحنات العديد من الصادرات العالمية الأمريكية نفسها. كما أن حوالي 70% من دول العالم تربط عملتها بطريقة أو بأخرى بالدولار الأمريكي.
كما أنها العملة المختارة للبنوك المركزية حول العالم، التي تستخدمها في 62% من احتياطات التبادل الأجنبي الخاصة بها، رغم أن كيرنشر يرى أن مكانة الدولار كعملة "احتياطي" لها تأثير بسيط على الاستخدام الواسع للدولار على سوق رأس المال الأمريكي والمؤسسات السياسية والاقتصادية الداعمة لها.
فشل اليورو في أن يحل محل الدولار
وحين بدأ العمل باليورو في عام 1999 توقع العديد من الاقتصاديين أن يكون منافساً للدولار الأمريكي، أو حتى أن يحل محله. وتوقع فرد بيرغستن، الرئيس السابق لقسم الاقتصاد الدولي بوزارة الخزانة الأمريكية، أن يصل اليورو إلى مكانة الدولار الأمريكي في ظرف خمس إلى عشر سنوات.
ويسعى البنك المركزي الصيني منذ عام 2006 إلى تطبيق استراتيجية لتدويل الرنمينبي حين رأى البنك أن هذه الاستراتيجية من شأنها أن تعزز مكانة الصين الدولية وأن تعزز موقفها في التنافس مع الولايات المتحدة. وأدرج صندوق الدولي الرنمينبي في سلة العملات المستخدمة لتحديد قيمة "حقوق السحب الخاصة" عام 2016.
غير أنَّ كيرنشر يرى أن كلاً من منطقة اليورو والصين تثبتان أن ضخامة الحجم وحدها لا تعطي مكانة دولية لأي عملة.
ويقول: "وحدها أسواق رأس المال المتطورة المدعومة بمؤسسات سياسية سليمة وسياسة مالية ونقدية صحيحة نسبياً وحقوق ملكية وسيادة القانون هي ما يمكنها أن تثبت دعائم أي عملة عليها طلب واسع خارج حدود أي دولة".
وأضاف: "الصين ومنطقة اليورو محفوفتان بمؤسسات اقتصادية وسياسية مصابة بالضعف المزمن، وهي مؤسسات تقاوم أي إصلاح. وبالتالي فإن احتمالية أن يحتل اليورو أو الرنميبي محل الدولار في الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط شبه منعدمة".
ويقول إن اليورو مصدرٌ للضعف الاقتصادي وليس القوة الاقتصادية للدول التي تستخدمه؛ ذلك لأنه يحد من نطاق تعديل سعر التبادل لامتصاص الصدمات الاقتصادية. ولا ينظر المستثمرون العالميون للأصول المقيمة بالدولار على أنها ملاذ آمن في أوقات الأزمات، ذلك لأن الوحدة النقدية غير مدعومة باستراتيجية موازنة مشتركة أو باتحاد مصرفي مشترك.
وفي الفترة بين عامي 2012 و2019، انخفضت حصة اليورو في المدفوعات العالمية من 44% إلى 34%، في حين يظهر المقياس الخاص بالبنك المركزي الأوروبي لدوره العالمي انخفاض حصة اليورو منذ عام 2006 وأنها اليوم لا تزيد عما كانت عليه عند ميلاد اليورو قبل 20 عاماً.
كيف يساهم الدولار في سيطرة أمريكا على العالم
ولأن الدولار الأمريكي لا غنى عنه في المعاملات العالمية، فإن لدى واشنطن ميزة قوية؛ إذ يمكن أن تمنع العقوبات الأمريكية الشركات والأفراد من الوصول إلى منظومة السداد الأمريكية لتسوية المعاملات التي تتم بالدولار، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ويقول التقرير: "تعتمد البنوك غير الأمريكية على علاقاتها مع البنوك الأمريكي وقدرتها على الوصول إلى البنية التحتية لمنظومة السداد بالدولار التي تخضع لتنظيم أمريكي لتفعيل المعاملات الدولية نيابة عن عملائها".
"إن روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية تخضع لعقوبات أمريكية أصبح تطبيقها فعالاً في المقام الأول بسبب الدور الذي يؤديه الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي".
ورغم ذلك، فإن السياسة الاقتصادية العدائية تستنفر جهود دول العالم للمقاومة. على سبيل المثال، بدأت أوروبا تتحرك في اتجاه تسعير وارداتها من النفط باليورو، لتسهيل استمرار الشراء من روسيا. أما فيما يتعلق بإيران، فقد جرى تأسيس ما يعرف بمركبة الأغراض الخاصة بحيث يتمكن المصدرون والمستوردون الأوروبيون من تسوية معاملاتهم على الجانب الأوروبي في حين يقوم نظراؤهم الإيرانيون بالشيء نفسه باستخدام الريال الإيراني.
ويقول التقرير: إذا كانت الحكومة الأمريكية تنوي إساءة استخدام الدور الذي يلعبه الدولار كأداة لفرض إرادتها على دول العالم، يمكن أن يعزز هذا من توفير بديل أي إنشاء آليات للسداد غير معتمدة على الدولار".