تخلل الصراع المستمر في سوريا منذ قرابة 9 سنوات انتهاكات متكررة لما يُعتبَر "مقبولاً" في الحرب، بما في ذلك الاستخدام العسكري للأسلحة الكيماوية، وتعذيب السجناء، والقصف المتكرر للمستشفيات في مناطق سيطرة المعارضة. وجرى إيلاء اهتمام أقل بنتيجة أخرى للصراع: تجريم النظام للرعاية الصحية.
يوم الأربعاء 4 ديسمبر/كانون الأول، نشرت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان"، وهي مجموعة توثق انهيار نظام الرعاية الصحية، دراسة تؤكد أنَّ الرئيس الأسد نجح على مدار الحرب في جعل تقديم المساعدة الصحية لأعدائه جريمة.
العلاج جريمة
وسواء تعلَّق الأمر بتعقيم جراح مقاتل أو حتى تقديم مسكنات الألم للعيادات في حي تسيطر عليه المعارضة، فإنَّ هذه الأفعال أعمال يُعاقَب عليها بموجب قانون مكافحة الإرهاب الذي أصدرته حكومة الأسد بعد مرور ما يربو على العام بقليل من بدء الصراع في مارس/آذار 2011. وحاكمت محكمةٌ خاصة عشرات الآلاف بموجب هذا القانون، بما في ذلك الكثير من العاملين في المجال الطبي.
وقالت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان في الدراسة: "يُظهِر هذا التقرير كيف جرَّم النظام السوري عملياً توفير الرعاية بلا تمييز للجميع، بصرف النظر عن الانتماء السياسي". وأضافت أنَّ العاملين في المجال الصحي الذين يقدمون الرعاية بما يتسق مع التزاماتهم القانونية والأخلاقية يُصوَّرون باعتبارهم "أعداءً للدولة" في سوريا.
وتعتمد الدراسة على مقابلات مستفيضة مع 21 من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين احتُجِزوا سابقاً وفرّوا من البلاد، بما في ذلك 7 أطباء، و4 صيادلة، و3 متطوعين طبيين، ومسعف واحد، وطبيب نفسي واحد. وكلهم قالوا إنَّهم تعرَّضوا للتعذيب والاستجواب أثناء اعتقالهم، ولم يرغبوا في الكشف عن أسمائهم خشية الانتقام من أسرهم أو منهم في حال عادوا في أي وقت إلى البلاد.
وقالت الدراسة إنَّ غالبيتهم اعتُقِلوا "بسبب وضعياتهم كمُقدِّمين للرعاية الصحية، ومشاركتهم الفعلية أو المُتصوَّرة في تقديم الخدمات الصحية لأفراد المعارضة والمتعاطفين معها".
"أعداء الدولة"
وأجرت صحيفة The New York Times الأمريكية، مقابلات مع ثلاثة منهم قالوا إنَّهم تعرَّضوا للاعتقال والاستجواب لأشهر. وتحدثوا عن زنازين ضيقة جداً لدرجة أنَّ السجناء يتناوبون فترات الراحة. وقال اثنان منهم –صيدلي وجرَّاح- إنَّهما اعتُقِلا في مكاني عملهما.
وقالت دراسة أطباء من أجل حقوق الإنسان إنَّ معظم المعتقلين السابقين تحدثوا عن عملية مماثلة لانتزاع الاعترافات التي يمكن المثول للمحاكمة بسببها بموجب قانون مكافحة الإرهاب. وأضافت: "جرت مراجعة قضايا معظمهم إما عن طريق المحاكم الميدانية العسكرية أو محاكم مكافحة الإرهاب، حيث تُعلَّق عملياً ضمانات إجراءات التقاضي السليمة".
ولم يصدر تعليق فوري من جانب النظام السوري على الدراسة. ودافع نظام الأسد مراراً عن قانون مكافحة الإرهاب باعتباره ضرورة لما يدَّعي الأسد أنَّه نجاحه في استعادة معظم البلاد وإرساء الاستقرار فيها، ويُقدِّر سقوط نصف مليون قتيل ونزوح قرابة نصف عدد السكان في فترة ما قبل الحرب، والبالغ 22 مليون نسمة، من منازلهم.
محاكمات سرية للأطباء والممرضين والصيادلة
قال إبراهيم القاسم، وهو محام سوري اعتاد تمثيل المعتقلين، إنَّ المحاكمات في المحاكم العسكرية تجري بسرية، ويمكن محاكمة المعتقلين في محكمة مكافحة الإرهاب دون محاميهم. وأضاف أنَّ "القضاة في مثل هذه الظروف لديهم القدرة على فعل أي شيء".
بات القاسم الآن هو المدير التنفيذي لمجموعة "ملفات القيصر"، التي تأسست بعدما نشر مصور بالشرطة العسكرية السورية يحمل الاسم الرمزي "قيصر" 55 ألف صورة عام 2014، يُعتَقَد أنَّها تُظهِر أدلة على عمليات تعذيب ممنهجة ومصرع آلاف المعتقلين.
يقول النشطاء الحقوقيون والباحثون القانونيون إنَّ قانون مكافحة الإرهاب بحد ذاته غامض للغاية في ما يتعلَّق بتعريفه للإرهاب لدرجة أنَّ حتى الأعمال السلمية يمكن التعرض للمحاكمة بسببها. ويقولون إنَّ القانون ينتهك أيضاً مبدأً باتفاقيات جنيف يُلزِم الأطباء والعاملون الآخرين بمجال الرعاية الصحية بعلاج الجرحى والمرضى، بصرف النظر عن الجانب الذي ربما يدعمونه.
وقالت مي السعدني، وهي مديرة التحليل القانوني والقضائي بمركز التحرير لسياسات الشرق الأوسط، وهو مجموعة بحثية مقرها واشنطن: "القانون إشكالي. والواقع أنَّ أي شخص يمكن أن يكون إرهابياً بموجب هذا القانون".
استراتيجية استهداف العاملين بالرعاية الصحية
وأضافت أنَّه حين تنتهي الحرب في سوريا، إذا انتهت، فإنَّ الإبقاء على قانونٍ كهذا سيمثل تحدياً كبيراً لإعادة إعمار البلاد. وأردفت: "كيف يمكن أن يبدأ الناس بالعودة إلى دولة يعانون فيها خطر التعرض للمحاكمة؟".
كانت حكومة الأسد رائدة في استهداف العاملين بمجال الرعاية الصحية باعتبار ذلك استراتيجية مُتَّبعة في ساحة القتال، وتجاهل النظام الانتقادات الموجهة لتلك السياسة منذ سنوات. وقالت اللجنة التابعة للأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا، وهي لجنة محققين تجمع الأدلة على انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، في عام 2013 إنَّ قوات النظام تحرم المرضى والجرحى في مناطق سيطرة المعارضة بصورة ممنهجة من تلقي العلاج.
وأضافت اللجنة: "إنَّ استخدام الحرمان من العلاج باعتباره سلاحاً للحرب هو حقيقة بيِّنة ومخيفة في الحرب بسوريا".
تهديد مستمر
وتتبَّع مايكل هوفمان، المتخصص البارز بحقوق الإنسان لدى منظمة أطباء بلا حدود، وهي منظمة طبية خيرية تعمل في مناطق سيطرة المعارضة شمالي سوريا، عملية استهداف العاملين بمجال الرعاية الطبية في مستهل الحرب، حين سعى المتظاهرون السلميون الذين أُصيبوا على يد قوات الأسد الأمنية لتلقي العلاج بالمستشفيات.
وقال هوفمان: "قالت السلطات: (نعم يمكنكم علاج الناس لكن عليكم إبلاغ الشرطة عن المرضى). لم يرغب المرضى في إبلاغ الشرطة عنهم، لذا أقام العاملون في الرعاية الصحية عيادات في المنازل ومستشفيات تحت الأرض. واعتبرت السلطات السورية هذه المستشفيات غير شرعية منذ البداية، ووُجِدَت حلقة مفرغة منذ بدايات الصراع".
وحين سُئِل عن آفاق إعادة بناء نظام الرعاية الصحية السوري، كان هوفمان متشائماً. وقال: "لم ينتهِ مبرر محاكمة العاملين الطبيين. وباتت الهجمات على الرعاية الصحية الأمرَ المعتاد الجديد".
قال ريان قطيش، أحد مؤلفي الدراسة، إنَّ الغالبية العظمى من المعتقلين الذين حاورتهم منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان قالوا إنَّهم لن يعودوا لسوريا في ظل الظروف الحالية. وأضاف: "إنَّ التهديد المستمر ومحاكمة العاملين بمن فيهم العاملون في المجال الطبي عائق كبير أمام العودة. وهم لا يرون أنَّ العمل بحُريِّة وفقاً لمدونة السلوك الخاصة بهم أمر ممكن".