كان هدف الحملة التي شنَّها ما يُعرف بـ "الجيش الوطني الليبي" التابع لحفتر (وهو تحالف من وحدات نظامية سابقة وميليشيات) ظاهرياً "تحرير" طرابلس من خصومه الذي يصفهم بالمتشددين، لكنها في الواقع مجرد عملية انتزاع صريح للسلطة والثروة من الحكومة الشرعية. وقال مبعوث الأمم المتحدة لليبيا إنَّها "بدت أشبه بانقلاب".
يقول محمد الضراط، وهو قائد مجموعة عسكرية، متوسط العمر كان يعمل مهندساً في حياته الأخرى قبل الحرب، في فيلا مهدمة جنوبي طرابلس اتخذها مقراً له، إنه يشعر بالقلق بشأن القذائف التي تستهدفهم. وأوضح أثناء فترة هدوء تخللت القتال، لمجلة Foreign Policy الأمريكية، أنَّ هذه ليست أي قذائف مدفعية: "إنَّها موجهة نحو هدفها عن طريق مُصوِّب ليزر يُوجَّه عبر مراقب على الأرض".
وقد أجبرت المقذوفات الضراط على نقل مقره أكثر من ثلاث مرات في الأسابيع القليلة الماضية. وكانت هذه مجرد واحدة من عدة تحسينات مثيرة للقلق أُدخِلَت على ترسانة خصومه في المرحلة الأحدث ضمن الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا، التي بدأت في 4 أبريل/نيسان الماضي حين شنَّ حفتر هجوماً من أجل الإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المُعتَرَف بها دولياً في طرابلس.
مرتزقة "الفاغنر" في قلب المعركة
نحَّى الضراط وقادة الميليشيات الأخرى في طرابلس وضواحيها خلافاتهم لمواجهة هذا التوغل. وانضم إليهم مقاتلون من أنحاء البلاد؛ فقابلتُ على خطوط الجبهات مؤخراً مسلحين من مدينة بنغازي الواقعة شرقي البلاد وإثنية الطوارق من أقصى جنوب ليبيا. بدأت الحرب التي تلت ذلك كمعركة طاحنة يسودها الجمود إلى حدٍّ كبير وتجمع بين المدفعية السوفييتية العتيقة وأحدث الطائرات بدون طيار، التي يوجهها أفراد من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تدعم حفتر، ومن الناحية الأخرى تركيا، التي تدعم حكومة الوفاق الوطني.
لكنَّ الأوراق اختلطت في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وهو الشهر الذي شهد وصول وسيط آخر إلى جبهة طرابلس، تمثَّل في أكثر من 100 من المرتزقة الروس مما تُسمَّى مجموعة "Wagner" (فاغنر)، التحق بهم في الأسابيع الأخيرة مئات المقاتلين الإضافيين، الذين تسببوا في زيادة الضحايا في صفوف الضراط ورجاله. تحسَّر الضراط على التحسن الواضح في دقة الطائرات دون طيار المسلحة الموجودة منذ البداية والتي تدمر مركباته كما تشاء، ليلاً ونهاراً، ما يحد من تحركاته ويجبره على الاختباء لساعات متتالية.
وهناك على ما يبدو إمداد لا ينتهي بقذائف الهاون التي تمطرهم. وتسلك الصواريخ الروسية المضادة للدروع وقذائف الكورنيت الرهيبة طريقها كالأفعى بين السواتر الرملية لتحيل أهدافها رماداً بدقة مدمرة.
ثُمَّ هناك القناصة الروس. ويقول الضراط إنَّ طلقاتهم التي تصيب الصدر والرأس تكشف عن مهنية لم يرها من قبل قط، وتُعَد مسؤولة عن 30% من القتلى في وحدته. وقتل أحد هؤلاء القناصة مؤخراً مقاتلاً يبلغ من العمر 23 عاماً، ولا تزال جثته ملقاة في ساحة القتال. وراح الضراط ورجاله ذات صباح يخططون طوال ساعات بشأن كيفية استعادة تلك الجثة باستخدام الحبال والعربات المدرعة، لكنَّها مُلقاة بصورة مباشرة في مرمى القناصة، الذين أصابوا بالفعل جندياً ببندقية مضادة للعتاد في محاولة سابقة لاستعادة الجثة. وبدت المهمة أكثر إلحاحاً لأنَّ والد القتيل كان يتوسل الضراط لاستعادة جثته.
أنباء جيدة لحفتر، ولكن
كل هذا قد يبدو أنباءً جيدة لحفتر، الذي يمكنه على نحوٍ معقول، للمرة الأولى، السيطرة على طرابلس. لكنَّ التقدُّمات التي تُحرَز في ساحة القتال بمساعدة الروس ربما لها ثمن. ففي 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية أقوى إداناتها حتى الآن للحرب التي يشنها حفتر، وخصَّت الميليشيا التي يقودها بالاسم وأكَّدت أنَّ تحالفه مع المرتزقة الروس انتهاكٌ خطير للسيادة الليبية.
وبالتوازي مع ذلك، يزداد قلق الكونغرس الأمريكي بصورة أكبر حيال تأثير الحرب على المدنيين وتعزيزها للنفوذ الروسي في المنطقة. ولا يزال هناك تشريعان يتمتعان بدعم الحزبين –الجمهوري والديمقراطي- بانتظار التمرير في كلٍّ من مجلس النواب ومجلس الشيوخ من شأنهما فرض عقوبات على المتعاقدين الروس ومُمكِّنيهم.
هذه الخطوات معاً تمثل قطيعة مُشجِّعة مع أشهر من الغموض الأمريكي بشأن المنعطف الأحدث في الحرب الأهلية الليبية. ونبعت سياسة "لننتظر ونرَ" الكارثية من مكالمة هاتفية من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحفتر منتصف أبريل/نيسان الماضي، دعم فيها الرئيس الأمريكي هجوم اللواء باعتباره يتماشى مع أهداف مكافحة الإرهاب الأمريكية.
هل تخلت واشنطن عن حلفائها القدامى؟
كانت هذه المكالمة الهاتفية، فضلاً عن تعزيزها لحرب حفتر، مُربِكة لأنَّ معظم نشاط مكافحة الإرهاب الأمريكي غربي ليبيا كان يتم مع الحكومة الوطنية التي يقاتلها حفتر الآن. والضراط أحد هؤلاء. ففي عام 2016، انضممنا إليه بينما كان يقود المسلحين في معركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في معقل التنظيم بمدينة سرت الواقعة وسط البلد. آنذاك، كان يتمتع بمساعدة الاستخبارات والغارات الجوية الأمريكية. لكنَّه الآن يشكك بالتزام واشنطن بحلفائها القدامى.
فهو يشكك في أنَّ بيان الخارجية الأمريكية يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي والتدقيق المتزايد من جانب الكونغرس سيمثلان تغيُّراً بنَّاءً في السياسة الأمريكية. إذ أخبرنا في اليوم التالي للإعلان، بلهجة ضجرة من جندي متمرس، أنَّه لن يتغير الكثير. وتنبأ بأنَّ قوات حفتر "ستهجم الليلة" ، في ردٍ سريع يحمل تحدياً لتحذيرات واشنطن. وبالفعل، قَطَعَ صاروخان من طائرة دون طيار إماراتية سماء الجبهة بعد الغسق.
وعند سماع الطنين الخفيض لطائرة أخرى دون طيار، اختبئنا تحت بعض أوراق الشجر حتى خرجت من نطاق سمعنا. وفي صباح اليوم التالي، كان علينا تفادي وابل من قذائف الهاون ونيران المدافع الرشاشة من مواقع حفتر الواقعة على بعد بضع مئات من الأمتار فقط.
ركض مقاتل ليقول للضراط: "إنَّهم يضربوننا تحت شجرة! كان علينا التراجع". وحضَّ القائد رجاله قائلاً: "تعاملوا مع العدو!". لكنَّ طلقات المدفع الرشاش الذي كان يرتديه الشاب كانت قد انحشرت.
كان المقاتلون يتحركون مسرعين جيئةً وذهاباً، وكان يُسمَع في اللاسلكي أصوات صراخ تحمل اتهامات متبادلة: "أنت لم تغطِ جناحي!". وكانت حصيلة هذا العنف الشديد –الناتج عن تفوق حفتر التكنولوجي مؤخراً- بادية على أوجه المقاتلين: كان في ذلك اختلافٌ صارخ مقارنةً بما كان حين التقيناهم هذا الصيف، حين كانت وجوههم تفيض ثقةً بالغة.
تبدلت الأحوال كثيراً وحفتر يتفوق الآن
وبعد عدة أيام، وسط وابل آخر، تحدث أحد مقاتلي الضراط في اللاسلكي لإحدى غرف العمليات وتوسل من أجل الحصول على دعم المدفعية، التي تدهورت بشدة من جرَّاء ضربات حفتر.
وقال مُبرِّراً: "هناك شخصان أو ثلاثة يموتون هنا كل يوم. إن لم توفروا الدعم المدفعي سأعود إلى منزلي".
ولم يكن هذا تهديداً فارغاً: اعترف الضراط لاحقاً بأنَّ بعض رجاله غادروا الجبهة وفعلوا ما قاله المقاتل تماماً. وقال إنَّه طلب دعماً من مناطق أخرى في ساحة المعركة في طرابلس، لكنَّ الدعم لن يأتي، لأنَّ هذا الجزء من الجبهة معروف بـ "إنتاج الكثير من الشهداء". لكنَّ هذا مجرد جزء من الحكاية: هناك شعور خفي من عدم الثقة يضرب عميقاً في صفوف المجموعات المسلحة اليائسة في العاصمة وحولها، وهي المجموعات التي يوحدها في الغالب عدائها المشترك لحفتر.
في هذه الأثناء، يصبح الضرر الذي تلحقه حرب حفتر بالوحدة السياسية والنسيج الاجتماعي في ليبيا أشد مع مرور كل يوم. وهو على الأرجح ضرر لا يمكن إصلاحه. فبينما كنا نقود السيارة مروراً بطرابلس بعد زيارة لقوات الضراط، تظهر الأدلة على ذلك الضرر في كل مكان. إذ هُجِّر أكثر من 140 ألف شخص في العاصمة وحولها بسبب القتال. وتخفق حكومة الوفاق الوطني -التي لم تكن أبداً نموذجاً في تقديم الخدمات- المحاصرة حتى في القيام بوظائفها الأساسية في الحكم وتواجه غضب المواطنين. وتزداد جرأة بعض الميليشيات الفاسدة، التي تُسمِّي نفسها صورياً حليفة للحكومة، بسبب الحرب.
وتزداد أعداد القتلى بين المدنيين، نتيجةً للغارات الجوية المتهورة التي تشنها المقاتلات والطائرات دون طيار المتحالفة مع حفتر والتي لا تُميِّز تقريباً بين الأهداف العسكرية وغير العسكرية. وكانت هذه النتائج المرعبة جلية بعد ظهيرة يوم كانت السماء فيه صافية.
ففي منطقة وارِفة جنوبي العاصمة، يقع مصنع بسكويت تعرَّض للاستهداف قبيل ساعاتٍ فقط من جانب طائرات دون طيار إماراتية تعمل لصالح قوات حفتر. وكانت السيارات المحترقة تقف حطاماً بجوار حقل لنبات البرسيم الحجازي (الفصفصة)، وإلى هناك فرَّ عمال المصنع المذعورون. كانت الحفر الناتجة عن الضربة، والمُحاطة ببقع الدم والملابس المتفحمة والأشلاء البشرية، في كل مكان بالمنطقة. وأبلغ أطباء المستشفى الميداني عن مصرع 10 مدنيين وإصابة العشرات. ووصف مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا الغارة بأنَّها جريمة حرب محتملة. مشهد المذبحة هذا تكرر دون خشية من العقاب مراتٍ لا تُحصى، ضد المستشفيات، ومركز لاحتجاز المهاجرين، وضد المنازل العادية.
هل حان وقت التحول الدبلوماسي الأمريكي في ليبيا؟
تقول "فورين بوليسي": إذا كان من لحظة مناسبة لانتهاج دبلوماسية أمريكية أكثر حزماً تجاه ليبيا، فهي الآن. وجاءت إشارة إيجابية متواضعة على حدوث ذلك الأسبوع الماضي، حين التقى وفدٌ أمريكي رفيع المستوى، بما في ذلك مسؤول كبير بالبيت الأبيض، حفتر في مكان لم يُكشَف عنه لحثِّه، وفقاً لتقارير، على وقف القتال.
لكنَّ هذا بعيد كل البعد عن أن يكون كافياً. فاللواء الليبي له تاريخ حافل استغلال مثل هذه اللقاءات مع الدبلوماسيين لشراء الوقت في حين يتقدم على الأرض، وله تاريخ كذلك في تفسير أي كلمات أمريكية مُخفَّفة باعتبارها "َضوءٌ أصفر".
وفي الوقت الراهن، وفي ظل كون الزخم على أرض المعركة لصالحه، فلا حافز لديه للتنازل، خصوصاً إذا ما واصل رعاته الأجانب تشجيعه. وإلى جانب تسليط ضغوط أقوى صريحة لا لبس فيها على حفتر، فإنَّ الولايات المتحدة لابد لها، بالإضافة إلى معارضة التدخل الروسي، من إقناع الإمارات، أقوى حلفاء حفتر العرب، بوقف تدخلها العسكري المباشر والعودة إلى الحوار.
كما أن الأمر الآن يتعلق بتجنب كارثة إنسانية وشيكة وصراع أطول مدى، وكلاهما يمكن أن تستغلهما روسيا، التي ربما تقدم نفسها باعتبارها وسيط قوة جديداً.
وعلى عكس الدعاية التي يروجها داعمو حفتر، فإنَّ انهيار الطوق الدفاعي لحكومة الوفاق حول طرابلس والدفع باتجاه الدخول لمناطق وسط المدينة، بمساعدة حملة وحشية برية روسية وقوة جوية إماراتية، لن تؤدي إلى انتصار سريع. بل على الأرجح سينشأ قتال دموي من بناية إلى بناية، خصوصاً في الأحياء والمناطق التي لطالما عارضت مشروع اللواء حفتر.
أخبرنا المسلحون من بعض تلك المناطق مؤخراً بأنَّهم سيقاتلون حتى الموت. وإذا ما تولى حفتر السلطة، لن تختفي جذور المقاومة في طرابلس الكبرى، بل ستتواصل، وإن كان سيُعاد تشكيلها وتغيير هيئتها، تحت سلطة حفتر الرخوة، وهذه استراتيجية للاستيعاب اتبعها هو نفسه تجاه المجموعات المسلحة في مناطق أخرى من ليبيا.
وأسلوب حفتر في الحكم -الذي يتسم الآن بإذكاء التوترات بين المكونات المختلفة في الجنوب والنهب الاقتصادي والقمع في الشرق- لن يعزز الوحدة التي توجد حاجة ماسة لها، بل ستجبر خصومه على تمردٍ مطول. وقد يمنح هذا الصراع قبلة الحياة من جديد للمجموعات المتطرفة الضعيفة مثل داعش، أو يلهم حدوث طفرة جهادية جديدة من نوعٍ ما مُعارِضة للطاغية الكائن في طرابلس، في تطور مثير للسخرية بالنظر إلى سردية مكافحة الإرهاب التي روَّجها حفتر طويلاً للغرب.